قضايا وآراء

مقدمة في تاريخ الفنون التشكيلية العربية (ك1- ق1) / شوكت الربيعي

التي صدرت للمؤلف من قبل، وبخاصة في كتاب : الفن التشكيلي المعاصر في الوطن العربي، بطبعاته الخمس(*)، وكتاب (أحزان القصب(*)1978 ، وكتاب طائر الشوف الأصفر- 2000 (*) وكتاب الأمل- 2008(*). كلها، قد أعادتنا الى أزمنة وأمكنة لم تعد منسية أبدا. ولكنها لن تعيدنا إلى الحضور الحقيقي في سياق حركة التاريخ التي لم تعد موجودة ماديا، وكأنها كانت آتية من عالم التخييل البديل في الذاكرة. (لأننا نجد أن مفهومها الفكري والفلسفي عند العامة من الناس، هو مفهوم تجريدي).(*)

b1حاولنا، بصعوبة، أن ندفع بالكتُّاب ونقدة الفن، إلى التوجه نحو مذهب الواقعية الاشتراكية، في أدب النقد الفني التشكيلي العربي،.. ليس من خلال الأفكار (التجريدية) الكبيرة، بل من خلال الممارسات الصغيرة. وتفاصيل الحياة اليومية الجزئية.. ومن هذه التفاصيل اليومية. كنا نرغب في أن ينظر الآخرون إلى أعماق محاولتنا، إلى هذه الإرادة التي أدهشت الحساسية العادية (عندهم)، وإزاء ذلك، بأي معنى علينا أن نقرأ كتابنا هذا الذي يأتي متحدثا عن مسيرة تجارب حدثت من قبل، واستغرقت في تطوافها، أكثر من مائة عام من) زمن (لم تعد أسباب معطياته وحوافزه وعلله قائمة، بل ثمة تفاسير مركبة ومعقدة ومتشابكة على جانب تعليلي مهم في هذا الكتاب. نجد فيها عناصر الواقع العربي الذي كان قائما في تفاصيل سنوات الحرب الأولى وابان فترة العشرينات، وحتى اليوم، بحيث تبلور قويا، طموح الفنانين للسيطرة على أدوات انتاجهم وأفكارهم ومنطلقاتهم، وتوجهات مبدعي العصر كافة. وما كان كتابنا ينقل لنا كل تلك الرؤى والمنطلقات، الا، لكي نراها : القوة المرتجاة المبتغاة التي تقودنا إلى فهم أوضح لمعنى الفن ودوره في الحياة.

 كان ذلك المعنى يشير الى الجزء الأوضح من غاية الكتاب وهدفه، ولايزال علينا أن نعكس التجربة الابداعية،الخليجية بخاصة، والعربية بعامة، ومختارات من التجارب العالمية التي تأثرنا بجماليتها الفنية. (الرسم والنحت والحفر والطباعة بأنواعها وبتنوع تقنياتها والخزف والفخار والخط العربي والزخرفة الاسلامية.). (*)، كما حدث في كتاب (رسامون كتاب) (*)– الذي صدر في بغداد عن الموسوعة الصغيرة عام 1976).. وكان يهدف الى التعريف بتجارب تشكيلية وشعرية وأدبية لمبدعين (رسامين وكتاب وشعراء) . دون الاقتصار على ثيمة مضمون واحدة، بل ضمن مواضيع كثيرة شملت تفاصيل الواقع اليومية وعناصر الطبيعة المختلفة. (الصيادون) وزوارقهم في الأهوار ومشاهد (البردي والجولان والقصب) وتيجان الازهار والثماروالزنابق والعشب وأنواع الطيور والأسماك وأكواخ الطين والبواري والقصب والنسوة والأطفال وتنانير الخبز ومواقد شواء السمك (الصبور وطيور الخضيري والحذاف.. حيث تجلت الخلفيات الطبيعية للنصوص الأدبية : القصة والرواية والرسم والتصوير الفوتوجرافي). منغمرين بفيض من معايشة هذه الطبيعة وحياة انسان أهوارجنوب العراق فيها، ومعرفة الفنان البصرية العميقة وادراك الكاتب والفيلسوف والمؤرخ لأدق تفاصيل تلك الطبيعة، ليعبر عنها ويرسم روحها ويدون قيمتها الثقافية والتاريخية، أجمل تعبير وأصدق توثيق.. كانت وحدات ومفردات وثيمات (تستخدم كأدوات تطييف واضفاء البهاء،الخيال بالصياغة التي تجعلها تخدم ركائز المعمار الأساس) للعمل الفني والأدبي معا، لوصف هدف أو باعث أو حافز لشيء ما . لرسم أشكال أوهيئات او قسمات أو دلالات أو رموز وسمات ومزايا وتشبيهات استخدمت من الطبيعة بعناصرها الرئيسة: آدمية وحيوانية ونباتية محددة، لبناء مشاهد (مركبة)..تساعد المبدع على خلق إنطباعات مركبة: (صورمؤلفة). تكمن فيها جمالية المتعة الفائقة والمقدرة الحاذقة التي تُميز الابداع العربي الاسلامي. (*)

 

ثانيا - فكرة تدوين الفن المعاصر، وأدب النقد الفني التشكيلي

b2كنا نسعى إلى تقديم فكرة وافية لمشروع تدوين الفن المعاصر في الوطن العربي: إذ هو مقدمة لمشروع اعادة كتابة تاريخ- الفنون العربية واعلامها وروادها، وأشهر مبدعيها المعاصرين. عسى أن يظهر هذا الجهد، مستوفيا غايته في تناول أعمال مئات الفنانين، في شتى اختصاصات الفنون التشكيلية بالشكل الموضوعي السليم. وإذا كان مثل هذا الإنجاز الثقافي الفني، قد تحقق عبر المجاهدة الشخصية بتكاليفها المادية التي استغرقت من العمر أربعين عاما، وجهودا مضنية من البحث الميداني على التقصي والتنقل والاسفار من بلد لآخر ومن مدينة لثانية، وبفضل الإيمان والمثابرة والصبر والعزم على خدمة الحركة التشكيلية العربية وتاريخ الأمة وقيمها الحضارية. ظهرت هذه الفكرة إلى التطبيق. إن الفن الذي لا يؤدي إلى تنظيم وتقوية القاعدة المادية للمجتمع، سيكون ضعيف المقدرة والأهمية في خدمة حاضر المبدع، ولا تتبلور فيه قيمة مغيرة لصالح المستقبل. (*)

كانت مثل هذه النشاطات في ا لفنون والآداب والثقافة والعلوم، قد سبقت إنجاز توجهات فناني ونقدة الفن، إلى النهوض القيمي والجمالي والاجتماعي التي تعنى بمكتسبات الروح والفكر وتستعين بهما لتنشيط العقل العربي وقبوله للتحديث والرؤى المستقبلية. ولن يتحقق ذلك بدون العلوم الحديثة والمعرفة الجديدة.

إن الهدف من هذه التجربة التوثيقية النقدية المعارفية معا، هو تدوين مكتسبات مسيرة الفنون التشكيلية التي حققها فنانو التجارب المتميزة فيها طيلة العقود العربية والاسلامية السابقة، على أن تخضع لقيمة النقد الموضوعي والوضعي معا بمنظار العقل الحديث لتحديد ملامح الخصوصية التأريخية والروح النقدية للعقل العربي وحريته الفكرية.

b3كان هذا المشروع سيؤدي ليس فقط إلى التنوير بتاريخ الفن العربي وبالقيم الفنية العربية، وإنما أيضا بقيم ومفاهيم الفنون التشكيلية في العالم الإسلامي كله. فالإنتاج الفني المصحوب برؤية نقدية حديثة، أصبح قيمة رفيعة في التجارب العربية والاسلامية، وغدا ترجمة ثقافية على أرض الواقع ضمن مستجدات المعرفة في عصرنا الراهن لتحقيق هدف نبيل وعظيم. طالما توفرت له الحرية الفكرية لاتقان الروح النقدية الإبداعية. (ويتضمن النقد الفني المعاصر: الوصف ، والتفسيـر ، والتقييم ، والتنظير حول فلسفة الفن ودوره في المجتمع. وتتكون نظرة النقاد إلى الأعمال الفنية من واقع تفاعلهم معها، الأمر الذي يجعلهم يتساءلون عن ماهية العمـل الفني من حيث إدراكه ووصفه ومعناه وغرضه ودوره في تحليل وتفسير القيمة الفنية التي يستحقها ضمن مفردات طبيعة الفن التنظيرية، لنتبين وظيفة النقد الفني والأغراض التي وجد من أجلها، وبالأخص الأوضح، معرفة دور الفن اجتماعيا وبالتالي تفهم دور النقد الفني التشكيلي في تقريب المسافة بين المشاهد والعمل الفني.. وللناقد "دور تـاريخي إذ يسـترجع الاتجاهات والطرز ويتحدث عن تأثير الفن من حضارة ما على فن حضارة أخرى. " وذلك مدخل ثقافي إلى طرز المعرف الشاملة. من هنا ينبغي التأكيد على ثقافة الناقد في مجال تاريخ الفن، وعلـم الجمال، وأسرار التقنية الحرفية والصياغية في ممارسة العمل الفني، متواصلا مع المنجزات الفنية المعاصرة محليـا وعالميـا. لكي تتوسع مداركه وآفاق فهمه وعلمه بكتابة وتدوين الرأي النقدي على وفق القواعد الذهبية لعلوم النقد العامة. ويتطلب ذلك ، العلم بأصول النقد الفـني التشكيلي، وقواعـده، ومناهجه، ووظائفه، ودوره في المجتمع.) وينبغي العلم بوسائط الاتصال ، وادراك قيمة المقارنة المتنوعة والمختلفة في الفن، بين أعمال فنية مختلفة لفنان واحد، أو بين أعمال وتجارب عدة فنانين لهم خصوصياتهم، ولهم أزمانهم ومراحل تكونهم الذاتي وبيئاتهم المختلفة. . لقد بحث (رومان جاكوبسون)، وهو واحد من العلماء في مجال تحليل الادراك، وفي مجال انظمة العلاقات التي لها علاقة بـ (علم الدلالات) ، مؤكدا أن (.. للفن البصري أيضاً عوامله ودلالاته والتي من خلالها نستطيع ان نميّز وندرك القيمة الفنية. ويجب ان نضع في الحسبان بأن هذه القيم والعوامل والعناصر تتغير وبسرعة من عصر الى آخر خاصةً في السنوات الخمسين الاخيرة حيث تغيّرت نظرة الفنان الى مفهوم الفن وأصبح من الصعب ان نشير الى السؤال الأبدي ما هو الفن ؟ لأن عناصر الفن البصري مثل الخط، الكتلة، الفراغ، اللون وغيرها تعني شيئا آخر ومختلفا من عصر الى عصر آخر•• مثلاً عندما نشاهد لوحة للرسام الهولندي فيرمير والتي بعنوان امرأة تحمل الميزان رسمها عام 1664 يجب ان نضع في الاعتبار مسألة النور والعتمة لأن فيرمير كان يعنى برسم المشاهد الداخلية للحياة اليومية ولهذا السبب نشاهد في اغلب لوحاته بأن الضوء صادر فقط من مصدر واحد وهو النافذة• اما لوحة هنري ماتيس والتي بعنوان دراسة الطبيعة التي رسمها عام 1905 فمسألة اللون وحركة الضوء في الطبيعة هي القيمة الجمالية لفناني أواخر القرن الثامن عشر مثل اعمال الانطباعيين وما بعدهم لأنهم انهمكوا في رسم المشاهد الخارجية مباشرةً من الطبيعة، بالاضافة الى انه مع بدايات القرن الثامن عشر انتشرت نظريات جديدة في مجال فيزياء اللون وعلم البصريات التي اعتنت وتعمقت في مسألة التحليل النفسي والفيزيائي للألوان والاشكال وهذه النظريات شرحت علمياً الوهم البصري • الفن التشكيلي هو عبارة عن محادثة بصرية بين المشاهد بالتحديد عين المشاهد والعمل ولهذا السبب العمل الفني سواء كان لوحةً أو نحتاً أو عملاً تركيبياً كـ شيء فهو أبكم او صامت ، هذا الشيء عبارة عن وسط يعبر من خلاله عن مدى ادراك وفهم الفنان عن العناصر التشكيلية وكيفية استخدامها والى اي مدى استطاع الفنان ان يستغل هذه العناصر البصرية ليواكب العصر الذي يعيشه، كأن الفنان يخلق حواراً وبثقة مع المشاهد ولكي يكون هذا الحوار ايجابياً يجب على المشاهد المشاركة وبفعالية عالية بأن يكون مستوعباً بشكل مسبق الدلالات البصرية في مجال الفنون التشكيلية وإلا اصبح العمل التشكيلي لغزاً بالنسبة له، بمعنى آخر ان العمل الفني الجديد بحاجة الى مشاهد جديد وهذا يتطلب إدراكاً جديداً•.(*).) .

...................................

(*) – لاحظ منهجي مضمون كتاب النقد الفني تأليف: جيروم ستولنيتز وترجمة د. فؤاد زكريا- 1974م . وكتاب طارق بكر عثمان قزاز (النقد الفني).من المملكة العربية السعودية.

..................................

 

 ثالثا - القيمة الفنية وجماليتها

b4 نحاول في تضاعيف كتاب : (مقدمة في تاريخ الفنون التشكيلية العربية) أن نعيد قراءة الذاكرة الشخصية والجماعية من المنبع وتصفح الأوراق المنسية، واليوميات القديمة، لنجعل من هذا السفر أنيسا، ومثيرا، كقضية جوهرية تحققت، فبدا (اليأس بحضورها أملا) من الفرادة، كي نحتفي بميلاد تجربة ومسيرة الحركة التشكيلية في أمصار الوطن العربي، على نضارتها، وصبواتها الفتية، باتجاه تهجي أبجديتها الفنية، لتمنحنا قراءتها، فرصة مستنيرة للدخول في تفاصيل الزمن اليومي للفنان فوق أديمها. وأردنا لهذه النصوص، أن تصبح أشبه بالمذكرات الوثائقية الحميمة، حول الفن التشكيلي : (بيئته، ونشأته، ومسيرته وتحولاته وملامح شخصيته)، وإعادة اكتشاف القيم الجمالية التي تحملها الأعمال الفنية، باعتبارها ملامح مختلفة، أفرزها تقدير حديث، وصورها من زوايا النظر النقدية المعاصرة، المنظور إليها بحثا، لأنها جزء من منهج الكاتب النقدي الذي حاول في دراسته، أن يعبرعن روح التجربة ومزاج المفن البارع، وافكاره ومعالجاته للشكل والموضوع والمضمون. ولكي يعطي صورة مميزة عن استنتاجاته الأساسية التي تمخضت عن منهج البحث، ناقدا، وباحثا يتقن فن الاختيار الصعب. ولكنه لايستلب من (مشاهدي ومحبي الأعمال الفنية)، حرية تأمل روح القيمة الفنية وجماليتها، ولايضيع عليهم متعة الاكتشاف. وهكذا يمكن للقاريء أن يدني إليه تجربة التشكيليين في الخليج العربي، ولو نأت عنه الديار، فهذه النصوص، هي التي ستجعله يفكر بحياة أولئك الذين يعيشون بعيدا عنه، لكي يرغب في التعرف على حنايا (عوالمهم).. إذ أن الحياة تمضي، وتستمر معها الأحداث والمتغيرات. وسنفهم علاقة المثقف بالموقف الملتزم إزاء الموقف المسكون بخيبة الرجاء، واضحة. وهنا ينبغي أن تظهرالكيفية التي نهضت عليها البنية الشكلية العامة ومدلولات مضمون النقد الفني التشكيلي العام، مجسدا جمالية العمل الذي ظهر ناضجا متميزا. وبهذا الكشف والتعرف، سنفهم: أن التداخل في معالجات وصياغات تقنية متباينة، يؤثر عميقا في البنية التركيبية الولودة، إذ لم يبق من لباب فكرة العمل الفني، سوى الومضة او الإشارة الموحية. كما تختلف تقنية مسطح العمل الفني، عن تخطيط ومعمار استيلاد الموضوع المتداخل البسيط من رحم تجربة ناضجة وجاهزة أخرى، غير أن الفارق بين الأمثلة يكمن في المعالجة، وتنفيذ وصياغة الشكل الفني المطلوب، فبدا وكأنه (كولاج) الصق بمادة (البنل) اللزجة على مسطح اللوحة، أو كأنما وضع الفنان (إسكيجا أو ماكيتا) تخطيطا أوليا تجريبيا عكست مرآته ما تبلور عن تجربته من ملاحظات، ومنها : التقنية واللون والمعمار العام للعمل الفني بمختلف وسائل انتاجه. بهذه الإستعارة سنقرأ نصوص هذا الكتاب، التي ستساعدنا على فهم نشوء وتطورالفنون التشكيلية العربية، التي كانت قد تبوأت في العقود الأخيرة من القرن العشرين مكانة بارزة، سواء على مستوى الانتاج الفني المتميز، في معارض الفنانين الشخصية والمشتركة، او على مستوى التجارب والإتجاهات والمعالجات والصياغات وتقنيات العمل الفني كافة. مقتحمة مجالات التعبيرالمتنوعة المتعددة، إذ لم تعد إشتغالات المبدعين قاصرة على خامات اللوحة التقليدية ومواد النحت المألوفة، بل شملت جميع وسائل التعبير الحداثوية المتقدمة وانتشرت بين تجارب فناني الأمصار العربية، مقتحمة مجالات التعبير السائدة في عالم دائب على التغيير، حاملة نبضها ووجدانها وذاكرتها للعالم، بحكم الخبرة المتراكمة عبر تجارب المبدعين الثرية المتنوعة المشارب والتوجهات الاسلوبية.. ولقد تصاعدت مع نمو وتطور عناصر الشكل الفني أومعماره، مستلهمة وحداتها ومفرداتها وثيماتها من رحابة التخييل الإنساني، ومن الأساليب والأشكال المعاصرة، التي استلهمت روح التراث العربي والاسلامي، على امتداد القرن العشرين المنصرم. وما بين رحابة عالم التخييل والتركيب الفني، تتبلور إتجاهات مستولدة عن تلك التجارب الفردية والمجتمعية. (.. ان العلاقة الجدلية بين المبدع والناقد تعكس نمطاً من الثنائية الحضارية المنتجة،

 ويتوقف ذلك دائماً على صحة هذه العلاقة وتوازنها وحضاريتها، ويتدخل الناقد في سيرة الشاعر الشعرية حتماً لأنه ضرورة، إلا أن الشعراء على نحو خاص والأدباء على نحو عام، غالباً ما يضيقون بهذه الضرورة، ويعلنون في أية مناسبة تتاح أمامهم، عدم أهمية الناقد في النظر إلى تجربتهم وتقويمها، لكنهم في الوقت عينه يتطلعون دائماً إلى ما يقوله الناقد بشأن إبداعهم. وهل حقا أن المبدع لايكترث لما يقوله النقاد " أو تجيء به تنظيراتهم الآتية من خارج الجسد الذي يحترق، والجسد الذي يطمح أن يأخذ حصته من الهواء والحياة والعدالة" (*)

إن الرموز الفكرية المنبثة بين مساحات العمل الفني مضمونا ، تتلبسها عناصر الشكل وتجسدها مفرداته، خاصة تلك التي يحافظ الفنان فيها على قدر من القصدية الشعائرية أو الوظيفة الفكرية فيه ولا يذيبها. وقد يجد المشاهد الناقد نفسه يواجه حضورا مؤثرا للموضوع على حساب تغييب بعض القيم الشكلية التي كانت من قبل تشير بسهولة إلى خصوصية التجربة لهذا الفنان أو تلك التجربة. .إذن فالناقد بإزاء كفتي ميزان   (الموضوع والشكل) أي أن حضور الموضوع الفكري بثقل حسي أشد وطأة على العين والوجدان والعقل، من حضور عناصر المعمار الكلي للعمل الفني الأخرى. سواء أحملت الأعمال الفنية عناوين رومانسية أم ثورية، شاعرية أم واقعية، فإنها تبقى تحفل بالرموز الفكرية والصوفية، بضغط من العالم الذي يكتنفه الوهم وتستغرقه تارة الاسئلة الفكرية والوجودية القديمة، وتحاصره دائرة المفاهيم الحداثوية المعولمة تارة أخرى، تنداح به دواماتها الفكرية في اللايقين، وتتقاذفه تيارات الدائرة المرسومة حوله، وتنتقل بمفرداته المضمونية وصياغاته ومعالجاته وتقنياته الشكلية من الواقع ليتجاوزه الى ما هو ابعد من المادي، لما بعد الوعي بقيمة المفهوم الروحي، والفنان في تفاعله وانفعاله بالتجربة الفنية الحقيقية، إنما يستحيل إلى نور المعنى متجسدا في روح، يظل الفنان في آفاقها مترددا. وإنه لكي يبدع، فيكون فنه اجمل، ستبحر أفكاره وخبراته وتقنياته نحواعادة خلق العالم بالفن" وستبقى اناشيد السلام، حتى يصير الكل إياه والفن هذا الكل في كون بلا موت - وتكون هذي الارض وطنا مساحته الشعوب (يا مبدع الفن العجيب اللون الوهج الأبهى(*) ". ويتساءل المبدع عندما تحتويه لحظات شعور كان يبدو فيها وكأنه يخلق في التو مجددا، قائلا (أليس من شيء سوى هذا الحضور والغياب).. اني آت كي أتعذب وبضعفي اولع او أغلب.. " تمضي سنوات وهي ترفّ ولا تتعب..."و(كانني الآن خلقت وما تغيرت سوى اقنعتي..). (*)- مستولدة من وحي شعر (جوزف حرب) في ديوان المحبرة . الصادر في تموز – يوليو - عام2006م

 

.................................

هوامش

 (*) – كان الشاعر العربي الكبير محمد القيسي، قد انفرد من بين شعراء الحداثة بإنجاز سير ذاتي متميّز. تمثّل بمجموعة من الكتب (السير ذاتية) التي تتنوّع في نظمها وأشكالها، من السيرة الذاتية الشعرية، إلى السيرة الذاتية، والسيرة الذاتية الثقافية والفكرية، وانتهاء بالرواية السير ذاتية، وهو إنجاز شديد الأهمية يوازي إنجازه الشعري المهم أيضاً. يختلف الشاعر الرائع محمد القيسي في صياغة سيرة تجربته الشعرية عن زملائه من شعراء الحداثة العربية، الذين مارسوا هذا النوع الخاص من الكتابة، سواء على مستوى "العنوان" أم على مستوى الفعل الكتابي في المتن. ففي العنوان انفرد القيسي بشطره على شطرين، الأول رمزي "الموقد واللهب" والثاني نوعي "حياتي في القصيدة"، وجعلهما طرفين في معادلة شعرية رياضية، إذ يقابل "الموقد" في الشطر الأول "حياتي" في الشطر الثاني، كما يقابل "اللهب" في الشطر الأول "القصيدة" في الشطر الثاني، ولفرط التداخل الذي لمسناه في المتن الكتابي يمكن في مستوى تأويلي آخر وضع "الموقد" مقابلاً لـ"القصيدة" و"اللهب" مقابلاً لـ"حياتي"، وبذلك فإن الأسئلة تبدأ من صفحة العنوان ما يضاعف طاقة الإثارة المحتملة في الدخول إلى منازل المتن.) (*)

(*) - إن العلاقة الجدلية بين المبدع والناقد تعكس نمطاً من الثنائية الحضارية المنتجة، ويتوقف ذلك دائماً على صحة هذه العلاقة وتوازنها وحضاريتها، ويتدخل الناقد في سيرة الشاعر الشعرية حتماً لأنه ضرورة، إلا أن الشعراء على نحو خاص والأدباء على نحو عام غالباً ما يضيقون بهذه الضرورة، ويعلنون في أية مناسبة تتاح أمامهم عدم أهمية الناقد في النظر إلى تجربتهم وتقويمها، لكنه في الوقت عينه تطلعون دائماً إلى ما يقوله الناقد بشأن إبداعهم، ونجد أن هذا الموضوع على أهميته الكبيرة لم يتردد صداه كثيراً في سيرة القيسي الشعرية وربما وجدناه مرة واحدة يقول: "لا يهمني ما يقول النقاد أو تجيء به تنظيراتهم الآتية من خارج

الجسد الذي يحترق، والجسد الذي يطمح أن يأخذ حصته من الهواء والحياة والعدالة"وقد تكون هذه الاستجابة لا تمثل عنده ستراتيجية رؤية في النظر إلى هذه العلاقة، وأحسب أن تنظيرات النقاد وتطبيقاتهم لا تأتي من خارج الجسد الذي يحترق، لا سيما إذا اقترب النقاد كثيراً من نار التجربة أو من جنتها

فلسفة التكوين الفتي: جدل الخاص والعام:تعد النظرة الواعية في المكونات من أبرز الخطوط التي يستخدمها المبدع لرسم مسار تجربته وهيأتها، لأنها تعبر على نحو ما عن شخصيته وتكشف عن روافدها وفعالياتها وأحلامها، إذ "يتمثل في السيرة الذاتية عادة الإحساس المتزايد بالوعي الذ اتي"، وتمخضّت هذه النظرة عند محمد القيسي عن مقاربات كثيرة تحيط بالمنطلقات الأساسية لفلسفة تكوينه الشعري، انطلاقاً من الجدل الحاصل بين الذات بفضاءاتها الخفية الغامضة، والعام في مشكلاته التقليدية عن الشاعر محمد القيسي في صياغة سيرة تجربته الشعرية - الفصل الأول:الموقد واللهب- حياتي في القصيد - مفاتيح التجربة وتحولات الشكل الشعري - مدخل، في بنية العنوان

...................................

- فصل من كتاب: (مقدمة في تاريخ الفنون التشكيلية العربية)- تأليف شوكت الربيعي – مؤسسة الرؤية للصحافة والنشر – مسقط.- سلطنة عمان

يتبع- خاص بالمثقف

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1543 الثلاثاء 12/10/2010)

 

في المثقف اليوم