قضايا وآراء

مقدمة في تاريخ الفنون التشكيلية العربية (ك1- ق2) / شوكت الربيعي

 بسبب انشغالهم  بالبحث والتجريبية والتشخيصية ومناهج واتجاهات الفن الحديث التي بدأت مع محاولة الفنانين الأوائل في الوطن العربي، الذين مارسوا بحوثهم وتجاربهم الفنية،  ضمن الفترة (التأسيسية). دون أن ينسوا ما جرى، عندما أعادت، حركات النهضة الاجتماعية (في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، في مصر والمغرب العربي. وفي لبنان والشام وفلسطين والعراق في بواكير القرن العشرين)، كما  تبلورت الحاجة الشديدة والملحة للنهضة التعليمية الابتدائية، وقد تقدمت شوطا مهما  في الثلث الاخير من القرن العشرين في دولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين ودولة الكويت والمملكة العربية السعودية واليمن ودولة قطر  وسلطنة عمان، بعد انتشار وتوسع المعارف والمدارس والجامعات. و كانت الحركة الفنية التربوية قد ابتدأت " بالصورة " الواقعية والمشهدية الطبيعية والتشخيصية ثم اتجهت، بعد سفر هواة الفن للدراسة في اوربا وامريكا وفي معاهد وجامعات الفنون التشكيلية العربية في مصر والعراق والشام .. وبعد عودة (موفدي الفن) محملين بخبرات جديدة، استطاعوا ان يبلوروا لأنفسهم طرقا في الفن والتربية خلال الثقافة والفنون، فلجأ البعض منهم إلى تطبيق الإتجاهات والنزعات والمدارس الفنية السائدة في العالم، بينما نزع البعض الآخر إلى استلهام جوهريات التاريخ المشرقة. ومالت فئة اخرى من الفنانين  نحو التجريد، واستلهام الحروف والارقام العربية، فانحسرت الملمحية والشخصانية من محاولات الرسم، وحلت مكانها الإشارية والإيحائية والرمزية والتعبيرية، في حين طورت معالجات النحت المدور والناتيء و(البرليف: إظهار ثلاثة أرباع الشكل) نحو مفهوم ارحب وأشد تأثيرا  من "وسائل الرسم المتنوعة" والتوسع بمناقشة . أسس " اللوحة" كما ينبغي أن تكون عليه القيمة الجمالية والابداعية. 

 

2: - أوراق التجربة المدهشة: 

هناك أعمال فنية نشاهدها بسعادة، و ننساها.. وهناك نتاجات تشكيلية نراها بنوع من التقدير، دون الموافقة عليها أو رفضها، ولوحات او تماثيل، تبقى معنا، لاننا أحببناها بعمق، فنقتنيها. وهناك أعمال لا تحتاج لتعليقنا.. إذن، فمشاهدة العمل الفني الحقيقي، هي حوار الرؤية الذي يتم بصمت.  هذه العملية تعطي تجربة الذائقة الفنية بعدها الواقعي، فا للوحات المعلقة على جدران المتاحف وقاعات العروض الفنية، وفي مراسم ومحترفات التشكيليين، تتحدث الى مشاهديها. وهي عملية ممتعة للعقل والجسد، فيها لذة التوحد مع الفن.  وهناك أعمال رسمت في ظروفها وبنت ساعتها، وكأنها منشورات سرية أو صرخة مظلوم، كلوحة الكورنيكا لبيكاسو ولوحات ريفيرا وسكيروس في المكسيك وتمثال السجين السياسي المجهول، أوالمفكر ونصب الحرية لجواد سليم وتمثال نهضة مصر لمحمود مختار وصرخة النحات سامي محمد المكتومة وعشرات الأعمال الفنية التي كانت مشفوعة بكتابة مذكرات يومية، شخصية. وهذا ماتسعى إلى بيانه أوراق الكتاب المدهشة. (*)

إن كتاب:( مقدمة في تاريخ الفنون التشكيلية العربية)، يفرز من التجربة الفنية العامة،  العمل الأفقي الغث، من المتجذر المتميز، لكي يصبح وثيقة على معراج الفن العربي المعاصر. ويبقى أن نتحقق من أصالة تلك الوثيقة : الهوية: الذاكرة، وقيمتها الجمالية المتميزة. فلم نشعر بالملل من تدوين صفحاتها طيلة سنوات المتابعة الميدانية. إن الأعمال التي خلفها لنا الفنانون هنا، تعكس تعدد أوجه وتفاصيل الواقع وحياة الكدح الشعبية، وصور الناس بمجموعاتهم الكبيرة: طبقات اجتماعية تواجه واقعها اليومي المنهك، وتستمد منه دلالتها. كان الأوائل في محاولاتهم العفوية البسيطة، يرسمون البيوت الشعبية مكتظة بالجوع. ويرون الحياة بسعتها، كوة ضيقة ملونة بالحرمان. رسموا الناسفي زحمة العمل، وفي علاقاتهم مع الطبيعة ومفردات يومياتهم العادية..) :كانت تلك هي اليوميات المدهشة التي يراها  الناس في الواقع وفوق مسطح لوحات رسمها هواة الخطوة الأولى. وكانت على عفويتها وبدائيتها، تبدو رائعة، معبرة عن حالات انسانية (على قلق)، كأن كل إنسان، يود مشاهدتها (لوحده). فرسومات (فترة الستينيات) لايمكن تكرارها في (السبعينيات) لأنها شديدة الإختلاف، ولكن استذكارها واستعادة جوهرها وتطويرها، تصبح أكثر سهولة في التحقيق والتنفيذ مع الفنانين الاستثنائيين. فهم كلما تقدموا في العمر، اكتسبوا ثقة بالنفس لا تصدق، وأصبحوا أكثر تحررا وتطورا واندفاعا نحو التجديد بالفن العربي، وفي أعمالهم الفنية، يمكن ملاحظة آثار قوة الفن الصادق المنفعل بالواقع الإجتماعي، والشعور بطاقته ووضوح رؤيته، التي تبدو أكثر صدقا مما نطلق عليها (لوحات واقعية). من الذي يقوم بتوصيل هذه الرؤى للمشاهد المتلقي سوى النقد؟ ومن يقرب هذه المفاهيم، ويلغي المسافة المبهمة بين الرائي والعمل الفني، سوى النقد الفني التشكيلي. ومن الذي يفسر ويحلل ويقدر ويحدد القيمة الجمالية في حرفيات العمل الفني وفي تصاعد المضمون مع الشكل المتقدم، سوى النقد الفني التشكيلي. أي عندما نوجز (عالم الفنان)  وعلاقته باللون، على أساس: (إيمانه باستقلالية القيم اللونية عن قيم  (التشيزم ) اللمسية المتجلية في خواص الزجاج والمعدن والمخمل والحرير والشعر والى غير ذلك. واعتداد الفنان بالقيم التشكيلية والفراغية والضوئية فقط بوصفها مجرد وظائف لخدمة اللون. وتوزيع الفنان للمساحات اللونية المتجاورة على فراغ اللوحة، بحيث تمثل كل مساحة منها احد العناصر المحددة حتى يكتمل التكوين الفني.)، وتدخل هذه الملاحظات في باب التقنية والمعالجة وقوانين العمل الفني المسبوق بشروط نقدية. (*)

إن وظيفة الفن، هي (لتحقيق تأثير جمالي من نوع خاص، يخضع لقواعد الفنان الذاتية، ذلك لأن له تأثيرا أقوى من (تأثير الطبيعة)، حتى لكأننا نؤخذ بجمال الألوان ورقة الخطوط والإيقاع والحركة والتماثل والتوازن والتناسق والتنافر، منفردة أو مرتبطة ببعضها البعض مثلما تسحرنا غرائب الكون ومنظوماته وفضائه اللانهائي..أو تقلقنا فكرة دمار سيلحق بالعالم.

 2

3: - الفن و(أمكنة الابداع) (*):  متى  ينظر المبدعون العرب إلى تجاربهم الشخصية في سياق عموم الحركة الثقافية والفنية في بلدانهم خارج حدود المعنى التقليدي المالوف، وبعيدا عن الرغبة في تدوين مجرد صفحات عن الفن التشكيلي، قد تكون مسكونة بخيبة الكاتب أو الفنان. وليس يكفي انبثاق  صوت منهجي نقدي آت من أمكنة الإبداع ومسرات الإنجاز.. فهل سيكمن الجواب في (متى) ما وعى الفنان وأدرك واقتنع، بأن محاولته في البحث عن هويته الحضارية، تصاغ ضمن تجربة جمالية تمزج بين مفهوم: ان الفن (كيان من عمليات) (*) وليس (كيانا من اشياء وضعية متراكمة) (*)، كما تراها بعض مؤسسات الثقافة القائمة في الوطن العربي. ومابين تزاوج طاقة المثقف وانتاجه المرتبط غائيا بالمجتمع واقتصاد العالم، ينتج عنهما معرفة ثالثة نافذة من أشكال لها وجود المادة والروح معا، وجود قابل للتحول المتبادل،  شكلا وموضوعا وكتلة. دون أن  يؤلف نقضاً للمفاهيم والخصائص التي تتصف بها المادة، وتشكل ( كيانا لطاقة متفاعلة باستمرار تمثل الصورة الجديدة للعالم). ويمكن التعبير عنها، باستخدام وحدات جمالية مستنبطة من المجتمع والواقع، ومستولدة من الطبيعية ورؤى الانسان الفاعل في الخصائص الاساسية: ومنها مصدر الوحدات الجمالية اللازمة لفن (العمليات) الذي تشعه كيميائيا بألوان الخطوط الطيفية، لتجد بالالوان النقية، تعبيرها الفني المتميز، وذلك ( برسم صورة او تشييد نموذج) للعالم باعتباره، (كياناً من عمليات). ولئن أمكن  تطبيق ذلك في مجال فن الانسان، فإن الفنان سيعيد ترتيب مفردات الطبيعة بمعمار جمالي آخر، يعبر عن فن انساني جديد. وسيعيد بواسطته، خلق نفسه ورؤيته ومواقفه، ضمن وحدات فن البشرية المستقبلي.. وبمساعدة مفهوم: (أن العالم كيان من عمليات). وهذه ليست إيقونة متخيلة من الرغبات، بقدر ماهي منهج وعلم، يمتلكان آلية تطبيق وضعية. 

تلك هي مفاصل من  ملامح حضارة شخصية وخلفية ثقافية، يمكننا الآن الحديث عنها وعن محبة الفنانين الآخرين  لتجارب أولئك المبدعين المؤثرين بمسيرة الفنون التشكيلية في العالم، أكسبتنا جميعا، المزيد من الخبرة والتواصل مع تجارب آخرين من أجيال جديدة. كما منحتنا حوافز جوهرية للرسم وتطوير التجارب الفنية التي نمارس جانبا من صياغاتها التجريبية التعبيرية النقدية وباشكال حديثة تتصاعد مع المضمون الملتزم بقضايا المجتمع وبروح المستقبل (*).

 في بداية محاولتنا في الرسم، لم نفطن أننا وقعنا في إشكال آخر، عندما رسمنا كما فعل (سيزان)، من حيث بناء اللوحة واختيار الألوان والتأكيد على الأزرق والأخضر والبنفسجي والبرتقالي ومشتقاتها، واعتماد الأشكال الهندسية المرنة ونقاوة اللمسات اللونية الممزوجة بالضوء واشعاعيته في الطبيعة..كما أن طواعية المشاعر الخاصة التي تعكسها الانطباعية، هي التي دفعتنا إلى إيجاد توازن هندسي طري جعلنا ننشغل برؤية الأشياء من الداخل، دون التحرر من الوضع المتميز لبناءات "سيزان"، فهو قد حرر نفسه مما تفرضه الرومانسية من شروط وانه في تحول شكلي مفتوح.. كان يعالج تخطيطه بالفرشاة ثم يكون السطوح ويشغل فضاءاتها بحجوم تتجه في الأغلب نحو نقطة مركزية، تلملم حولها ما يقع ضمن إطار المربع أو الدائرة أو متوازي المستطيلات آو المخروط.  وبذلك يكون الشكل لديه غير مجزأ.. ثم يبدأ باختيار الألوان الثرية المكتنزة حيوية وطراوة، المشبعة بالضوء.. هو يعنى بالبناء أيضاً عنايته باللون والتركيب، وذلك بإحداث تغيير في زاوية رؤية الأشياء عن طريق التحوير المقصود في الوضع الطبيعي للمرئيات ومنظورها، وأحداث تغيير في الضوء الطبيعي وجعله ذا اتجاه تصويري.

إن ظهور  هذا الاتجاه الاخير في الفن التشكيلي بتلك القوة في لوحات براك وبيكاسو، بتاثير من تجربة بول سيزان، إنما لأن الرؤية المستولدة عن ذلك،  كانت تعتمد (لحظات خاطفة) من تفاعل العقل الواعي واللاواعي، في ومضات سطوح الاشياء وغموضها، ويحاول النفاذ الى واقعها.

 وكما تمكن سيزان ان يفصل (إدراكه الحسي) بالطبيعة، وماتفعله (وراء ذلك الحس) أي (إثارة التراكمات) المترسبة في العقل اللاواعي عكس الفنان (كلود مونيه) أيضا، تأثيرات الضوء المباشرة وفعلها الفيزياوي على الحواس وفي (شبكية العين بالحصر) في هذا الصراع بين ماترسله الحواس الى العقل الواعي، وماتثيره من (كوامن) في العقل الباطن في اعمال الفنانين ظهر (ماتيس- 1869-1954) واسلوب (الوحشيين جماعته (أطلق الناقد لويس نوكسيل هذا الاسم عليهم عام 1905). كان هذا الاسلوب حسب ماعبر عنه (ماتيس) يعتمد (التعبير) أي اعتماد تفاعل (العقل اللاواعي) كما يحدث في بعض (الاحلام) مع العقل الواعي، ويقول، العمل الفني (فكري) أي اعتماد (الوعي) الذي يتضمن فعل (التنظيم) أي وضوح الصورة و (التعبير) أي نقاء الحس (فعل اللاوعي) ..لاحظ: (هربرت ريد/الموجز ص/32) أي (الادراك) الغامض للشئ (فعل اللاوعي) (*)

 وإذا كان "بيكاسو" "1881-1973" ( توفي ظهر يوم الأحد 8 نيسان على اثر مرض سببته نزله برد ) وجورج براك "1881-1963" ( قد تعلما من سيزان  كيف تتكون النظرة الهندسية في الطبيعة لإيجاد الأشكال المجردة بمساحات هابطة وأفقية وخطوط متضادة، حادة ولينة، ملتقية ومتوازية، عمودية ومستوية )، فإننا قد اتجهت إلى اللون عند سيزان.. وقبل هذا لم نكن نعي حقيقة التركيب الضوئي الذي كان يقصده في لوحاته التي مادتها الطبيعة والإنسان والفواكه والخضراوات، وتلك المشاهد التي كرر رسمها من مقاطعة أكس آن بروفانس، وقمة القديس فكتور وقرية استاك.. وكنا نعتقد أن هدفه في التصوير كأولئك الذين يعملون على إتمام الصورة وإجادة صنعتها، ولكننا الآن أصبحنا مقتنعين بأن رساماً مثله لا يمكنه التفكير بهذا الأسلوب.. فالاتجاه إلى الصناعة التي تطمس معاني الفن بمحو العلاقات اللامرئية، الأساس في تتابع الصلات الرقيقة بين ذات الفنان وإنتاجه: "كل عالم قائم بذاته ومنفصل، ولكن إيجاد العلاقة بينها مهم وضروري" وهذا ما استحوذ علينا في الآونة الاخيرة، أي الفترة التي نراجع فيها ما قدمناه  قبل انهائنا الدراسة الفنية، وابتداءً من إقامتنا للمعارض الشخصية عام 1964 وانتهاءً في 1/1/1969 حيث المعرض الخاص بالملصقات الجدارية. (*) انقطعنا بعد هذه الفترة عن التفكير بالمعارض الشخصية لظروفنا الخاصة، ولعدم قدرتنا على استيعاب المرحلة التاريخية التي تمر بوطننا العربي عموماً باحثين عن صياغة تقنية حديثة تخدم رؤيتنا لنحقق إحدى دعائم تشكلنا مع أحداث العالم وحضارته القائمة على العلم والاستفادة من كل أبعاد التكنولوجيا المعاصرة.. كانت تلك الأسباب مقنعة لي في أقل احتمال، بالكف عن إقامة معارض الفن الشخصية..

 من هنا يكون المدخل إلى قراءة بدايات (الفن الحديث) مع ( .. بواكير القرن العشرين وتطور التكنولوجية تطوراً معقداً وسريعاً معتمدا تطور علوم الفيزياء الحديثة (الالكترونية) بالخصوص، وعلم البيولوجيا منها على الحصر (طبيعة الجينات الحياتية وهندستها الوراثية وسلوكها الغريب طبيعة تركيب المادة الذري، إنعكس ذلك الاتجاه العلمي على دراسة سلوك الانسان في ضوء ماجاء به (كارل ماركس وفرويد ويونك وادلر ووليم وجيمس وشكنر واريك فروم (*) وغيرهم من العلماء والفلاسفة وعلم النفس الفردي والانثروبولوجي فاصبح الانسان كالمادة له (شكل وجوهر)، أي تكون وجوده الفكري والسلوكي من الصراع القائم بين عقله الواعي (المادي) المستقر وعقله الباطن القلق، أي الصراع بين الرؤية البصرية التي تعتمد (المنطق) وقلق (اللاوعي)

كان (كاندنسكي) هو الفنان الفعال في التعبير عن رؤياه الداخلية، و الممثل  للخلفية الروحية لحياة الاشياء في اعماله الفنية وكان يعتمد اصول الفلسفة المثالية التي جاء بها (نيتشه وشوبنهاور(*)) كأساسات لها (راجع نيتشه/ هكذا تكلم زرادشت ص64(*). وقد تطور هذا الاتجاه في منتصف القرن العشرين في اوروبا وامريكا برعاية الفكر البورجوازي، وظهر في اعمال فنانين كبار الى حالة لم يهجر الفنان عالمه المحسوس فحسب بل والمجتمع ايضاً، واصبح الفن، فردياً، منعزلاً، يعتمد فعل (اللاوعي) الذي يشبه فعل (جسيمات) الذرة المجهرية (حسب رأي التجريديين المثاليين) وهذا ما رفضه العلم الحديث لدراسة الانسان، في حالة انفصال (اللاوعي) عن الوعي في العمل الفني.  وفي حال سيطرة الاول، فربما سيفقد الفنان حسه الاجتماعي، الجذر الاساس الذي يعتمده بناء الشخصية.  

 

4- منهج التفكير الجمالي  . (*)

إن وظيفة الفن الوحيدة، تحتل مكانا في نطاق العلم أكثر مما تحتله في نطاق الفن . لتكوين مدرك للفن كجزء من العملية العضوية للتطور البشري.مما يقودنا الى السؤال عن ماهية الفن.اذا اعتبرناه ليس مجرد أشياء. فهو كائن في كل ما نصنعه لإمتاع حواسنا،.لأن هناك عنصرا جماليا في عملية الإدراك ذاتها . لهذا نجد (أن المعنى الحقيقي لكلمة شكل أو هيئة هو اتخاذ شكل أو هيئة معينة) .وهذا هو معنى الشكل في الفن ولا فرق بين البناء المعماري أو التمثال أو الصورة أو القصيدة أو المعزوفة فجميع هذه الأشياء تتخذ شكلا معينا خاصة . وهذا هو شكل أو هيئة العمل الفني ). وإن الشكل لا يمكن إدراكه إلا باعتباره لونا ولا يمكن الفصل بين ما نراه كشكل وما نراه كلون لأن اللون هو تفاعل يحدث بين شكل من الأشكال وبين الأشعة الضوئية الساقطة عليه . والتي بها نرى الشكل وما اللون إلا المظهر الخارجي للشكل، ومع ذلك فإن للون دورا هاما يلعبه في الفن لأن له تأثيرا مباشرا على حواسنا.   و أن التنوع في المجال اللوني يتمشى مع التنوع في انفعالاتنا. وقد يكون هناك تفسير فسيولوجي لهذا التوازن بين الألوان والإنفعالات . 

والخلاصة:  إن العمل الفني (*) يرتكز دائما على مبدأين أساسيين هما : (مبدأ الشكل)، وهو مشتق من العالم العضوي ومن الجانب الموضوعي العام لجميع الأعمال الفنية . أما الثاني فهو (مبدأ الإبداع) الذي يختص به عقل الإنسان ويدفعه إلى ابتكار وتذوق ابتكار الرموز والأخيلة والأساطير التي تتخذ لنفسها وجودا عاما . أما الإبتكار فهو وظيفة من وظائف التخيل(*)  .ويصل هذان النوعان من النشاط العقلي في تفاعلهما معا إلى ما هو ابعد بكثير من جميع الجوانب النفسية للخبرة الجمالية، غير أن للفن جوانب اخرى، بيولوجية واجتماعية لا يمكن لنا أن نقلل من أهميتها (*). كما الحياة ذاتها جمالية في منابعها الجوهرية والخفية، اذ أنها ناتجة عن تجسيد الطاقة في شكل لا يكون ماديا فحسب، بل جماليا أيضا. وهذا هو المبدأ الشكلي الذي نلحظه في تطور الكون ذاته. (*) ويبدو أنه كلما استطاع عالم الطبيعة أن يميط اللثام عن البناء الطبيعي للعالم كلما اعتمد على توافق عددي له جوانبه الجمالية الممتعة. ولا يقل عالم الطبيعة عن عالم الجمال استعدادا في تقبل نظرة إلى الكون ترى أن التباعد بين الخبرة الجمالية وما وراء الجمالية وبين الخبرة العلمية وما وراء العملية هو اساسا تباعد بين ما هو قابل للقياس وما هو غير قابل له .وما بين الملموس وغير الملموس) (*) .

عن مفهوم الجمال يقول أوسكار وايلد (.. الجمال نوع من العبقرية بل هو حقا أرقى من العبقرية أنه يحتاج الى تفسير، فهو من بين الحقائق العظيمة في هذا العالم أنه مثل شروق الشمس أو انعكاس صدفة فضية نسميها القمر على صفحة المياه المظلمة ). وفي تعريف الفن أن هناك تصنيفات عدة للفنون يصعب ان نحيط بها بها في هذا السياق،لكنها في صورته النهائية كما وصلت إلينا خلال القرن العشرين تقوم كما يقول (تتار كيفتش) على ثلاثة افتراضات اساسية :

1-  ان هناك منظومة محددة للفنون جمعاء . 2- أن هناك تفرقة واجبة بين الفنون والحرف والعلوم. 3 - ان الفنون تتميز بأنها تبحث عن الجمال وتحاول أن تصل إليه. وكذلك ان الفن يشتمل على كل الأنظمة أو المجالات الإبداعية مثل : الشعر والدراما والموسيقى والرقص والفنون البصرية وتشمل الفنون البصرية على كل النشاطات الإبداعية في  الفنون البصرية الرئيسة وهي : الرسم والنحت والعمارة. (*)

------------------------------------------------------

(*) - .( المصدر: كتاب: تعريف مفهوم الفن - المؤلف : هربرت ريد- سلسلة تصدر برعاية الشيخ الدكتور سلطان القاسمي - مركز الشارقة للإبداع الفكري (مكتبة الفنون التشكيلية (*))  

---------------------------------------------------------------------

5 – لماذا السؤال عن تعريف الفن، وعن ماهيته، ومعنى الشكل في الفن، وهدف الفن  وغايته ؟

 ( هل لأن الفن ليس مجرد أشياء توجد في المتاحف وفي معارض الفن والمدن القديمة..  أم هل أن تعريفنا للفن الموجود، هو كائن في كل ما نصنعه لإمتاع حواسنا(*)(هل لأن هناك عنصرا جماليا في عملية الإدراك ذاتها . أم ان الحواس عامة بين البشر وقابلة لشتى أنواع التأثيرات، كما أنها متشابكة بعضها مع البعض الآخر، فنقول أن الثلج يتشكل فوق البحيرة وان قطرات الندى تتشكل فوق غصن الشجرة(*) وهكذا نجد أن المعنى الحقيقي لكلمة شكل أو هيئة هو اتخاذ شكل أو هيئة معينة . وهذا هو معنى الشكل في الفن(*) ولا فرق بين البناء المعماري أو التمثال أو الصورة أو القصيدة أو المعزوفة فجميع هذه الأشياء تتخذ شكلا معينا خاصة . وهذا هو شكل أو هيئة العمل الفنيالذي اعتقد به هربرت ريد. (*) ولكنه ليس المعنى المتكامل المتطور مع ضرورة التحولات الحضارية التي طرأت على العقل والبدن والذهن واليد والمشاعر والعواطففي المرحلة الراهنة، .  .وكان يظن البعض من المجتهدين بالتنظيرللفن، بأن الشكل، في حقيقة الأمر،  لا يمكن إدراكه إلا باعتباره لونا، ولا يمكن الفصل بين ما نراه كشكل وما نراه كلون، لأن اللون هو تفاعل يحدث بين شكل من الأشكال وبين الأشعة الضوئية الساقطة عليه(*) . والتي بها نرى الشكل. وما اللون إلا المظهر الخارجي للشكل، ومع ذلك فإن للون دورا هاما يلعبه في الفن، لأن له تأثيرا مباشرا على حواسنا(*). ان التنوع في المجال اللوني يتمشى مع التنوع في انفعالاتنا، فاللون الأحمر يتمشى مع انفعال الغضب، واللون الأزرق يتمشى مع انفعال الشوق، هناك تفسير فسيولوجي لهذا التوازن بين الألوان والإنفعالات . إذ أن عدد الموجات أو الأشعة الضوئية الساقطة على شبكة العين هو الذي يقرر ما نحس به من متعة أو ضيق وهذا هو الجانب الفسيولوجي للون، إلا أن للون جوانبه السيكولوجية أيضا . وثمة من يفضل الوانا على ألوان أخرى، لأنه يربطها بما يجب أو بما لا يجب بوجه عام فمن الناس من يحب اللون الأخضر لارتباطه بفصل الربيع ومنهم من يحب اللون الأزرق لأنه يذكرهم بزرقة السماء في منطقة معينة ومنهم من يكره اللون الأحمر لأنه مرتبط في أذهانهم بالخطر أو الثيران المجنونه. وقد يكون الإحساس بالسرور أو الضيق جذور في اللاشعور وهي جزء من التكوين المزاجي لكل فرد.) (*)

وينبغي في دراسة الالوان في العمل الفني أن نذكر حقيقتين: الأولى:  أن أداة التسجيل: التي هي  العين البشرية وما يتصل بها من جهاز عصبي تختلف من حيث الكفاية من شخص إلى آخر بنفس الطريقة التي تختلف بها أجهزة الاستقبال اللاسلكية من حيث الكفاية فيما بينها والحقيقة الثانية هي انه عندما نستخدم اللون لتصوير شيء ما أي لإعطاء محاكاة تصويرية له يجد الفنان أن للون خصائص بصرية معينة يمكن استخدامها للتعبير عن الفراغ وبذلك يمكن التعبير عن الشكل ذي الأبعاد الثلاثة فاللون الأحمر مثلا يبدو بارزا عن سطح اللوحة،كما يبدو اللون الأزرق وكأنه غائر فيها . ولكننا نعالج الخصائص العامة للعمل الفني) (*) .

هناك: مبدأ الشكل، وهو مشتق في رأينا من العالم العضوي ومن الجانب الموضوعي العام لجميع الأعمال الفنية . أما المبدأ الثاني فهو مبدأ الإبداع الذي يختص به عقل الإنسان ويدفعه إلى ابتكار وتذوق ابتكار الرموز والأخيلة والأساطير التي تتخذ لنفسها وجودا عاما . أما الإبتكار فهو وظيفة من وظائف التخيل .، غير أن للفن جوانب اخرى بيولوجية واجتماعية لا يمكن لنا أن نقلل من أهميتها . وأني اعتقد أن الحياة ذاتها جمالية في منابعها الجوهرية والخفية اذ أنها ناتجة عن تجسيد الطاقة في شكل لا يكون ماديا فحسب، بل جماليا أيضا. وهذا هو المبدأ الشكلي الذي نلحظه في تطور الكون ذاته.. ولا يقل عالم الطبيعة عن عالم الجمال استعدادا في تقبل نظرة إلى الكون ترى أن التباعد بين الخبرة الجمالية وما وراء الجمالية وبين الخبرة العلمية وما وراء العملية هو اساسا تباعد بين ما هو قابل للقياس وما هو غير قابل له .وما بين الملموس وغير الملموس )

 -------------------------------------------------------------------. 

(*)– المرجع - اسم الكتاب : تعريف مفهوم الفن - المؤلف : هربرت ريد - مركز الشارقة للإبداع الفكري- مكتبة الفنون التشكيلية)

(*) -  .وفي نطاق تعريف الفن: ان هناك تصنيفات عدة للفنون تقوم على ثلاثة افتراضات أساسية :

 1- ان هناك منظومة محددة للفنون جمعاء . 2- أن هناك تفرقة واجبة بين الفنون والحرف والعلوم. 3 -  ان الفنون تتميز بأنها تبحث عن الجمال وتحاول أن تصل إليه. وكذلك ان الفن يشتمل على كل الأنظمة أو المجالات الإبداعية مثل : الشعر والدراما والموسيقا والرقص والفنون البصرية وتشمل الفنون البصرية على كل النشاطات الإبداعية التي تسعى إلى توصيل رسالتها - أيا كانت - من خلال مخاطبة اشكال فنية أساسا، كما أنه يمكن تقسيم الفنون البصرية إلى ثلاثة فئات رئيسية وهي : التصوير والنحت والعمارة وبالطبع يمكن تقسيم كل فئة من الفئات الأخيرة إلى أنواع فرعية أكثر تحديدا .

(*)– المرجع - اسم الكتاب : تعريف مفهوم الفن - المؤلف : هربرت ريد - مركز الشارقة للإبداع الفكري- مكتبة الفنون التشكيلية

 ------------------------------------------------

 3

6 – قيمة النقد الجمالية والوظيفية  (*)

العمل  الفني، مسبوق بشروط نقدية

 

هناك فئة من المتابعين للفنون بعامة، ولأدب النقد الفني التشكيلي يخاصة، ترى، أنه لا يمكن أن يكون ذلك " الناقد "، من الأدباء الذين لا يمتلكون خبرة فنية، بل ممن درس الفن إلى جانب الأدب، واهتم بتطور الفن المستمر.. ذلك، لأن الموقف النقدي السائد، تشيع فيه الأحكام التعميمية المجانية، والتي تورمت بشكل غير ذي بال. وقد ساهمت الصحافة الفنية بدور بات من الصعب معه، التحقق من صحة ما يطرحه الفنان.

هذه الملاحظة، لا تشكلها آراء متسرعة، إنما هي واقع ما يقال عن النقد الفني، الذي لم يكن نقداً جماليا في ضوء النظرة العلمية المعاصرة. وكان ينبغي على الفنانين أنفسهم معارضة (ظاهرة اقتحام غير المتخصصين لميدان النقد الفني) وبسبب ذلك سادت النظرة الإجمالية السريعة التي ضاعت فيها نوعيات الأساليب الفنية وتفردها. وقد تكررت مثل هذه الأمور خلال فترات مختلفة في تاريخ الفنون الحديثة في الوطن العربي. لم يعد النقاد يكتبون عن الفنانين وحدهم، بل اصبحوا يكتبون أيضاً لمحبي الفنون. ومن الضروري تبرير ذلك التصرف على حساب تجارب المبدعين. ولا يزال هناك قدر من المعارضة بين الفنانين لظاهرة اقتحام غير المتخصصين لميدان النقد لأنهم وضعوا أنفسهم بدور القاضي في مسائل الفن وانتهى ذلك إلى وجوب إعطاء المثقف غير المتخصص الحق المطلوب في القيام بهذا العمل إلا في المسائل التقنية البحتة. وتمشياً مع هذا الرأي، قلت نسبة معالجة المسائل التكتيكية التي تعالج في كتابات المؤلفين النظريين، الأحدث عهداً بصورة ملحوظة. وهكذا ظهرت بالتدريج نظرية جمالية (لا تكتفي بتجاهل العنصر اليدوي) بل تخص ما هو نوعي في الفنون المنفردة، وتتجه إلى تكوين نظرة عامة إلى الفن.. ومن هنا تظهر الحاجة إلى الدراسات النظرية في المعاهد والأكاديميات الفنية ووضع منهج علمي يتضمن النقد الفني وعلم الجماليات في ضوء متغيرات العصر الحديث.  يخوض الناقد العلمي الحقيقي الموضوعي الصادق في مواقفه النقدية،غمار تجربة نادرة ومتعبة في أدب النقد الفني التشكيلي العربي، وهي على قلة المغامرين في بحرها، تتجلى في صعوبتهاالمرهقة، لتكشف عن المقدرة البحثية ومعاركة الباحث الناقد  لأحراشها في شعابها وثناياها. وهذه التجربة ليست الأولى، فقد سبق وأن تم نشر كتاب أحزان القصب بالاتجاه ذاته عام 1978 عن الدار العربية للنشر في بغداد التي دمجت لاحقا في دائرة الشؤون الثقافية. وكذلك صدر في المسرى اياه كتاب طائر الشوف الأصفر عن المجمع الثقافي في أبو ظبي عام 2000م. وقد أرفقا بلوحات وتخطيطات وصور توثيقية. وفي مجال الاهتمام بالنقد الفني التشكيلي وبالنقد الأدبي، تبلورت رؤية انسحبت على مجمل الكتب التي ذكرناها في هذا المسار، أنه يرى:

1 -  في النقد (هندسة حيوية للذهن): كما رأى "الخطيبي" (*) (النقد الدائري، يقول الشيء نفسه بواسطة تطوير يعود دائما فيما هو ينكشف على أعقابه، إلى نقطة انطلاقه،  و  يرغب في توحيد الزمن دفعة واحدة ...) (*)

 2- النقد الخطي: يتأسس هذا النقد كنظام له بالتأكيد بداية. لكن النهاية ليست مجزأة في داخلها فحسب، بل إنها مفصولة عن البداية وعن كل شيء.

3- النقد المنتظم: هو بداية مطلقة، أفقه ليس مرمى نهاية أو مقصد، بل بالقياس إلى نقطة " هجومه" وقوة ضربه . إنه يبدأ بشكل ما دون نهاية" ( الخطيبي) ن.م، ص 195

هناك نقاط جوهرية اخرى منها: من يحدد حضورنا ؟ ماقيمة وجودنا في التاريخ بصفته ممارسة نقدية لما يحدد وجودنا هنا والآن؟ ). وإذا حررنا مشكلة التاريخ: فمعنى ذلك أننا سنزعزع دعائم النظام المسيطر للمعرفة الحالية: " (سوسيولوجيا العالم العربي ( مواقف) " في: النقد المزدوج، ترجمة) دار العودة، بيروت 1980،  ص163- ص164. 

 يتحدث الخطيبي عن نقد مزدوج، مهمته الاستراتيجية:

" 1- تقليص المفهومية الميتافيزيقية الناتجة عن المصدرين: المصدر الغربي، ومصدر الثقافة العربية

  2- أن نعيد التفكير في مقومات وإيجابية العلوم الاجتماعية الرائجة على ضوء إدراك مختلف للتاريخ. (" العلم والتقنية والفلسفة " مداخلة في الجمع التأسيسي للجمعية الفلسفية المغربية 1995 في: مجلة مدارات فلسفية، العدد الأول 1998، ص 8.)

هكذا نتفاجأ بجمالية منهجية  النقد التشكيلي القيمية، وخصوصيته، وتميزها عن سائر المحاولات النقدية التشكيلية والأدبية الأخرى. ونحن نتابع المداخل وتحولاته عبرها في مختلف الفعاليات والأنشطة الثقافية والنتاجات الابداعية. وهو يسعى الى الربط بين مفاصل تجربته وحضارته الشخصية في الفن والأدب.

إن الذوق الفني لا يولد مع الإنسان إنما ينغرس فيه ويتطور ويتكامل مع الزمن وحسب ارتباط حياة الإنسان بالتجربة التشكيلية.. وكثير من الناس، لا يتحمس لبعض المظاهر الفنية، أو انهم لا يتذوقون بعض الأعمال الفنية الأخرى، لأن التذوق والتحسس لفن من الفنون يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعوامل النفسية وبالتهيؤ الثقافي والخلقي للفرد وبالعوامل الاقتصادية أيضاً.

من هنا تأتي جسامة المسؤولية التي تقع على عاتق الذين يكتبون في مجال الفن..

ومن بينهم في الأردن (حسين دعسة ومحمد العامري). كما أن هناك مسؤولية إضافية في مجال البحث الفني ينبغي الانتباه إليها.. فهل هما ناقدان لإعمالهما الفنية أيضا ؟ انهما يولدان مع كل تجربة في الفن، ولكن تجبرهما وسائل التعبير الأخرى التي يطاولان بها أنفسهما والآخرين، وتجبرهما الحياة معاً على ولادة نفسيهما ثانيةً، ولمرات عديدة، عبر وسيلة اتصال أخرى، هي الكتابة في الفن أو النقد الفني.. وهي مصيدة سعادة يستحيل عليهما الفرار منها أمام مرآة أنفسهما.. لكن الشيء الوحيد الذي يمكنهما أن يقدماه إلى الآخرين، هو محاولة توصيل ما يطرحه الفنانون من تجارب، تحولت بفعل الشوق والحنين، إلى التعبير عن واقع فني لن يصير كهلاً أبداً وتلك هي روح الإبداع في العمل الخلاق.

الآن. مالذي ستفعله معرفتنا بتاريخ الفنون وبقيم النقد الفني التشكيلي، من أجل أن يؤدي دوره وغرضه وقيمته الجمالية والوظيفية، وبالصورة الموجزة، لكي يحتل مكانته اللائقة في الوطن العربي؟ وهل استطاع الفنانون أن يقتنعوا ويقدروا ويؤمنوا بأن الفن يحمل في تضاعيفه وتفاسيره، معاني العلم، ومعاني حقائق التقدم والإرتقاء؟. سيكون الجواب إيجابيا، إذا سعت جهود المبدعين في هذه المرحلة، إلى التميز بوحدة الأنشطة الإنسانية لبلورة الهوية الحقيقية، وبلوغ ما يمكنهم استشرافه وتحقيقه، من مجد، ليجعلوا من تجربتهم الراهنة في الفنون المعاصرة القائمة، ( فنا إنسانيا شاملا في المستقبل. (*) 

 

7 – تفسيرمجال تاريخ الفن وأدب النقد الفني التشكيلي (*)

نعم. عندما يؤمن الفنان البارع الملتزم، بقيم وتراث امته، ويعرف دوره وواجبه، لكي يحتل مكانته اللائقة في الفن والحياة، فإنه سينتمي لتفاصيل هذا التوجه المستقبلي. وعندما يسعى الكاتب (في مجال تاريخ الفن وأدب النقد الفني التشكيلي) لتفسير ذلك، وفي إطار ما يريد قوله، فانه سيأتي بالأدلة والبراهين، إذ هو يسعى إلى إدراك الفكرة و توصيلها بسهولة و يسر  وتبسيط الى المتلقي، بالايضاح و التحديد و التكثيف والتركيز والصدق، والدفاع عن استقلالية العمل الفني وتبرير تحولاته من تصوير الواقع ومفردات الطبيعة .. ومن البحث في الضوء واللون والتأثيرية، على التعبيرعن الفكر والرؤى الماورائية. وبدلا من أن يكون العمل الفني، بمثابة نافذة نشاهد من خلالها صورة عن العالم الخارجي، أصبحت اللوحة مجرد مساحة مسطحة نعالج عليها طرق المزج اللوني. وتلك هي الاشارة إلى فن المفاهيم. وعندما اقترح الكثير من صفوة نقدة الفنون، الابتعاد عن استخدام المنظور وعدم تجسيد الشكل من خلال الظل والنور والتأكيد على استخدام الأشكال الهندسية والابتعاد عن استخدام المزج اللوني الرقيق والإقتصار على بعدين على مسطح العمل الفني، والجمع بين الأزمنة والأمكنة في حيز واحد، واعتماد المنظور الجوي والمنظور الارضي، إنما كان قد اقترح وتم تطبيقه في رسومات الواسطي وبهزاد وابن عزيز وكانت من صفات وخصائص رسوم المصورين المسلمين. قبل هؤلاء بأكثر من ثمانية قرون خلت. بركائز وتقاليد ثابتة. أما الإدعاء بأولوية ظهور مثل تلك الإتجاهات الفنية، تعود إلى الأوربيين وحدهم، فهذا جهل بالتاريخ وبالحضارة العربية والإسلامية. كان قد شملهم وشمل  البعض منا، كما هو جهل  ببعض التجارب في هذا الميدان التي سبقت ما تدعى (أفكار جرينبرج)، مثل أعمال الفنان الروسي كازيمير مالافيتش العام 1913 وأسلوبه المعروف بـ التفوقية وأعمال مدرسة الباوهاوس في ألمانيا ومدرسة الأسلوب في هولندة. وبينما نتحدث عن ريادة تجارب الغربيين، نتجاهل تجاربنا الرائعة التي انتجت في تلك الفترات أيضا، إذ قدم مجموعة من الفنانين العرب في الثلاثينيات من القرن الماضي لوحات تجريدية تعبيرية وسريالية مثل أعمال رمسيس يونان واعضاء جماعة أبولو  وجماعة الفن الحديث وجماعات طليعية أخرى في مصر والعراق والمغرب العربي، وفي الشام  مقابل فترة الخمسينيات حيث أنتج جاكسون بولوك ومارك رثكو، لوحات مشابهة مستلة من اللبيدو الرمزي الباطني للفنان وبأسلوبومعالجة مبسطة احيانا  وتجريدية مركبة احيانا كثيرة. وبتأثير كليف بيل أنتج مجموعة من الفنانين في الستينيات من هذا القرن لوحات أحادية اللون مثل أعمال إيف كلاين وبيرومانزوني وغيرهم، تسمى المونوكروم . بينما كان الفنانون العرب، قد تجاوزوا في هذه المرحلة الكثير من تجارب الغرب، ويبقى النقد الفني مترددا عن ذكرأهمية الرؤى الحداثوية المتقدمة للفنانين العرب والمسلمين، الذين أنتجوا أعمالا توصلوا بمفاهيمها الإنسانية المشتركة، إلى الاستقلالية والحرية لتمثل روح العصر، دون الحاجة إلى ضلالة رأي الناقد الإنجليزي (كليف بيل) بخصوص الوصول إلى الاستقلالية والحرية، فهو يقول: لكي نقدر العمل الفني علينا أن نجلب معنا لا شيء من الحياة• هكذا أصبح (التجريد والـلا شيء) صوراً تمثل روح العصرفي رأيه هو• ونحن نتساءل.. هل العملية ( تتطلب كفاحاً وصراعاً مستمرين بين الفنان الفرد، والمجتمع؟ ). وهذا ما نسعى اليه أيضا في حديثنا عن  التحولات الفنية التي  شهدتها منطقة الخليج العربي، ابتداء من ستينيات القرن العشرين المنصرم، وحتى الآن.  (*)

- كان لابد أن تؤكد مواقف الفنانين، على ضرورة التوجه، مع سائرالمثقفين، برؤاهم المستقبلية الإيجابية، إلى إحلال واقع أكثر إنسانية في حياة البشر، دون مغادرة حدود الممكن، والفصل بين ما يتضمنه الواقع، وما يتخيله المرء في (المشتهى والمأمول) عند التطبيق، لكي يكون ذلك الموقف مؤثرا وكبيراً، يعزز من حضور الفنون والآداب والعلوم والمعرفة الشاملة في المستقبل.. من هنا يظهر دور المثقفين في نشر وتدعيم الرؤية الإنسانية العالمية، ومنهم المؤرخون الذين تكمن أهميتهم بقدراتهم على استنهاض قيم ومباديء إنسانية سامية من أحداث وتجارب التاريخ، واستحضار الشواهد التي تدعم التوجهات العلمية، وتؤكد على الرؤية المنفتحة على آفاق الحرية. ومنهم أيضا رجال الإعلام، في توصيل الحقائق. ومنهم الأدباء بمواقفهم الجوهرية الثابتة، وتقديمها بصورة بارعة وجاذبة. ومنهم الفنانون ومسؤوليتهم الكبيرة في تنمية القيم الروحية والجمالية بخطاب يقدم رؤية موضوعية، وضعية متفاعلة مع أحداث العالم. ومنهم (المرأة العربية) في تفاصيل الفروع الانسانية كافة، فهي تلعب دورا مؤثرا في مجمل التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، لأنها (كيان جوهري وحيوي) من التحولات الاجتماعية والمعرفية و السياسية التي تعصف بجغرافية المنطقة، ولها فكر وموقف ومنطلق وأفق يؤثر بالعوامل المجتمعية. تبحث ضمن حركة التاريخ الانساني، وبالحوار المشترك مع الحضارات الأخرى، عن لغة حياة جديدة من التطور العلمي بآلياته المتقدمة في إطار من المحبة والسلام. (*)

- هل، نحن بحاجة ضرورية إلى دعم صفوة من المبدعين، من الأدباء والفنانين والمفكّرين الاجتماعيين، لتفعيل ذلك التوجه المستقبلي ؟  وهل ينبغي مواجهة «عوالم جديدة»، وقوّى ـ ماليّة وتقنيّة، جعلت القدرات التكنولوجيّة الجديدة ـ ميدان الكائن الحيّ والدراسات الهندسيّة المشتركة والإعلام والآلات الأوتوماتكية والاتّصال والشبكات والافتراضي والمخيال التقني. في ظل اكتشافات المناطق الرخوة من عالم الفقراء. أي في المجتمعات والحضارات التي ضعف فيها التقليد، وظهرت طبقات اللاّمساواة الجديدة.، فاندرج كلّ من المبدع الحداثيّ والسياسيّ التقدّمي ورجل الأعمال المجدّد بتحرير الفرد: المبدع والمغير القادر على إحداث عهود ذهبيّة قادمة. وصنع أيّام انتصارات مؤجلة، (ستعلن عن زوال سحر العالم..) والتصالح مع العقل المستلب العاجز عن تفعيل فكرة العمل وما يوفره من إمكانات. وبهذه الصيغة والتحليل، (.. تعتبر الحداثة مفعّلة للرخاء، وتشجع البحث عن أفضل مكان بين الجالسين حول مائدة الاستهلاك الكبرى..) ويبدأ زمن العالم المحدود، المضيّق بفعل امتداد وتوسّع شبكات الاتّصال والوسائط بأنواعها والانفتاح على الخارج والأحداث والمجتمعات الأجنبيّة، ليتخذ منها غذاء مشبوها: للسلبية المستسلمة ولسوء التفاهم و(الفصل أو الإقصاء) ولأحلام الفرار والتغرب.. والمساهمة في تغذية وهم التحكّم العقلاني الكبير..).. ( حول هذا الموضوع، أصدر المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون بتونس ترجمة لكتاب «متحضرون على ما يقال»، الذي نشر بالفرنسية عام 2003، أنجزها الباحث عبد الرزاق الحليوي.) (*)

- كانت علة الظاهرة إننا، بعد ازدهار حضاري عظيم،  عشنا في فترة تردد العقل العربي خلالها عن الإبداع والتغيير والتقدم. وان اختلفت أثارها الثقافية على مظاهرها، فهي بالنتيجة حضارة ساكنة متلقية لثقافة أخرى تفاوتت في تأثيراتها وتغلغلها في حركات واتجاهات الثقافة والفنون عامة. والتشكيلية بخاصة، على سبيل المثال، ابداع العلماء والمفكرين المسلمين، والمجددين في الاسلام في العلوم كافة،  في عهودهم المشرقة كابن رشد وابن الهيثم والخوارزمي و بن سينا (أبو على بن سينا، الحسين بن عبدالله – وبخاصة كتابه: (القانون في الطب)، مؤكدين عليه نموذجا مستقبليا . كتب ابن سينا (370 - 428 هـ / 980 - 1037م) كتابه القانون في الأصل باللغة العربية، إلا أنه ترجم إلى الفارسية والتركية، ثم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر على يد جيرار دي كريمونا - GERAR GREMONA DE، وطبعت أجزاء من هذه الترجمة عدة مرات قبل سنه 1500م (ميلانو 1473م، بادوا 1476م، 1497م، البندقية 1483م). ).(*). 

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1545 الخميس 14/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم