قضايا وآراء

رافد بن البحر والدر في عمقه / شوكت الربيعي

 وبعد أيها الانسان الرائع رافد . كنت أتمنى أن أكتب لك منذ سنين ما كان يجول في خاطري من لهف الكتابة اليكم . والحمد للله الذي وهبنا هذه الفرصة للتعبير عن مكنونات صدورنا وعن علو مقامكم عندنا . وكنت أتمنى ذلك عندما كنا في صنعاء وفي داركم الرحيب بأهله..  وكنت دائما أستذكر تلك  الليلة الأخيرة من مكوثي في صنعاء، التي فاض فيها كرمكم وكرم  والدكم الصديق الأعز الأنقى،، حيث  نصب  أ.د.عبد الرضا علي،  خيمة كرمه. فأقام دعوة عشاء، ضمت: د. عناد غزوان، د. صبيح التميمي، د. قاسم حسين صالح، د. عبد الصاحب مهدي، د. علي العلاق. وكم كان بودي أن يحضر معنا هذه الدعوة د. عدنان شاكر الغربي الذي ذكرني بأجمل السنوات التي قضيناها معاً في ثانوية العمارة سنة 1965 مع نخبة من مربّين أجلاء: فيليب مدير الثانوية ودانيال مدرس الرياضيات ومحمد بشير ومحمد عباس ومحمد السبع وخضر الحكيم وحسين الجامع وزاهد العزي وياسين العزي ومحمد الحواف وخزعل عبد الكريم الذي أصبح في ما بعد مديراً للمتوسطة المركزية.). وكان وفاء منك أن تتحدث عني بهذا اللطف عندما حللت أرض اليمن في زيارتي الأولى عام 1994 بدعوة من وزارة السياحة وجامعة صنعاء لاقامة معرض شخصي والقاء محاضرا في كلية العلوم في قسم الصحافة والتي عدت اليها في العام 1996 استاذا زائرا لمدة ثلاثة أشهر . وهنا توطدت العلاقة بيننا ورسمت لوحتين لشخص الوالد الاستاذ الكبير العلامة الدكتور عبد الرضا علي حفظه الباري تعالى وأمده بالصحة والعافية. والذي نتمنى أن سنلتقيه في مسقط قريبا بعونه تعالى. مع صديقه الوفي الدكتور سعيد الزبيدي رئيس قسم اللغة العربية في جامعة نزوى، في سلطنة عمان المزدهرة. وفي الثلاثين يوماً من بقائي في صنعاء، (وقد ابتدأتها بشهر رمضان الكريم عليّ وعليكم وعلى الأيام اللاحقة التي مرت بنا)، شعرت خلالها بشيء من الهدوء النفسي، تعرفت فيها أيضاً الى الأخوة عبد الله عبد الرحمن بكير، رئيس تحرير جريدة الجماهير، ود. بلقيس الحضراني التي نشرت لي مقالاً بعنوان " كيف نحقق الوطنية أو القومية في الفن ؟ " في جريدة الجماهير، يوم الاثنين 11 رمضان، الموافق 12/2/1994.. وتعرفت الى د. عبد العزيز السقاف رئيس تحرير "اليمن تايمز" والصحفيين العاملين معه، سميرة بن دابير وإسماعيل الجابري وجيروم برنارد الذي نشر عن المعرض باللغة الفرنسية، إضافة الى ما نشره سعد صلاح خالص، وهو ابن الكاتب المفكر ورئيس تحرير مجلة الثقافة في العراق. وأسعدني التعرف برؤساء تحرير وصحفيي جرائد، الثورة، الرأي، سبتمبر، وجريدة المستقبل، إذ تعرفت الى "علي المقري" وإبراهيم العشماوي "ابن النيل"، وأخوة كثر من العاملين في الصحف والمجلات الصادرة آنذاك في اليمن..

زرت وزارة الثقافة والسياحة لتقديم الشكر على دعوتها لإقامة معرضي، فالتقيت الوكيل الأخ، هشام بن علي، والوكيل الأخ، شوقي شايف، الذي سألته أن يحقق رغبتي بزيارة المدن التاريخية في اليمن. فوافق. وانشغل الأخ يحيى جحزر، من العلاقات العامة، بتنظيم منهج الزيارة ولكن ظروفاً طارئة، حالت دون ذلك.

 وأتذكر جيدا عندما تحدثت عن زيارتك لمعرضي الذي اقيم في المركز الوطني للفن الحديث بادارة الفنان اليماني الكبير فؤاد الفتيح. وكنت أنت أيها الانسان الرائع، تعمل مهندسا مسؤولا عن اعادة تنفيذ شكبة مياه المدينة القديمة في صنعاء. اتذكر ان ممثلا لليونسكو حضر يوم البدء بتنفيذ المشروع ليحدد لي على خارطة معه، بيوتا معينة ذكر لي بان هذه البيوت هي في عداد التراث الانساني وبانها محمية من الامم المتحدة ، و تجنبت الحفر بالمعدات الثقيلة بالقرب من اساساتها، يومها اشار الى بيت (الحنبصة) وهو بيت شاخص معروف مبني منذ اكثر من 600 سنة، كان الى جوار هذا البيت الراثي يقع المركز الثقافي الالماني حيث اقمت معرضك الشخصي في صنعاء، تذكرت حينها تلك الايام الجميلة التي جمعتنا بك.تذكرت معرضك الشخصي الذي حضره المئات من عشاق الفن التشكيلي من يمنيين وعرب واجانب.)..  وكم كنت سعيدا لحظات البدء برسم التخطيطين الملونين لوالدك المبجل، بأقلام خشبية يستخدمها أطفال المدرسة الابتدائية.. وحينما مررت علينا تلك الساعة ، كنت منشغلا برسم خطوط وزوايا وسطوح ترتدي ألوانها: الأصفر والأوكر والأحمر والأزرق والبرتقالي والأخضر والبنفسجي. ولكل لون منها رمز وإيحاء. وكنت أطل من (شرفة غرفتي في دار ضيافة جامعة صنعاء)، على امتداد الأفق، حيث تحتضن ألوان‘ الأشجار ألوانَ السماء وألوانَ المرئيات.وألوان ثيابك وأنت مقيل علينا يا رافد العزيز( ونعم الرافد أنت.). وأخبرتك في حينها، بإن هذه اللحظات التي أتشغل أثناءها بالرسم، الوجيزة العمر، هي الأوقات التي تمر علينا بسرعة، دون أن نثبت محتواها وأحداثها إلا في ذاكرة الفن والأدب. وكتابة المذكرات .وأنت بحكم ثقافتك الواسعة، تدرك بأنه  من الحدود الشاسعة للمودة والمحبة والوفاء، تزهر ربى التوق إلى الحياة. وكنت سعيدا عندما أخذت اللوحتين مبتسما تغمر عينيك الفرحة الرقيقة. وقل حينها : ربما لاتعجب الوالد.. على أية حال قد تترك فيك انطباعاً أو رد فعل ما، أو قد تعجبك.. وقد يكون في اللوحات إثارة مشابهة وبراعة حديثة في التقنية وفيها تنافر شديد الوقع، ولكنها قد لا تعجبك.. ولكنك عرفت من فورك كيف تجيب على انفرادها بميزات غاية في الدقة قد لا يفهمها " كما قلت " المشاهد العادي. ذلك لأنه لم يكن بمقدوره الهبوط على عناصر الجمال في اللوحة والتغلغل في فهم أنسجتها.الا أنت . ويأتي إعجاب المشاهد أو النفور من العمل الفني أو السرور به، من الاندفاع الغريزي البصري ثم الوجداني أو العقلي.. وكاتن  استجابتك  ثرية النتائج، تحقق غايتها وتؤكد فكرتها.. فإذا كنت " في تجربتي " تلك يا رافد، من أهل المعنى في رموز الفن، فهل أجد نهر المعنى كي أخوض في عمقه؟..

(وإذا نقشت على الورق صورة حزينة، فإن هذه الصورة لم تتلق درسا في الحزن ولا في السرور.. فهذه الصورة تكون حزينة، ولكنها خالية من الحزن، وقد تكون ضاحكة،" ولكن لا أثر لهذا عندها " في ذاتها إنما نحن الذين أسبغنا عليها من روحنا انفعال اللحظة. وانت الذي أسيغت على اللوحتين من روحك فيض الحب ذاك لأبيك في حياته وللوحته في الفن. فيا رب هبنا ذلك التمييز كما نريد، لنقدر على التمييز بين ما استقام من الأدلة واعوج .. وهل أعلم متى يصبح الحس تمييزاً ؟ انه كذلك  حينما أنظر بنور الله.. لأن عين المفن لقادرة على رؤية الجمال وأما سواها فهي غرور. من نحن في هذا العالم المعقد ؟ هل عرفنا لجواهر الفن الخلاّق وصفاً ؟ هل بانفتاح بصيرة القلب والعين معاً، يتوسع حوار الرؤية وسبل النظر إلى الجمال ؟ والفنان الذي  يتحقق له الجبر في عمق الرؤية ونفاذ البصيرة، فقد أنار الله قلبه. وسيرى نور الإبداع في كل آن وأين. (أما وقد ضاع  العقل  في  الألوان  فقد أصبحت  هذه الألوان حجابا  لنا عن النور ولمّا  كانت  هذه  الألوان  تحتجب  في الظلام فقد رأيت كيف أن  إبصارك  اللون  كان مستمداً من النور..  وهكذا لون الخيال في الباطن، وهكذا الألوان الجميلة تجيء من وعاء للصفاء، واسم هذا اللون اللطيف: صبغة الله. ( ومن أحسن من الله صبغة) .

بعد مضي فترة من الزمن علمت أن معرضاً ضم أعمالاً لفنانين يمانيين، أقيم في باريس وامستردام رافقه الفنانان أمين ناشر ومظهر نزار وقد نزلا ضيفين على الكاتب الهولندي "كيس بروير" الذي حدثني عن ذلك، لدى زيارتي الى هولنده لمناقشة إقامة معرضٍ لي على قاعة " في بيتي"،  التي يمتلكها فنان، ترك النحت، ليتفرغ الى الكاليري، ويدعى " نيكو "، وكنت قد اتصلت به هاتفياً من " بوتسدام، بألمانيا "، لأخبره إن كان على استعداد لاستقبالي في محترفه. فوافق وكان بانتظاري في محطة القطار الرئيسية في امستردام. وكانت القاعة قريبة جداً من المحطة، لهذا مشينا معاً على مهل نتحدث عن فكرة إقامة المعرض، مشدداً على ضرورة رؤية حجم الصالة قبل أي شيء آخر. وكنت محقاً في ذلك، إذ أصبت بخيبة أمل وأنا أتجول بين غرف الكاليري الثلاث. وكانت مساحة كل غرفة، مترين مربعين، فبلعت ريقاً مراً علقما.. ولأنه قد قام باستضافتي في محترفه، وتحدثنا ثلاث ساعات عن الفن والثقافة والحياة، أخذتني هزة الكرم العربية، فأهديت للكاليري لوحةً من أعمالي، فعبر عن اندهاشه لمبادرةٍ لم يسبق أن تكرّم بها فنان طيب السريرة جداً مثلي. وقال: ( هديتك هذه، ستكون أول نواة لمجموعة الكاليري في المستقبل..). وها أنني فتحت شهيته على فكرة جديدة. عرض عليّ المبيت في مرسمه، إلا أنني رغبت عن ذلك. اقترحت عليه أن أتصل ببعض الأصدقاء.. وبادر هو بالاتصال بالرسام العراقي فوزي أحمد رسول وأعلمه بوجودي. فجاء مسرعاَ. وواصل " نيكو " إملائي عناوين وهواتف العراقيين المقيمين في هولنده. أمثال؛  ياسين النصير، (كاتب، يصدر جريدة). سلمان البصري (رسام)، تركي عبد الأمير (رسام)، إسماعيل زاير (صحفي)، سعدي داود (رسام)، عبد الجبار سلمان (رسام)، (غادر الى السويد)، علي طالب (رسام) ملتحقا بأخيه، وعلي المندلاوي (رسام).. وقائمة طويلة من الذين غادروا الوطن وهاموا غرباء في بلدان نائية سعيا وراء الحرية.. ولكن لا حرية ولا كرامة لمخلوق إلا في وطنه. ( بلادي وإن جارت عليّ عزيزة .. وأهلي وإن شحوّا عليّ كرام ).. 

توقفت عن التفكير بالأسباب التي جعلتني أسرح بعيداً في مصير زملائي الفنانين ، النوارس المغادرة أوطانها.. قطع عني ذلك الاندياح في غربة الأصدقاء، وصول فوزي رسول الذي دخل علينا هذه اللحظة، فعانقني وجلس.. وتحدثنا عن معرضه الذي كان يزمع إقامته في هذه القاعة.. وقبل أن نغادر، اتصلت بالسيد "كيس"، أخبره بسفري الى بوتسدام، فانبهر من قراري المفاجئ. لأنه كان وزوجته وابنته بانتظاري في منزلهم مساء ذلك اليوم، لشرب القهوة.

غادرت الكليري بصحبة فوزي رسول إلى منزله. وكانت زوجته الرسامة أيمان بانتظارنا. وأول ما دخلت صالة الضيوف، بادرتها بالتهنئة على سلامتها، وباركت لها بميلاد طفلتها الثانية " أيم "، وقد سألني عن  معنى اسمها. وكان (بالقاموس العربي) يعني: (أفعى) ويعني أيضا: " القسم " إذا قلت: " وأيم الله ".. وهذا ما ذهب إليه أيضاً، د.عبد الرضا علي، في رسالة بعثهاً "بالفاكس" يشرح فيها معنى الاسم، كما ورد في القاموس.. ولكنّ ذلك الاسم قد يحمل، باللغة الكردية، معنىً أجمل. وهذا ما أيدني فيه فوزي، الذي راح يطلعني على لوحاته الجديدة التي عرضها في الخامس عشر من أيلول عام 1998 على قاعة " في بيتي " بأمستردام.

شاهدت لوحات " أيمان "، وقد خرجت للتوّ من تجربة مخاض الولادة، كمبدعتها.. وبعد أن بلّلت جسدي بماء " الدش "، غسلت روحي من تعب المسافات.. ومن التفكير بمعرض مقتنياتي الذي يفتتح في مدينة بوتسدام على قاعة " فن ".. والتفكير كذلك بطبع ملصق وبطاقات الدعوة، والتهيئة لافتتاحه في الثاني والعشرين من آب عام 1998 ليستمر شهراً كاملا..

في الصباح أبكرت الى محطة القطار، يصحبني فوزي رسول. وهو من الرسامين المواظبين على الإنتاج. وكان قد تخرج في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1980 وأنهى بكالوريوس الأكاديمية والماجستير عام 1989، وأسهم في المعارض الوطنية والدولية. وللوحاته سمة واضحة بين تجارب الفنانين العراقيين. وتنسحب هذه الملاحظة على تجربة زوجته أيمان خالد في خصوصية لوحاتها. إذ كان لهما حضور متميز في الثمانينات..

أن قصة حضوري إلى امستردام، لها أسباب تعود إلى فترة زيارتي الأخيرة لليمن عام 1998. حيث كان المؤرخ "كيس"، هو الذي اقترح عليّ أن يأخذ معه، لدى مغادرته صنعاء، نماذج من الأدلة والصور والسوالب الملوّنة الخاصة بلوحاتي، ليتفق مع إحدى القاعات الفنية على إقامة معرضٍ لأعمالي.. و كان " كيس "، قد عاش معنا في دار ضيافة جامعة صنعاء بصحبة ابنته راقصة الباليه "انج" وزوجته "ري" التي تعمل في مجال تعليم الصم والبكم، وكنت قد دعوتها لإلقاء محاضرة مع عرض فلم عن تجربتها، على طلبتي في الصف المنتهي لقسم الصحافة في كلية الأعلام.. كان أساتذة الجامعة الزائرين يتحدثون عن هذا الموضوع أثناء تجمعنا في المطعم.. وأمامي على المائدة، الصديق أ.د. عناد غزوان إسماعيل، الباحث في أسرار اللغة العربية والنقد الأدبي والشعر الجاهلي والحديث.. وله كتب ودراسات عميقة في مسيرة الثقافة المعاصرة في الوطن العربي. وكان قد اقترح أن أصمم غلافي كتابين له، هما: "أصول نظرية نقد الشعر عند العرب ومدارات نقدية" و" قراءات نقدية في الأدب العربي "، ولكنني لم أستطع تلبية طلبه لضيق الوقت.. بينما أنجز ولده " معتز " تصميم الغلافين. وكان يجلس الى مائدتنا أيضاً، الصديق أ. د. قاسم حسين صالح، أستاذ علم النفس، ومؤلف الكثير من الكتب الفنية في مجال اختصاصه.

عشنا ثلاثة اشهر مليئة بالذكريات الحلوة، شعراً، وأدباً، وفناً، وحواراتٍ ومماحكاتٍ، وأحاديث شتى، نتنفس خلالها نسائم الليل الباردة بعد العشاء.. فالمكان الذي نسكن فيه، محاط بسلسلة من الجبال الواطئة، وبحزام أخضر من الأشجار. لهذا فالجو هنا معتدل نهاراً ومنعش طيب البرودة ليلاً في الصيف.. يغرينا أن نتمشى على امتداد حدائق المجمع السكني لأساتذة الجامعة. ونتحدث.. ونتذكر، وأسألهما عن الأصدقاء القدامى؛ الأبعدين د. خالد حبيب الراوي، د. عبد الستار جواد، د. ماهود أحمد وزوجته الرسامة د. وسماء الأغا، وقد أخبرني د. عناد، أنه أشرف على رسالتها لنيل الدكتوراه..

كنا نتجول في أسواق صنعاء القديمة وفي شوارعها، الزبيري، والدايري، والهايل، وشارع كلية الشرطة، وميدان التحرير، وشارع القيادة، وسمسرة المنصورة، وشارع بغداد، حيث يقع مركز الدراسات والبحوث، المكان المفضل للدكتور "المقالح".. وأحياناً نتفرق، كلّ يسعى إلى ليلاه.. وكان مربد وقفتي كل مرة، " سمسرة صنعاء القديمة " متأملاً معمار جوامعها وبيوتها وأسواقها وحياة الناس في تفاصيلها. سحنات وجوه الرجال والشباب والصبية ونوع أزياء الثياب التي يرتدونها، وتصميم الخناجر التي تتوسط أحزمتهم من الأمام، بألوانها وقيمتها الاجتماعية ورموزها التاريخية.. "بله" أزياء المرأة اليمانية، وخمارها وعباءتها، وعقل "شيلتها" التي تتعصب بها بحرير موشّى إما بالخرز الحجرية والزجاجية الملونة والصدف، أو بالفضة والذهب والجواهر واللؤلؤ.. كل امرأة على مقام يسرها وعسرها.. وقد بلغ بها تأملها أمام مرآتها، أن رسمت بالإبرة " الوشم " فوق صفاء ملمس جسدها الرقيق، فصبرت من أجل الجمال.. وهي كأختها " ظلوم "، (كتبت على جبينها بالمسك).. وكسميّتها (عفراء حبيبة عروة ابن حزام) تختال في مشيتها، وخفر نظرات عينيها النجلاوين الكحيلتين، اللتين تخترقان أشغفة القلوب مباشرة، فتوقد فيها جمراً، لا يخمد أواره إلا بلفتة جيدٍ أو رقة مبسمٍ يفترّ عن همسةٍ أو كلمةٍ أو أنّةٍ تغترفها مسامع الرسام " فتى ربيعه " شغفاً. أو هي نظرة من هذه الأبكار الحسان المختلفات مفاتنهنّ كالورود في أنق المرابع. فواحدة منهنّ، بثينة، حبيبة جميل و(نعم وهند)، وصويحبات عمر بن أبي ربيعه. و" عزة " وليفة " كثير " و(عفراء، نور عيني عروة ).. و" الأحنف وفوز"، التي باكرها النعيم، ممشوقة القوام، حلوة المعاني. مثقلة الأرداف، مهضومة الحشا:  إذا مااستقلّت ردّها عن قيامها لها عجز عنه المآزر تقصر

وما بين مفاتن الغيد، " ألوب" من الهوى، فتتركني كل واحدة بسماتها المتفردة، في حيرة من حالي واختياري، بين جمال خلق الله فيها، وبين التشّوف والتشّوق إلى كشف "الجلوة" عن المحتجب من الجمال، لكي أرسمها.. أعيد لحظات اللذة في تصويرها. وأنا أتطلع منبهراً إلى مجمرة حدقتي عينيها، أتلهف إلى ثغرها يفتر عن بسمة رقيقة تتراخى على أسرارها، مخيلتي، فتفرش على سوسن قلب لوحتي، الأشواق التي كنت أرعاها كلما ألتقي بغادة من حسان اليمن.. لكن مللت من ترديد هذه الأماني، ساهداً ينبو بي الوساد.. و(صد الملول خلاف صد العاتب). ولأن الرسام المفنّ، يملك شهوات السمع والبصر، بيد أنه لا يسعى إلاّ إلى تثبيت لحظات الجمال في فنّه.. وهو عندما يطيل النظر،(لا يضمر السوء إن طال الجلوس به.. عف الضمير ولكن فاسق النظر).. والمرأة في الأعم، تحّيرني، أنا المدله شغفاً بحسنها، بين تمنّعٍ ظاهر وعطاءٍ مكبوت. حتى تجعلني، أستجير بها من صدودها، فتزيدني بعداً كلما زدتها قرباً: وفي كل يوم خشية من صدودها      أبيت على ذنب وأغدو على عذر

وأنا أراها في بصيرته وخياله معاً: ينضح ماء الشباب من أردانها.. تيّاهةً يزدهيها شبابها وجمالها، فتختال في مشيتها وتتأود:

بيضاء في  حمر الثياب كوردة     حمراء بين  شقائق  النعمان

تهتز في غيد الشباب إذا مشت     مثل اهتزاز نواعم  الأغصان

وهاأنذا أتنفس الصعداء، بعد أن لان فؤاد جناني وخفّت سخونتي أمام جمال المرأة، ولم أفرد روح الفن في رؤيتي لها، عندما أفردت الجسد في نظرتي الفنية.. وكنت فرحاً برفقة ابن وطني: " العباس بن الأحنف " خيراً بما أبدع من أرق وأجزل وأحسن شعر بين المحدثين في زمنه وفي منبت خلقه " البصرة "، التي كانت مهده (134 هجري/ 736 م)، وكانت لحده، في (194 هجري/ 804 م)، كما رواه الخطيب البغدادي، الذي ذكر أنه مات في الستين من عمره مؤيداً رواية المسعودي في ذلك وذكر صاحب الأغاني، أن العباس بن الأحنف قد مات في يوم وفاة الكسائي النحوي وإبراهيم الموصلي. ولكن تاريخ وفاة الموصلي، ثابت سنة 188هجري، بينما العباس كان قد نظم قصيدة بمدح هارون الرشيد عام189.هجري. فإن كان موت العباس في هذه السنة أو تلك، فهو قد أبدع في ستين عاماً، ما لم يعادله من الشعر العربي، أثراً وتأثيراً في شعر عمالقة كالبحتري والمتنبي وسيف الدولة الحمداني والشريف الرضي ومهيار الديلمي وأبي تمّام وابن اخته الكاتب الشاعر ابراهيم الصولي والخليفة المأمون والمعتزّ وأبي فراس الحمداني وابن عبدوس الفاسي وابن زيدون وابن رشيق وأحمد شوقي والجواهري.. فتأمل مدى عمق تأثير العباس بن الأحنف في الشعر العربي.

 

في سمسرة صنعاء القديمة وأمام الباب القديم، وأنا باتجاه الدخول إلى باحة السوق القديم فوجئت بشيخ كبير يحمل لافتة من الخشب وقد لصق على وجهيها صورتين كبيرتين ملّونتين لأحدث أفلام الموسم، فما كان اندهاشي ممّا نادى به صادقاً منفعلاً بمناداته، بقدر ما أثاره في ذاكرتي، مشهد هيئته العام ومئزره وسرواله، وثقته بما يصرح به جهاراً.. ويبدو أن الناس قد ألفوا رؤيته،وغرابة لباسه وما يعلقه من أشرطةٍ وصدفٍ كبيرة مرتبة على هيئة قلائد، لهذا لم يكن سواي من تأمله صامتاً، مندهشاً.. وقد ذكّرني لباسه بما وصفه المسعودى، (في الجزء الثاني من كتابه، مروج الذهب ومعادن الجوهرص218 )، عن العيارين، بأنه ظهر في نهاية القرن الثاني الهجري، إبان فتنة الأمين والمأمون، التي دامت أربعة عشر شهراً، وحصار بغداد (197 هجري)، جماعة بلغ عددهم آنذاك، مائة ألف، اقتصر لباسهم على " إزرة " يلفون بها أوساطهم. وفي المعارك والأزمات، يجعلون في أعناقهم الجلاجل والصدف الأحمر والأصفر، ومقاود ولجماً من مكانس ومذاب، وهم عراة من أوساطهم. وفي الحصار الثاني لبغداد عام (251 هجري–865 م) بلغ عددهم خمسين ألف وكانوا يقاتلون، وفي رؤوسهم، دواخل من الخوص سمّوها، الخود، ودرقاً من الخوص والبواري، قد قرنت بالحصى والرمل، وكانوا يستخدمون البواري المقيّرة بمثابة الترس.. وهم خليط من عدة أجناس. وحركتهم، تنفرد بطابعها السري وبأسلوبها الفوضوي الحاقد على الأغنياء والساخط على قيم ومثل المجتمع العباسي.. وقد ذكر (ابن الأثير في " الكامل " ج7 ص144 ) أن المستعين قد استخدمهم ضد الأتراك الذين بايعوا " المعتز" في سامراء.. واستعان بهم المهتدي ( سنة 256هجري 869م)، كما ذكره الطبري ج9ص288)

وفي الليل، وبعد أن أقرأ ما اشتريته من كتب وصحف ومجلات، أراقب بعض برامج التلفزيون الثقافية، وأحاول الإخلاد الى النوم. ولكن.. كيف ومتى يأتي لي النوم .. هاأنا ذا أغط مجدداً في الذكرى.

 

 كنت أداوم على مراسلة صديقي د. عبد الرضا علي، يحملني وأحمله على طريق الإبداع، كما ندوام أنت وأنا على مناجاتنا لأنفسنا وللحياة. ودمت متألقا دوما أيها العزز رافد العطاء وجابر العثرات وللوالد والعائلة الكريمة أزكى الأماني والتقدير والاحترام . أخوكم   شوكة الربيعي

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1539 الجمعة 08/10/2010)

 

 

في المثقف اليوم