قضايا وآراء

هل يستطيع العقل تفسير ما يحدث داخل خلية الإنسان؟ / بهجت عباس

 الذين جعلوا العقلَ مفسِّراً ومُدبِّـراً ومُخطِّطاً . ولكنْ لو عاش هؤلاء الفلاسفة في هذا الزمن، لربَّما غيّـروا من آرائهم ولو بعضَ الشيء، فليس كلّ ُ شيء يمكن تفسيره ولو استُعملتْ كلُّ العقـول . فالخلية البشرية مثلاً التي تشكّل الحجر الأساس لجسم الإنسان لم يتوصل العقل إلى كثير من غياهبها وأسرارها .

فبالرغم من اكتشاف الجينوم البشري بعد صرف مبلغ ثلاثة بلايين دولار وجهود خمسَ عشرةَ سنة من الأبحاث الجادة، يصرّح كريك فينتر Craig Venter أحد مشفِّري الجينوم في عام 2004 بأنّ (البروتين هو التركيب الباني للحياة، وليس الجينات . إننا لا نزال في المرحلة الأولى . وإنَّ 99% من الإكتشافات البيولوجية تنتظر دورها) . قالها بعد أن صرَّح من قبلُ بأنَّ في الخلية البشرية ثلاثمائة ألف نوع من البروتينات، وأنَّ المكتشفَ منها حتى اليومَ ثلاثة آلاف فقط ! هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، إنَّ أشياءً كثيرةً لا يعرف العقل لها جواباً . فمثلاً، إن جين النطق فوكس بي 2 (Fox P2 ) يملكه الإنسان والشمبانزي والفأر (أكتشف في أكتوبر 2001، ويوجد في نسختين ويكون مسؤولاً عن تطور مناطق الدِّماغ المسؤولة عن اللغة والكلام، وإنْ حدث أنْ أصاب تشوّهٌ إحدى النسختين، يصعب على الإنسان تحريكُ لسانِه وشفـتيه فيُـتأتئُ في كلامه أو يفقد النطق) . و الطفل لا يستطيع النطق، رغم وجود هذا الجين، ما لم تُمارَسْ تلك اللغة أمامه منذ البداية . ولكنَّ الشمبانزي و الفأر لا يستطيعان النطق بأيِّ لغة حتى لو نطقتَ بها أمامهما عشراتِ السِّـنين، وذلك لوجود تغيير بسيط في ذلك الجّين، وهو هنا (مَحوُ) بضعِ قواعدَ نتروجينية منه . كذلك جينات هوكس Hox 8، جينات الطيران، التي تُـرشد الطيرَ أين يضع جناحَه ورأسه حين يطير، وهي موجودة أيضاً في الفأر، فلماذا لا تُرشدُه على الطيران فيطير حتى لو وُضِعتْ له عشراتٌ من الأجنحة؟ يقول العلماء إن ثمة قطعاً من الدنا DNA تسمى المثيرات Promoters تلعب الدور، وهناك آلية الفتح والغلق switch on/off أيضاً، وهذا صحيح وثابت، ولكن لماذا يكون ثمة (فتح) في الجين  Fox P2 في الإنسان وHox 8  في الطير ويكون (غلق) فيهما في الشمبانزي والفأر على التوالي؟ ثمَّ إنَّ جينات الإنسولين مثلاً موجودات في كل خلية من خلايا الجسم، بشراً كان أم حيواناً، فلماذا تُـنتج خلية البنكرياسِ الإنسولينَ، ولا تُـنتجها خلية الإصبع أو القلب؟ ولماذا تكون كلّ جينات الخلية المخصبة (زايكوت) فعالةً (تُفتَـح) في أيامها الأولى فتنتج كلَّ أنواع البروتينات التي تحتاجها الخلية ويحتاجها الجسم في المستقبل، ولكنّها تتخصص بعد بضعة أسابيع فـ(تُـفـتَـح) جيناتٌ و(تُـغَـلق) أخرى؟ ولماذا يكون استنساخ الدنا ( أميناً )، وكتابتها لإنتاج الرنا RNA (صحيحاً) وترجمة الأخيرة إلى بروتين (دقيقةً)؟ ثم إنَّ تكوين البروتين يجري بدقة متناهية وبسرعة هي أقرب إلى الخيال . تصور أنَّ هناك ما يسمّى بالرايـبوزوم في الخلية وأنَّ نوعاً من الرنا الرسول  Messenger RNA ترتبط به بنظام خاص وأنَّ هذه الأخيرة تتكون من قواعد نتروجينية، تسمّى كل ثلاث منها كودون  Codon، وأنَّ هناك رنا ناقلة  Transfer RNAبأنواع عدة ومتخصّصة، تحمل في نهايتها ما يطابق الكودون والذي يسمّى أنتيكودون   Anticodon، وكل نوع من هذا الأخير يختص بنوع معين من حامض أميني تحمله الرنا الناقلة . تأتي هذه الرنا الناقلة محمَّـلةً بالحوامض الأمينية لترتبط بالرنا الرسول مُـلقـيةً حِـمْـلَـها من الحامض الأميني الذي يرتبط مع حامض أميني ثانٍ ألـقَـتْـه رنا ناقلة أخرى وثالث ورابع وهكذا بنظام معيَّن، ليكوِّن سلسلة ببتيد، وبارتباط عدد من سلاسل الببتيد يتكوَّن البروتين. ما الذي يجعل الرنا الرسول تحمل ذلك الحامض الأميني وليس غيرَه؟ وما الذي يجعلها تأتي في دورها وليس قبل غيرها أو بعدها، لتضع حِملَها في عملية تستغرق بعض الأجزاء من الثانية؟ والذي إنْ تمَّ من دون هذا النظام المعيّن، لا يتكوّن البروتين أو يتكوَّن ناقصاً أو شاذاً مما (يُـمـيتُ) الخليةَ ولا تتولّـد الحياة؟ وقد يحدث شذوذ بين حين وآخر، فيعاني الشخص مرضاً أو عاهة مستديمة أو قد يكون الموت نصيبه قبل الولادة أو بعدها تبعاً لنوع الغلط الحادث، إذ أنَّ أيَّ خلل في أيٍّ منهن يجعل الحياة عدماً أو لا تطاق؟ كما هي الحال مع مرض فقر دم الخلية المنجليـة مثلاً، حيث يـتـُمّ استبدال الحامض الأميني (فالين) بالحامض الأميني ( كلوتاميك )- حامض الكلوتاميك هو المُستبدَل- في سلسلتيْ الغلوبين بيـتا (من الهيموغلوبين)، اللتين تتـكوّنـان من ستّـمائة حامض أميني، نتيجة إحلال قاعدة نتروجينية واحدة خطأً محلَّ القاعدة الأصلية في الكودون الخاص به، وهي حال تسمّى (Single Nucleotide Polymorphisms، أو اختصاراً SNPs) (فيختطف المرضُ حياةَ المُصاب، ما لم يُستبدلْ دمه على الدوام. لماذا تتكون أربع خلايا جنسية (حيامن) في الانقسام (الميوزي) للخلية الجنسية في الذّكر، وكلّها (فعّالة)، بينما تتلاشى ثلاثُ خلايا جنسية (بيوض) بعد انقسام الخلية الجنسية في الأنثى وتبقى بيضة واحدة فقط (فعالة) قابلة للتخصيب؟ ولما كانت الميتاكوندريا، بين صالحة ومشوَّهة، متوزعة في البيوض اعتباطاً، لِمَ تكون المشوَّهة في واحدة منها أكثرَ عدداً أو خطورةً من الأخريات، والتي إنْ تخصّبتْ، فسيولد الطفل بمرض قد يُعيقه طيلةَ حياته أو أنْ يكون قاتلاً، بينما الأخ الناتج عن بيضة بعدد أقلَّ من هذه المُشوَّهات، يكون سليماً أو(محظوظاً)؟ والذي يتعمق في دراسة الجينات وتركيبها وطبيعة عملها وتأثير الواحد منها على الآخر، لا يرى إلاّ عجباً ولا يجد تفسيراً مقنعاً! فهل يستطيع العلم إيضاحَ ذلك؟ وهل توجَد قوة أو قوى خفيّة جبارة مُنظِّـمة (بكسر الظّاء) وراءَ ذلك، وإنْ وُجِدت، فما هي؟ هل تبقى هذه التساؤلات وتـزيد، ويظلّ العقل حائـراً؟ أم نقتنع بأنَّ ما يجري هو ديناميكيّة الطبيعة الخالدة وأتوماتيكيـّتها المستمرّة؟ أو برمجة الدّماغ الجبّار، كما يُبَرمَج الكمبيوتر، ومن الذي برمجه؟  فكم سنةً ينتظـر الإنسان ليعرفَ  أجوبـةَ هذه الأسئلة، عَشَراتٍ من السنين، مئـاتٍ، أو آلافـاً، أو ربَّما لا يكون ثمّـة تفسير إلى الأبد!

أو نردّد مع ريلكه :

( ولكن دعنا نفرح الآن برهةً

أن نعتقد في الشَّكل . هذا يكفي)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1561 السبت 30/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم