قضايا وآراء

أدلجة الفنون والآداب وتسييس الثقافة: خطايا العصر الكبرى / مصدّق الحبيـب

پول جونسن

 

بوادر أدلجــة الفنون:

باستثناء وصاية الفكر الديني على الانشطة الثقافية في اصقاع مختلفة من هذا العالم ولفترات محددة من التاريخ البشري، لم تقع الفنون والاداب تحت هيمنة النظم الفكرية والسياسية الا في مطلع القرن العشرين ، خاصة حينما تحقق ذلك بشكل سافر تحت سيطرة النظم السياسية التوتاليتارية (الشمولية) التي شملت فاشية ايطاليا ونازية المانيا وشيوعية الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي الاوربي والصين. ولاحقا، عمت في بعض انظمة العالم الثالث الدكتاتورية العديدة ومن بينها نظم البعث الفاشية في العراق وسوريا.  واستنادا لما جاء في كتاب بول جونسن الموسوم "تأريخ جديد للفن" المنشور عام 2003، يمكن الاستدلال بأن  البدايات الاولى للتقارب الرسمي بين الايديولوجية والفن تعود الى حدثين مهمين، وقع كلاهما في مستهل القرن العشرين:

 

• تمثل الحدث الاول بالتغييرات التي حصلت في حقل العمارة من خلال مساهمات المعماريين والمهندسين امثال كروبيوس ولوكوربوزييه وجينرت وميس. ومن خلال تطبيقات طرق المكننة والانتاج الواسع ومبدأ تيلر في الادارة العلمية للمشروعات . وقد كان والتر كروبيوس (1883-1969) في طليعة المساهمين في هذا المجال ، بل كان يعتبر بمثابة الأب الروحي لاتجاه تحميل فن العمارة بمستلزمات آيديولوجية محددة.  وهو الدوغمائي العقائدي الرائد الذي كان معماريا معوّقا اتجه الى التدريس وابدع فيه. وأول مايذكر عنه انه استنبط مايسمى بالمبادئ الخمسة، التي تطلبت من فن العمارة أن :

 

- يستجيب الى الثورة الصناعية ويتبنى طرقها في الكفاءة والتماثل والاتساق النمطي والعقلانية ودراسة الكلفة.

- يولي اهتماما استثنائيا للقيمة الاستعمالية للتشكيل المعماري ويركز على تجسيد الاغراض العملية للتصاميم.

- يراعي امكانات وخصوصيات المكننة الصناعية وذلك بانتهاج مبدأ النظامية التكرارية المتماثلة واستخدام الخطوط المستقيمة والزوايا الحادة والتكعيبية في الانشاء المعماري.

- يأخذ في نظر الاعتبار استخدام المواد الانشائية المعاصرة مثل الحديد والكونكريت والمطاط كبدائل للمواد التقليدية مثل الخشب والطابوق.

-  يحاول جهد الامكان الغاء تشكيلات الديكور التزيينية او تقليلها الى الحدود الدنيا.

 

• أما الحدث الثاني فكان ظهور المدرسة الفنية المستقبلية في ايطاليا على ايدي مارينيتي وبوجيوني وسفريني وبالا، الذين نشروا بيانهم الاول الجرئ عام 1909،  والذي اعلنوا فيه الثورة على الماضي والتقاليد القديمة ومجدوا المستقبل الذي وعدوا به ان يكون منيرا بعنفوان الشباب ومتفجرا بحيويتهم ونشاطهم وجرأتهم واستعدادهم لركوب الاخطار، متخذين من التطور التكنولوجي وسرعة ايقاع العصر والجموح والعنف كرموز لتفوق وانتصار الانسان على الطبيعة والاوضاع التقليدية.  وقد استقبل الشباب الايطالي هذه الفلسفة بحماس كبير مما خلق لها ولاءا وشعبية واسعين خاصة بين حركات الشباب العسكرية والمليشيات والتي من خلالها وجدت المستقبلية طريقها المعبد الى قلب موسوليني الذي كان بدوره قد انفصل آنذاك عن الماركسية واصبح قوميا اشتراكيا ثائرا ومتعصبا. وهكذا انضوت الحركة المستقبلية تحت لواء حركة الرداء الاسود التي كان يقودها موسوليني والتي كانت تدعو الى تغيير اوضاع البلاد بالقوة. فمع حماس وولاء المستقبليين سيطرت حركة موسوليني على الشارع الايطالي بشكل مطلق مما قاد الى استلامها السلطة عام  1922 ، ليبدأ رسميا عصر الثقافة الايديولوجية وتتطور اساليب تسييس الفنون والاداب لما نعرفه اليوم.

 

طبيعة النظم التوتاليتارية والتسييس الثقافي:

يعتبر الفيلسوف الايطالي جيوفاني جنتيل (1875-1944)، الذي استوزره موسوليني للتعليم في الحكومة الفاشية، اول من استخدم مصطلح التوتاليتارية قبل ان يشيع استخدامه من قبل السلطات الفاشية الايطالية باعتباره افضل مايعكس وحدة وشمولية وكفاءة النظام.  يتميز النظام التوتاليتاري بصفة عامة  بسيطرة الدولة وتنظيمها لكل مرافق الحياة العامة والخاصة واشرافها على نشاطات المواطنين المادية والفكرية والشخصية تحت حجة كفاءة النظام الجمعي المبني على ولاء الكل  واخلاصهم والذي تذوب فيه الفردية لصالح خدمة المجموع. المجموع الجماهيري الذي يفترض ان تمثله الدولة ومؤسساتها بأهلية وامانة!!  ولذلك يرى التوتاليتاريون بان الوسيلة الجوهرية والفعالة لتحقيق اهداف النظام هي قيام السلطة السياسية بتعبئة كل الشعب وتحشيد جميع طاقاته وتسخير كل امكاناته لخدمة ودعم فكر وفلسفة تلك السلطة وبرنامجها السياسي وتصفية كل مايقف في طريقها او يعارضها.

 

ويمكن تمييز ملامح النظام التوتاليتاري الاساسية بما يلي:

-  حزب سياسي واحد يقوده ديكتاتور غالبا مايكون متعصبا لآيديولوجيا معينة، قومية اوعنصرية او طائفية او عشائرية او دينية او حزبية.

-  نظام تنفيذي حديدي ارهابي صارم يبتلع الاجهزة التشريعية والقضائية ويعتمد الهيمنة التامة على مؤسسات الجيش والشرطة والامن والعدل وينتهج الاكراه والتخويف والتهديد والعنف مستخدما وحدات البوليس السري والرقابة والاستخبارات لتضييق الخناق على المواطنين وحصر نشاطاتهم وطموحاتهم وتطلعاتهم بالدائرة التي تضمن تحقيق اهداف السلطة وضمان صمودها وبقائها.

- نظام مركزي للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي يضمن السيطرة التامة على وسائل الانتاج المادية والثقافية ويمتلك المبادرة في استخدام وتقنين الموارد الطبيعية والبشرية والعلاقات الخارجية وقضايا الحدود.

-  نظام مركزي نشيط وفعال للدعاية والتعتيم الاعلامي (الپروپاكَاندة) الذي يتولى احتكار وسائل التعليم والاعلام والاتصال ويقوم بزرع الولاء والطاعة والاستكانة ويحرّم الانفتاح والحوار والنقد.  

 

وخلافا لما هو شائع، لم تكن الثقافة الايديولوجية من صنيع الدكتاتوريين والسياسيين المتطرفين انما هي النتاج الشرعي لغيرهم ممن يساهم مساهمة فعالة في شرعنة النظم الدكتاتورية الشمولية وتقويم مناهجها المتطرفة وترسيخ عدوانيتها، واطالة أمد استبدادها واستئثارها بالسلطة. فبالاضافة الى اجهزة النظام الرسمية بكل مستوياتها والتي تقوم بتنفيذ كل ما ترومه السلطة المتنفذة، هناك ثلاث مجموعات متميزة من المهنيين والاختصاصيين الذين يضطلعون عادة بالمهمات الاساسية لخلق وترسيخ الثقافة الايديولوجية ، تحت ضغوط واغراءات السلطة السياسية ، والاستعانة بموارد البلاد ومؤسسات الدولة والمجتمع المسخرة كليا لهذا الغرض بحكم قوانين واعراف الدولة التوتاليتارية ، وهذه المجموعات هي :

 

- البداكَوجيون ( Pedagogues ): وهم مصممو المناهج وواضعو اصول التدريس وكتّاب البيانات والبلاغات الحزبية ومنمقو تقارير المؤتمرات وصائغو الخطب السياسية وصانعو الديباجات ومروجو الشعارات ، والمنظرون المختصون بطرح التحليلات المقنعة واختراع المعاني الجميلة لكل ما ليس له اي معنى! والذين يضفون الشرعية والهيبة على فكر السلطة ويسبغونها بما يدل على العقلانية والاهلية والعدالة . ويتميز افراد هذا الفريق بكفاءتهم المشهودة وتفوقهم العالي، وقد يكونون من المؤمنين فعلا بالفكر الشمولي او ممن تشتريهم السلطة باثمان باهضة، أو على الاغلب ممن تركعهم السلطة تحت نير طغيانها وجبروتها. وهذا هو الفريق الصغير الذي لايتعدى حجمه عددا قليلا من الافراد ، لكنه الفريق الذي يرسي الدعائم الاساسية لفكر السلطة ومنهجها الايديولوجي ويصوغ ويعزز برامجها السياسية، وغالبا مايكون هذا الفريق هلاميا منسحبا الى الوراء ومختفيا وراء بهرجة القائد.

 

- المثقفون والمتعلمون من ادباء وشعراء وفنانين وعلماء وفلاسفة واساتذة ومربين وقادة ومرشدين ومهنيين ممن ينضوون  بخيار او بدونه تحت لواء الحزب والثورة ويعملون من أجل صيانتهما ورفعتهما وتحقيق اهدافهما، وكذلك انصاف وارباع المثقفين والادعياء والمنتفعين والمصفقين وبائعي الضمير. وهذا هو الفريق الاكبر عددا والاوسع انتشارا والاكثر خطورة لكونه قادرا على تعليم واقناع وتطبيع الجماهير والهاب مشاعرها بعواطف الثورة.  وهو الفريق الخبير ايضا في ترويج الاشاعات واطلاق الاتهامات وتسبيب المظالم . فهو اذا الاداة القادرة ،خاصة في الامد البعيد، على تحويل وجهة الوسائل الثقافية والتعليمية باتجاه غسيل الادمغة وتحويل افكار السلطة الى حقائق مطلقة واقحامها الى البيوت وجعلها جزءاً لايتجزء من حيوات الناس. وبالتالي فان هذا الفريق يضطلع بالقسم الاعظم من مهمة تعزيز امبراطورية الخوف وترسيخ ثقافة القطيع . ولاشك فان هذا الفريق هو الظهير العملي لقوات البوليس السري واجهزة القمع المسؤولة مباشرة عن تغييب وتهجير واخضاع وتدجين كل من تبدر منه بادرة التردد في تمجيد النظام. وبموجب ذلك فان هذا الفريق هو المسؤول بشكل غير مباشر عن تدوير وتزييت عجلات النظام التوتاليتاري وتأليه قادته.

 

- السلبيون الذين لاسبيل لهم سوى الانجراف مع التيار الهادر، واولئك المبدعون الذين ينسحبون الى الوراء ويتخذون من الاعتزال والاختفاء والهجرة الى الخارج حلولا فردية للكارثة التي تحيق بالبلاد. وبهذا الفريق تكتمل دائرة الذنب الجمعي التي تضع الجميع قاطبةً في دائرة المسؤولية، الامر الذي لايمكن لنا ان نتجاهله او نغض الطرف عنه مهما اختلقنا من أعذار وتبريرات.  وفي ظل هذا التواطؤ الشعبي الشامل بالخيار والاجبار، ينفسح المجال رحبا وينفتح السبيل فارها معبدا امام العصابات المريضة المتعطشة للسلطة التي يحلو لها ان تفعل ماتشاء . وبهذا يحرص الثوار التوتاليتاريون على ترسيخ وجودهم وتشديد قبضتهم على زمام الامور وارساء دعائم مايسمونه بالثورة الثقافية الجديدة التي تتلخص بفرض النمط الثقافي المستند الى آيديولوجياتها الفردية المعتمدة على الغاء وتصفية كافة الانماط الثقافية الاخرى والتي غالبا ما ُتتهم بالخيانة والعمالة والارتداد وأعاقة تقدم الثورة.

 

ومن الاجراءات التقليدية بهذا الصدد هو ان تقوم السلطة بـ:

• تأميم او ضم كل او اغلب المؤسسات الفنية والادبية الى القطاع العام بشكل فوري او تدريجي.  واحتكار تمويلها وادارتها والاشراف على صياغة توجهاتها وبرمجة نشاطاتها، الامر الذي يلغي الفرص الثقافية المختلفة ويجفف منابع التمويل الاخرى ويسهم بالتالي في تحويل قسم كبير من الفنانين والادباء الى توابع ومستفيدين ومرتزقة ، ويدفع القسم الاخر منهم الى الهروب، فيما يلقى القسم المعارض جزاءه بالاهمال والنفي، او السجن والتعذيب والتصفية.

 

• التشديد في بياناتها وتقارير مؤتمراتها الحزبية والرسمية وخطب قادتها بأن الثقافة، وخاصة بشقيها الفني والادبي ، عبارة عن سلاح ماض لحماية آيديولوجية الثورة وصيانة مكاسبها الجماهيرية ومحاربة اعدائها في الداخل والخارج الذين يتربصون باي فرصة لاجهاضها.

 

• التركيز على تاسيس الاتحادات والنقابات الثقافية المرتبطة بالنظام وتسليم قياداتها للافراد الذين يفتقرون الى الموهبة ويتميزون بالولاء والطاعة العمياء، وحصر النشاطات والامتيازات بالعضوية التي تتحول تدريجيا الى مايشبه  صك الغفران، الامر الذي سيؤدي لامحالة الى تهميش وتحجيم بقية التجمعات والحركات والنوادي الثقافية الاخرى ووصمها بالانشقاق عن خط الثورة من اجل التهيئة للاجهاز عليها واازالتها نهائيا من الوسط الثقافي. وهكذا فان الالزامية غير المباشرة للعضوية ستتسبب باقران الاهلية الفنية بالانتماء الحزبي ، الامر الذي يجعل كفاءات  ومواهب المبدعين مرهونة بتبعيتهم السياسية، ويحول سجلات العضوية وفعاليات الاشتراك في النشاطات الى ادوات للرقابة والاستخبارات والسيطرة من اجل ترسيم خريطة الولاء للسلطة. وفي مرحلة متقدمة عندما يتم ضمان ولاء كل المثقفين ستنتفي الحاجة الى الابداع والمنافسة ويتحول المبدعون الى آلات تدور لتنتج مايرغب فيه النظام ممايمجد الحزب والثورة، وما يؤله القائد.  وفي هذه المرحلة سينتهي النقد والتقييم لان ليس من مصلحة السلطة ان يساهم الناس في تقييم الامور وتحليلها ومقارنتها. وهو هدف تسعى عادة السلطة الى تحقيقه.

 

في خطاب لجوزيف كوبلز وزير الاعلام النازي القاه في عام 1936 قال:

" بسبب فشل النقد الفني في الاتيان بأي قيمة جديدة خلال هذه السنة، فإننا سنمنع منعا باتا ممارسة كل صنوف النقد الفني وكل ماينتجه النقاد الذين ينصبون انفسهم حكاما على مستويات ونوعيات الفنون. واعتبارا من تأريخ اليوم سيخضع كل ما يكتبه النقاد الى رقابة مشددة من قبل محرري الزوايا الثقافية الذين من واجبهم ان يتأكدوا بان كل مايكتب عن الفن يجب ان لايتعدى كونه تقاريرا وصفية لاتحمل اي رأي او تقييم او مناقشة او تحليل او تشكيك".

وبعد يومين من اطلاق هذا التصريح، انبرى بوق النظام بوباختير لتنميق وتوضيح ماصرح به كوبلز، قائلا:

" ان المعيار الوحيد المقبول لتقييم الفنون هو مدى انطباق وتماشي تلك الفنون مع المفهوم الاشتراكي القومي لثقافتنا. وليس لأي احد الحق في تغيير أ وتحوير هذا المعيار غير سلطة الحزب ومؤسسات الدولة".

 

ولاشك فإن مثل هذه الانظمة تؤمن بمنهج الهيمنة وتبرره كوسيلة فعالة لبلوغ غاياتها ، مستندة في ذلك الى فلسفة قوامها:

 

- الادعاء بان آيديولوجية الثورة تستند الى القاعدة التاريخية وموروث الشعب الثقافي ، وتتمخض عن صلب الحقائق والحجج المطلقة الدالة على اصالتها وخدمتها للشعب، الامر الذي يسمح لثقافة الثورة باعادة تقييم التاريخ وصنع حقائق ذاتية جديدة بدلا من الاستناد الى الحقائق الموضوعية المتوفرة. وهكذا يعاد اطلاق الاحكام على الاحداث والنتاجات الثقافية ومنتجيها، ويتقرر من جديد معنى الابداع ويتعرف ماهو جيد وماهو ردئ وفق حقائق الثورةالمصطنعة.

 

- الايمان القاطع بان قادة الحزب والثورة هم الممثلون الشرعيون الوحيدون المؤهلون لقيادة المجتمع من دون الحاجة الى استفتاء لآراء الشعب ومعرفة ميوله،  ناهيك عن عدم الحاجة الى السماح له بالانتخاب!  ومن هنا تنشأ،  ليس فقط ظاهرة الحزب الواحد،  بل سرعان ماتتطور الى معضلة القائد الاوحد الذي  يحوّل بدوره الحزب ومؤسسات الدولة ومرافقها الى ادوات لتنفيذ مايراه مناسبا.  وسواء كان مايراه القائد معقولا او عمليا ام لا، فإنه لايلقى الا المصادقة المطلقة من قبل رفاق الحزب وكبار مسؤولي الدولة وعموم الشعب حتى يصبح كل ماينطق به القائد كتابا مُنزّلا. وهكذا فمثلما يرشد الفنار السفن الضالة في عتمة البحار ، فان حب القائد والتفاني من اجله وتأليهه تصبح بمثابة الفنارات المنيرة في دروب الثقافة التي ترشد الفنانين والادباء وكل من يؤثر في المجتمع،  الى بر الامان المتمثل بشاطئ آيديولوجية الثورة الجديدة. ومن هنا يتم تحويل كل ما ينطق به القائد الى كتب منزّلة ، وينهال الشعراء بقصائدهم والفنانون بلوحاتهم وجدارياتهم والروائيون بقصصهم والمسرحيون بمسرحياتهم والموسيقيون باغانيهم ومعزوفاتهم التي تقف كلها خاشعة لتمجيد عظمة القائد وحزبه وثورته وعطائاتها التي لاتنضب.

 

- الايمان العميق بضرورة شمول كافة افراد الشعب وقطاعاته بفكر الثورة، والتظاهر بعدم الاكتراث لوجود الاختلاف بين الناس او التعمد في الغاء الاختلافات ومعاملة جميع الناس كتوابع، الامر الذي يتجسد في شعار "من ليس منا فهو ضدنا" الذي يعمل بسرعة وفعالية على استقطاب المواطنين الى فريقين ، الفريق المستفيد الذي يضم المنتمي والموالي والمتعاون والصديق ، والفريق الخاسر الذي تتوجب تصفيته.  في ظل هذا الظرف يصبح التشبث بالسلطة ومحاولة الاحتفاظ بها باي ثمن هو الهدف الذي يستلزم ضمان الجميع وتأمين جوانبهم كاحدى الوسائل الكفيلة ببلوغ ذلك الهدف.

 

التجربة الثقافية في الانظمة التوتاليتارية:

النمــوذج الفاشــي:

من الايام الاولى لاستلام موسوليني السلطة في ايطاليا، تبوأ مثقفو المستقبلية مناصب الصدارة وتربعوا على العرش الثقافي فأخذت نتاجات الرسامين والنحاتين والمعماريين تزين قصور الحكم ومؤسساته. وشرعوا مع الكتاب والشعراء والصحفيين في التخطيط الشامل لوضع خارطة الثقافة الفاشية الجديدة الشاملة. ولكن التحاما مع فكر موسوليني، بل ذوبانا فيه، تخلى المستقبليون عن فلسفتهم الجوهرية في تجديد الشباب الثائر والتجأوا الى اعتناق  الماضي وتمجيد التراث الروماني التليد كرمز لقوة الجذر وعراقة الأصل، وكمنطلق لجعل روما المنافس الاكبر لباريس في الجمال والذوق والاناقة مع التركيز على الفارق الكبير الا وهو التوجه الآيديولوجي الموحد الذي يفتقر اليه الابداع الفرنسي!!  وعملا باتجاه تحقيق اهداف الفاشية بانعاش الثقافة السياسية، اصبحت جميع الموارد والقنوات الفنية والادبية تخضع لادارة مباشرة وتفصيلية من قبل الاجهزة الحكومية مما ساعد على انفجار عدد المشاريع الثقافية المدعومة من قبل الدولة وازداد الانفاق فيها ليصل الى الحد الذي شرع فيه قانون ال2%، القاضي بتخصيص ميزانية بهذه النسبة للمصروفات على التماثيل واللوحات الفنية واقتطاعها من الميزانيات الكلية المخصصة لكل مشروع من المشروعات العامة. وفي هذا الجو الناشط ثقافيا والمحمل بشحنة سياسية عالية، نضجت الارضية الملائمة لنشوء وتطور المفاهيم التي تبنتها الانظمة التوتاليتارية اللاحقة مثل "الفن كسلاح في المعركة" و"الفن كوسيلة لتثقيف الجماهير بروح الحزب والثورة"، و"لا ثقافة خارج السلطة او ضدها". وكان  موسوليني قد عبر عن ذلك في احدى خطبه قائلا:

 

" على الحقل الثقافي ان ينهض بمهمات تجسيد التلاحم الجمالي والروحي بين الحكومة والشعب.  فالشعب الذي لايلتحم بحكومته ليس بشعب، انما مجاميع من الغوغاء! ولذلك فإن الاتحادات والنقابات الفنية والادبية المسجلة لدى الدولة هي السبيل الوحيد لبلوغ ذلك التلاحم. ولهذا السبب فإننا لن نسمح مطلقا لاي تجمع فني اوأدبي أن ينشط خارج اطار الدولة او يعمل ضدها" (Missoroli &Agristi 38).

 

ومن هنا ايضا بدأت هيمنة النقابات والاتحادات المهنية المرتبطة بالحكومة واحتكارها للنشاط الثقافي، وظهرت مشاريع مثل معارض الحزب والمهرجانات الشعرية والمنتديات الادبية القومية التي تدار بشكل حزبي من قبل تلك المؤسسات النقابية، فكان على سبيل المثال التنظيم الحديدي الدقيق للمعارض الفنية في عموم ايطاليا متمثلا بعقد بينالة فينيسيا وترينالة ميلانو وكوادرينالة روما.   لكن هذا الانتعاش الثقافي الكبير لم يدم طويلا، بل بدأ يخفت شيئا فشيئا بتأثير انزلاق موسوليني  في عالم النازية وارتباطه مع هتلر في "حلف الدم والحديد" . وهذا مايثبت بان تركيب وصفة الثقافة السياسية لابد ان يتغير باتجاه زيادة المكونات السياسية وتقليل المكونات الثقافية ، خاصة عندما يبدأ النظام بالتخبط في المزيد من الازمات والحروب! ويستمر التغيير الى ان تنفذ المكونات الثقافية تماما فلاتبقى إلا الشعارات السياسية الفارغة.  وماقاله موسوليني آنذاك يعبر خير تعبير عن تغيير الاولويات، والهوس حول الانتصار على الاعداء، حيث جاء في احدى خطبه ايام افتتانه بالحلف النازي مايلي :

 

" أود ان أرى اعلام اعدائنا المنكسرين منكسة في قاعات متاحفنا الايطالية اكثر من التماثيل واللوحات الفنية والتحف التي نعتز بها" (Smith 73 ).

 

وهنا، وكمقارنة سريعة مع تجربتنا المريرة في العراق ، هل يمكن للمرء العاقل ان يتجاهل تطابق هذا الفكر مع الفكر الذي دفع الى انتاج اكبر عمل فني في تاريخ العراق المخصص لعرض خوذ جنود العدو الحقيقية المجمعة من سوح المعارك والتي تبعثرت في نصب قوس النصر تحت السيفين العربيين الصداميين الممشوقين بنسختين حرفيتين من ذراعي القا ئد المغوار؟!!!

 

النمــوذج النــازي:

انتهج الحكم النازي في المانيا نهجا مشابها لما انتهجته الفاشية الايطالية في تسييس الثقافة، لكن المنهج النازي تفوق على نظيره الفاشي في ادلجته الثقافة بدرجات اعلى من التعصب القومي ومديات اشد من العنصرية.  ومثلما كان موسوليني قريبا من الوسط الثقافي كصحفي وروائي سابق، اعتبر هتلر نفسه فنانا مبدعا، حتى قيل ان الفن شغل حيزا كبيرا من تفكيره وطاقته للدرجة التي اصبح فيها يمثل الهوس الثاني بعد هوسه القومي العنصري. ولهذا كانت سياسته واضحة في حصر الفنون والثقافة بما يتعلق بتقليد وتراث العنصر الالماني واعتبار كل مااختلف عن ذلك باطلا.  تبدّت اول محاولة  لتنفيذ هذه السياسة بشكل صريح ومباشر عندما أمر وزير التعليم فون ثرنكن فرك عام 1930 بازالة سبعين لوحة من صالات متحف فايمر،  مصرحا بانه ليس هناك مكان في ثقافة المانيا الجديدة لفنون وتقاليد الشعوب الملونة ذات المراتب الدنيا في الحضارة الانسانية. وعلى اثر ذلك تمت ازالة  1600 عمل فني آخر ، كما تم طرد عددمن مدراء المتاحف بتهمة تعاطفهم مع ماوصف بانه دخيل على النقاء الالماني.  وكان من ضمن الفنانين المشمولين باللعنة بعض الانطباعيين الالمان ، الامر الذي سرعان ما تحول  الى حظر شامل للانطباعية الالمانية التي وصفت بانها فن التفسخ والفساد! وكان من اكثر المتحمسين لترسيخ هذا الاتجاه  منظّر الفن المعروف ألفريد روزنبرغ الذي قاد التوجهات الثقافية في المانيا ابتداءا من 1927، والذي حظي باحترام وتقدير هتلر الذي كان نفسه يعتبر التكعيبية والدادائية نماذج لتفسخ الفن وانحلاله.  ومن الشخصيات الثقافية المعروفة الاخرى التي ساهمت مساهمة فعالة في نشر الافكار النازية المتعصبة، الخبير في العمارة والفن بول شولتز نورمبرغ الذي نشر كتبا ذاع صيتها مثل "الفن والأصل العرقي، 1928"،  و "وجه البيت الالماني، 1929"،  اللذين شن فيهما هجوما شنيعا على الحداثة في العمارة والفن.  ولابد من ذكر ريتشارد ديريس الذي عمم مذهب "الدم والتراب" كدعامة اساسية للفلسفة النازية في الثقافة.

في معرض تعليقه على ضرورة تغيير الحياة الثقافية الالمانية بما ينسجم مع السياسة النازية قال هتلر في خطاب له القاه عام 1933:

"في الوقت الذي نقوم فيه بتنقية حياتنا من شرور الماضي وما تعلق به من شوائب، ستقوم حكومتكم المظفرة، حكومة الرايخ الثالث بالتطهير الاخلاقي والمعنوي الشامل لكل الوسائل والقنوات الثقافية المتاحة للأمة الالمانية من آداب وفنون ومسرح وسينما وصحافة، وتنزع عنها جلدها المتهرئ فتجعلها تعبر بصدق عن الواقع الالماني النقي والاصيل" (Baynes, 42).

 

النمـوذج الشيوعــي:

لم يظهر التسييس الشمولي للثقافة السوفيتية بشكله السافر الا مع بدء المرحلة الستالينية، وعلى وجه الخصوص في عام 1932 عندما اصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي المشروع الشامل لاعادة بناء المؤسسات الثقافية والذي استلزم حل جميع المؤسسات والجمعيات والتجمعات والنوادي الثقافية القائمة آنذاك واخضاع جميع النشاطات الثقافية الى سلطة مركزية تمثلت بكيانات الاتحادات المهنية الفيدرالية للفنانين وللادباء والتي اخذت على عاتقها تعميم مفهوم الواقعية الاشتراكية في الثقافة بدلا من الكلاسيكية البروليتارية.  واستنادا الى ماجاء في كتاب ايكور كولمستاك "الفن التوتاليتاري" المنشور عام 1990، فان مفهوم الواقعية الاشتراكية كان قد تمخض عن الاجتماع السري الذي انعقد بين ستالين وعدد من الفنانين والادباء في بيت مكسيم غوركي بتاريخ 26 اوكتوبر عام 1932. وكانت قوات الحرس الخاص قد استدعت ليلا ذلك النفر المختار من المثقفين ونقلتهم الى بيت غوركي دون ان يعلم احد اي شئ مسبق عن مكان الاجتماع ومن يحضره ومالغرض منه. وقد تفاجأ الحضور بظهور ستالين وترؤسه الاجتماع معلنا بان الغرض من ذلك اللقاء هو الاستئناس برأي المثقفين من اجل تحديد الاتجاه الاساسي الذي يريده الحزب للثقافة السوفيتية الجديدة.  وبذلك فقد وضعت الصيغة الاولى لمنهج الواقعية الاشتراكية في الاداب والفنون اثناء ذلك الاجتماع . الا ان مفهوم الواقعية الاشتراكية بقي غامضا للجميع لفترة سنتين بعد استنباطه، ولم يجرؤ احد على الاستفسار عن معناه الحقيقي او كيف يتسنى للمثقف ان يقدم انتاجه حسب هذا المفهوم. واخيرا انبرى اندريه جدانوف المستشار الثقافي للنظام الى القاء الضوء على معنى الواقعية الاشتراكية مستعينا بتعاليم وملاحظات ستالين الشخصية . كان ذلك في الاجتماع الموحد الاول لاتحادات ادباء الجمهوريات السوفيتية المنعقد عام 1934.  وقد جاء في تعريف جدانوف بان "الواقعية الاشتراكية تتمثل اولا بمعرفة الفنان او الاديب لمحيطه واستعداده لتجسيد ذلك الواقع ،  ليس بالشكل المدرسي الجامد، وليس كحقيقة موضوعية مجردة، انما تجسيدا للحياة الحقيقية بطورها الثوري الخلاق الذي يتزاوج فيه التراث الاصيل مع مهمات الثورة الاشتراكية العظيمة، بحيث يكون الهدف هو تعليم الجماهير وتثقيفها بروح الطبقة العاملة الكادحة وتنويرها من سناء النظام الشيوعي الخالد"( Golomstock, 90 ).  وهكذا فقد اصبح الهدف المركزي للآيديولوجيا الشمولية في الثقافة هو الزام الفنان او الاديب بان ينظر الى الواقع الذي يصوره بعين الحزب من اجل تجسيد الصيغة الثورية لذلك الواقع، الامر الذي لايمكن وصفه إلا بكونه احادي المنظور!! ولكن هذه الميزة لم تكن بعيب في ظل الفلسفة التوتاليتارية اذ ان جدانوف كان قد قال بصراحة:

 

"في ظل صراع الطبقات التي تحسمه الثورة لصالح الطبقة البروليتارية ، لابد ان تكون فنوننا وآدابنا منحازة ولايمكن لها ان تكون غير سياسية".

 

 وهذا ماردده ايضا هانز شم وزير الثقافة الاول في الحكومة النازية حين قال:

"عند الكلام عن ثقافتنا، لايمكن لنا ان نكون موضوعيين، لاننا ألمان الى العظم"!!.

وهكذا تركزت الثقافة الآيديولوجية الواحدة الموجهة التي لايقوى ان ينتقدها او يهملها او يعارضها اي احد. بل اصبحت لزاما على الجميع. ومن يجرؤ ان يختلف، فإنه سيخسر صراع البقاء لامحالة! . وكانت اول حملة للتصفية الجسدية للفنانين والادباء غير المرغوب فيهم  تلك التي شنها الكساندر كيرامسوف عام 1938من داخل اتحاد الفنانين ضد مجموعة ضمت عددا من اعضاء الاتحاد الرسميين اضافة الى عدد آخر من غير المنظمين الى الاتحاد. وكان كيرامسوف، العضو المتنفذ في الاتحاد،  قد صرح علنا ودون اي تردد بانه لابد من التخلص من العناصر المجرمة التي تتحرك في الوسط الفني من امثال اعداء الشعب وعملاء الفاشية ، جلاوزة تروتسكي وبخارين وكترسنايبس . وقد تلتها حملات اقسى واشمل واكثر تنظيما راح ضحيتها العديد من المثقفين كما حدث عامي 1940 و  1953، ومابعدهما.

 

اما التجربة الصينية فقد كانت النموذج الجلي لعرض شخصية وسلوك النظام التوتاليتاري البحت وتجسيد ممارساته القسرية.  يقول كولمستاك:

 

"ليس هناك تجربة سياسية في العالم المعاصر تتضح فيها الخطوط الفاصلة بين القديم والجديد، التقدمي والرجعي، والثوري والمضاد للثورة مثلما تظهر بوضوح تام في ملامح تجربة الصين الشعبية".

 

وقد كانت بساطة وبؤس اغلبية الشعب الصيني قد ساعدت على ان تؤخذ السياسة الفولاذية الوحشية للنظام الصيني وكل ما تفوه به الرئيس ماو مأخذا جديا وحرفيا وكانها الحجج المطلقة المنزلة من السماء، الامر الذي حطم كبرياء الشخصية الصينية وقلل من قيمتها لحد الاذلال. والتاريخ يذكر جنون الثورة الثقافية الصينية التي امتدت عشر سنوات من 1966 الى 1976 والتي راح ضحيتها الملايين من المواطنين . وبها، وصم الماويون وصمة عار كبيرة في جبين المواطنة الصينية عندما قرروا رسميا ان ينقشوا باسفين النار والحديد تعاليم الرئيس ماو ويطبعونها في ذهن وضمير كل مواطن بالقسر والاكراه . وهكذا عمم جلاوزة السلطة على الشعب بان من واجب كل فرد ان يقتني ويحفظ ويحمل في اي وقت واي مكان الكتاب الاحمر، وهو كتاب الجيب الصغير الذي احتوى على التعاليم . وكان من مهام الحرس الاحمر الذي تشكل اغلبه من الطلاب المراهقين المندفعين بطيش الشباب ان يوقف اي فرد في اي وقت ومكان ويساله فيما اذا كان يحمل الكتاب اويعرف شيئا عن محتوياته،  تماما مثلما توقف شرطة المرور السائقين المخالفين وتطلب منهم ابراز اجازاتهم  ووثائق تسجيل سياراتهم! ولكن عقوبة نسيان الكتاب الاحمر او التلكؤ في ترديد بعض مقاطعه  لم تكن بغرامة مرور عابرة،  انما تضمنت عقوبة الجلد المبرح وشحن المخالفين، حتى المسنّين منهم،  الى سجون الاشغال الشاقة التي لاتطيقها حتى الحيوانات . وبأستثناء تلك الثورة الثقافية التي اخذت منحى صينيا متطرفا ، فإن عموم التجربة الصينية لم تكن الا تجربة منسوخة عن التجربة السوفيتية الى الحد الذي لم تكن فيه خطب وتصريحات الرفيق ماو الا ترديدا وصدى لما قاله القادة السوفيت . وفي المجال الثقافي الذي يشمل نشاطات الفن والادب فان السياسة المتبعة كانت هي الاخرى من وحي ماجرى في المنهج الستاليني مثل تفعيل الفن والادب كاسلحة في معركة الطبقات ،واطلاق اصطلاح "جبهة القلم والفرشاة" التي تقاتل جنبا الى جنب مع "جبهة البندقية"،  وحصر وتوحيد المحتوى الفني بتجربة الحزب والثورة رغم اختلاف الشكل المعبر عنه، والغاء استقلالية وفردية الثقافة وربطها ارتباطا لاينفصم عن السياسة والمصلحة العامة.

 

النمــوذج البعثـــي:

فاقت تجربة البعث في العراق كل الدكتاتوريات والانظمة التوتاليتارية التي سبقتها. وذلك حين استعارت كل ماهو سيء من الفاشية والنازية والشيوعية لتصوغ نظاما ارهابيا وحشيا لم يكتف فقط بتصفية المعارضة السياسية والاستئثار برسم الستراتيجية الوطنية والانفراد باتخاذ القرارات المصيرية في الاقتصاد والعلاقات الخارجية والتعليم والثقافة ، انما عمل بشكل مهووس لتبعيث كل مرافق الحياة وأسرها في سجون فكره الضيق المتخلف الذي لم يحو الا على الجانب المبتذل القبيح من الذهنية العشائرية الممزوجة بالطائفية المقيتة والذي قادته شراذم من المتهورين واللصوص والزناة وابناء الشوارع.  ومن اجل تأسيس وترسيخ سلطته المطلقة ، لجأ النظام مغرورا الى اغراق البلاد بالدماء وتبذير ثرواتها واذلال شعبها وزجها في حروب عدوانية خاسرة دفعت الى محارقها مليونين، والى منافيها خمسة ملايين مواطن، وذلك خلال اربعة عقود من حكم الظلم والجور والبطش والتي تتوج العقدان الاخيران منها بالحروب الطاحنة المتوالية والهزائم التاريخية الكبرى التي اعادت البلاد الى العصر الحجري.

وبين بطش السياسة الداخلية والحروب والحصار الاقتصادي الذي نجم عنها ، سُحِقت الملايين الاخرى من المواطنين في ابشع حالة من الفقر والحرمان والهوان وتراجع القيم وتردي الاخلاق، مما هيأ الارضية المناسبة لاحتلال البلاد وانزلاقها في درك  الجريمة والارهاب وشيوع التخلف والجهل وانتعاش التعصب والطائفية واستشراس النهب والفساد للحد الذي وضع العراق في قمة البلدان الخارجة عن القانون والمدنية.

 

أما قائد وملهم تلك !!"المسيرة المباركة نحو المجد"!! ، المأساة الكبرى بخرابها الاعظم فقد كان !!"بطل عروبتنا وحامي شرفنا وعمود خيمتنا، قائد الحزب والثورة، الاب الحنون الشجاع"!!  الذي جمع صفات الدووچ ( IL Duce) الفاشي، والقائد الاوحد النازي( Der Fuhrer ) والرفيق السوفيتي المناضل ( Comrade ) والرئيس الصيني المعبود المفدى ( Chairman ). وكان قد اضاف الى هذه الوصفة بعض المتبّلات الاسلامية التاريخية ، وذلك بالاقتداء ببطش وصلف وخسة ودناءة الحجاج بن يوسف الثقفي !!"امير المؤمنين" !! واستهتاره واستهانته بالشعب. كما اضاف الى هذا المزيج بعضا من انتهازية ولااخلاقية وعهر المغيرة بن شعبة.  وعند اكتمال هذا المزيج السحري،  بدأ "قائدنا" بمنافسة الله عز وجل على اسمائه الحسنى! بل ربما قد تفوق عليه!! فلم ينعت احد الله من قبل بأنه رب الضرورة، لكن "سيدنا المقدس" اصبح "القائد الضرورة" الذي تحف به البركات وتحرسه قصائد الشعراء.

 

ومنذ سقوط نظام البعث في نيسان 2003 ووقوع البلاد تحت نير الاحتلال واحتراقها في الارهاب والمحاصصات السياسية والتعصب الديني والطائفية والنهب والفساد، تراجع وتهمش مابقي من الجانب الثقافي بشكل لم يسبق له مثيل! فباستثناء نعمة الانترنت وبعض بقايا الصحافة التي تعمل بمثابة المتنفس الوحيد للنشاط الثقافي، (والفخر والعزة والشكر والحمد الى حقيقة ان اغلب، ان لم يكن جميع، المنافذ الثقافية تنطلق من خارج العراق)، فان الحياة الثقافية بعموميتها وعمقها تكاد تكون معدومة في عراق اليوم، مما يعد بانه ابلغ الكوارث التي رافقت (الغزو والسقوط والتحرير والديمقراطية). وهي كارثة العصور اذا ما اعتبرنا الكم الهائل من المثقفين والمبدعين العراقيين وتحمسهم الوطني واندفاعهم للبناء، واذا مااعتبرنا مايفترض ان يكون قد حل من مناخات حقيقية للحرية والديمقراطية والتقدم والازدهار!!!

ولسنا بحاجة الى براهين حين نجزم بأن الثقافة الوطنية الحقة، الحرة المستقلة المتنورة لايمكن لها ان تصمد في ظروف الذبح والاختطاف والتفخيخ، وتتنافس مع النهب والفساد الذي اصبح صورة التوأم مع القتل العشوائي المجاني كصورة للعراق في الخارج. ولايمكن لتلك الثقافة ان تنمو اصلا في مناخ المد الديني الطائفي المتخلف الجارف. ان الارض المناسبة لتعافي الثقافة وازدهار الفنون والاداب هي ارض الواقع المدني المستقل الذي ينظمه دستورعلماني شعبي ليس لسلطة الاديان والطوائف والعشائر والاحزاب والمناطق والعوائل اي مكان فيه. ومثل هذا الدستور هو الخطوة العريضة الاولى على طريق مستقبل الثقافة المزدهر الذي يرتبط ارتباطا عضويا لاينفصم مع مستقبل تحقيق العلمانية. وها نحن نتراجع ونلتف بخروقات كبرى حتى على تلك الصيغة العرجاء من الدستور التي صادق عليها الشعب المنكوب وجرى تحت التهديد بالذبح والتقطيع لينتخب ممثليه الذين توسم فيهم الخلاص..... وياله من خلاص.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1531 الخميس 30/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم