قضايا وآراء

الذين جاءوا بالمعاهدة، الذين عادوا البعث

يترافق الدم العراقي المراق بتزايد مخيف هذه الأيام بكم متناسب معه من خليط الإعلام المنافق والخائف والمخدوع، يدور في نفس الدائرة الفارغة التي تحمي القتلة من أحتمال الوصول إليهم. ويتمثل هذا الإعلام باجترار شتم مجموعة الأشباح التي لا يضيرها الشتم وتحميلها ذنوب الإرهاب التي تفخر بها، لو أنها موجودة فعلاً. فريق الأشباح الذي يتلقى الشتم بسرور يتكون من "القاعدة" و"قوى الظلام" و "الطائفية" و "التكفيريين" و "النواصب" و "البعث" (أي بعث؟) و "الإرهابيين" و "دول الجوار" (أي دول؟) و "المقاومة الشريفة" و "المقاومة غير الشريفة" و"قوى معروفة" و "قوى ذات أغراض سياسية"، وآخر ما أضيف إلى تلك القائمة "قوى غير تلك التي ارتكتب الإرهاب في السنوات  الماضية" .... يعني باختصار، كل ما يستحيل أن تمسكه يدك يصلح للإتهام، ولم يتم توجيه أي اتهام إلى شخص حقيقي محدد أو فئة حقيقية محددة لها وجود أكيد، يمكن الإمساك بها والتحقيق معها كما يفعل البشر في كل بلاد العالم.

في تلك البلاد يبدأون البحث عن المتهم أولاً بين الأشخاص الحقيقيين المكونين من لحم وشحم، وخاصة المستفيدين من تلك الجرائم، ويستثنون الأشباح. أما في العراق فقد قررنا أن نفعل العكس، فلا عجب ان يمسكوا المجرمين، ونمسك الأشباح. لكن العجب أننا حتى حين يصدف أن نتهم جهة محددة ما، فإننا نبدأ البحث بين من تتضرر مصلحتهم بمثل تلك التفجيرات حسب قناعتنا، على أساس أنهم "غير منطقيين"، "لا يعرفون مصلحتهم" و "مجانين"! ( أتساءل من هم المجانين في هذه الحالة) ونستثني من نعلم أنه يستفيد من الجريمة، حتى من التحقيق!

فالإحتلال يستفيد من الإرهاب، كما يعلم الجميع، لأنه الحجة الوحيدة الممكنة لإطالة بقاءه، لكننا "مؤمنون " بأنه يحاربه! والمقاومة هي التي تقوم بالإرهاب رغم أنه هو الذي يبقي الإحتلال، الذي تضحي بحياتها من أجل إخراجه من  البلاد،.....ببساطة لأنها "مجنونة"، والبعث الذي يتربص الفرصة للإنقضاض على الديمقراطية حين تخرج أميركا كما قالوا حين أرادوا إقناع الناس بضرورة بقائها في البلاد، هو الذي يقوم بالإرهاب الذي يبقيها فيعرقل مشاريعه بنفسه!.. يقولون أن البعث خطر جداً, وأن القوات العراقية غير قادرة على حماية "الديمقراطية" منه إن غادرت أميركا، لذا يجب أن تبقى، ويقولون أنه يقوم بالتفجيرات والإرهاب لتخريب الحكم الديمقراطي ولذا تبقى القوات الأمريكية. وحين تسأل: مادام قوياً هكذا، لماذا لا ينتظر أن تخرج أميركا لينقض على "الديمقراطية"؟ يقولون لك: لأنه مجنون!! ...لا يجد دعاة المعاهدة مشكلة في إفتراض أن الجميع يعمل بالضد من مصلحته ولا يجدون مشكلة في إدخال الجميع إلى مستشفى المجانين، من أجل الإحتفاظ بالتفسير المناسب لمصدر الإرهاب، والذي يبقي المنهم الوحيد المستفيد منه بعيداً عن الشبهات: الإحتلال! ومثل ذلك يبقى التفسير الوحيد لما يقوم به الإحتلال، وهو إعادة البعث إلى السلطة، بعيداً عن الحديث. لا بأس من إدخال كل من يأتي بأمثلة تاريخية على استعمال الإحتلال للإرهاب من أجل إعادة الفاشست إلى السلطة، في مستشفى المجانين مع الآخرين، وإن تطلب الأمر، فلتدخل المستشفى حتى الصحف الأوروبية التي تتحدث بحقائق غير مناسبة! (1)

وإن استثنينا الجهات التي رفضت المعاهدة وشككت بغايات أمريكا، وهي جهات تم عزلها واغتيال الكثير من قادتها ثمناً لتجرؤهم على إتهام من يمكن الإمساك به، فمن غير المعتاد أن يتجرأ أحد حتى إلى النظر في الدور الأمريكي الواضح في الضغط من أجل إعادة البعث، ومن يجرؤ أن يفعل ذلك، يفعله بحذر كمن يتساءل عن شيء غير معقول. فيكتب عباس النوري في مقالته: هل أجبرت أمريكا المالكي لإرجاع البعث؟ متسائلاً بحذر: "قد يســـتغرب البعض من هذا السؤال، ويتخيل أن حرب أمريكا على العراق كانت من أجل تحرير الشعب العراقي من حكم صدام." (2)

ورغم الوضع الأقرب إلى الجنون من المنطق في التحليل، يصعب تجاهل الحقائق المباشرة المؤكدة على سعي الولايات المتحدة بقوة وإصرار، لتمكين البعث الذي يفترض ان يحمونا منه، من السلطة خاصة في الأجهزة الأمنية والعسكرية، وهو المشروع الذي ابتدأ برجلهم الأول علاوي ولم ينته حتى الآن. لذا ، يجد الذين ورطوا الشعب العراقي في المعاهدة أنفسهم في حال لا يحسدون عليه، وهم يرون أصدقائهم الأمريكان يوقعونهم في الإحراج تلو الإحراج. فلم يكد الشعب ينسى بعبع الفصل السابع الذي ملأوا الدنيا به تهريجاً، ثم اختفى تماماً فور توقيع المعاهدة، ولا رأى أحد أثراً للقراصنة الذين سيشتبك الأمريكان معهم والذين كادوا يصلون بغداد من الصومال صعوداً في شط العرب ودجلة لولا أن حذرنا منهم بينوشيت العراق – وزير الدفاع، وأخيراً هاهو البعث يقدم كشريك في الحكم غصباً عن الحكومة والشعب وبضغط من نفس من وعدونا بالحماية منه!

لنأخذ مثالاً على ما يمر به هؤلاء من "إستحالات" وهم ينتقلون من مرحلة العذراء داخل شرنقة المرعوبة من القراصنة والبعث  إلى ضرورة "المصالحة" التي يطالب بها الأمريكان. لنتابع القفزات البهلوانية التي يقوم بها أحد أشهرهم، عبد الخالق حسين ليهيء نفسه لدوره الجديد.

في البدء نرى عبد الخالق قبل أن يدرك إصرار أصدقائه على إعادة الوحش إلى البلاد:

"البعث بالنسبة للعراقي يعني القتل وحروب إبادة الجنس، والمقابر الجماعية، والمجاعة والحصار، والكيمياوي وحلبجة وعمليات الأنفال، وتجفيف الأهوار والمسطحات المائية، وتدمير البيئة، وتشريد خمسة ملايين في الشتات، وتهجير مئات الألوف من الكرد الفيلية والشيعة العرب بتهمة التبعية لإيران بعد مصادرة ممتلكاتهم، وتجريدهم من جميع وثائقهم التي تثبت عراقيتهم وشهاداتهم الدراسية، بما فيها وثيقة إجازة السياقة، وحجز شبابهم في المعتقلات وإبادتهم فيما بعد، وإلقاء المهجَّرين على الحدود العراقية-الإيرانية المزروعة بالألغام أيام الحرب العبثية، البعث بالنسبة للعراقي يعني إرغام كل مواطن أن يتجسس على غيره من المواطنين يحصي عليهم أنفاسهم وحركاتهم، ويتجسس حتى على أفراد عائلته....من المفيد إعادة جميع البعثيين الذين لم يتورطوا بالجرائم الكبيرة بحق الشعب بعد أن يعتذروا للشعب ويتعهدوا بدعم الديمقراطية، كما عملت مئات الألوف منهم، وهم الآن مواطنون مسالمون. ولكن قبولهم كحزب سياسي منظم فدعوة لكارثة جديدة....لذلك أعتقد جازماً أنه إذا كان القصد من المصالحة هو مشاركة البعثيين كحزب سياسي، فهذه ليست مصالحة بل دعوة لإنقلاب 8 شباط جديد وإعادة مسلسل الكوارث مجدداً في العراق لدورة دموية جديدة أشد وأدهى وأبشع من جميع الكوارث الماضية"(3) "لذلك ننصح حكومة السيد المالكي، أن تقف موقفاً حازماً ورافضاً لهؤلاء، وأن ترفض إجراء أي حوار معهم على أساس قيادات، بل يمكن قبول، وحتى تشجيع عودة البعثيين الذين لم تلطخ أيديهم بدماء العراقيين، كأفراد وليسوا كتنظيم سياسي وإعادتهم إلى وظائفهم. فهذه العملية هي جارية منذ مدة. " (4)

ليس هناك بعث كبنيان سياسي، بل هناك أفراد من بقايا قادة سابقين بلا قواعد ولا نفوذ، لذا يجب عدم فتح أي حوار معهم، فالبعث انتهى وإلى غير رجعة، وهؤلاء يتظاهرون بقيادة حزب، ولكنهم مجرد مخادعين لا وزن لهم، مستغلين الوضع الأمني، وروح التسامح والتساهل لدى السلطة، فيسعون لتحقيق مكاسب شخصية ومواقع لهم في السلطة دون استحقاق....ثانياً، أما القواعد السابقة من جمهرة البعثيين، فلا تربطهم الآن أية علاقة تنظيمية بالبعث كتنظيم سياسي، لأن هكذا تنظيم غير موجود أصلاً، والمطلوب من جمهور البعث الذين لم تلطخ أيديهم بدماء الشعب، العودة إلى صفوف الشعب والاعتذار منه والتعهد له بدعم الديمقراطية. (5)

"أعتقد أن مطالبة شعبنا برفع شعار "عفا الله عما سلف" للبعثين لا تخلوا من نوايا أقل ما يقال عنها أنها مشبوهة!" (6)

ورغم أن عبد الخالق كمعظم مروجي المعاهدة، يقوم عادة بكل مراوغة يتخيلها الإنسان من أجل إظهار أميركا بشكل ناصع مثالي، إلا أنه يفاجأنا هنا فيعترف هنا بمسؤوليتها عن إيصال هذه الكارثة إلى العراق:

"فأمريكا تتحمل المسؤولية الأخلاقية لتحرير شعبنا من الفاشية البعثية، لأنها (أمريكا) هي التي جاءت بهذا النظام العاهر الجائر إلى العراق كما هو معروف من اعترافات بعثيين قياديين في الجريمة ومن مذكرات موظفين كبار سابقين في الاستخبارات الغربية."

ولكنه طبعاً لا يتوصل إلى أن أميركا شريك خطر يمكن أن يكرر الكوارث التي جلبها للعراق، بل أننا يجب أن نبقيها في البلاد لـ "تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية" في إصلاح "خطأها"!

"أيها السادة إن هكذا مجتمع لا بد وأنه مجتمع مريض يحتاج إلى علاج سريع. وعندما لم يكن العلاج متوفراً محلياً، فلابد من الاستعانة بالخارج لإنقاذه من هذا المرض العضال."

"ومن هنا نصل إلى الاستنتاج المنطقي، وهو أن تدخل قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا في مساعدة الشعب العراقي للتخلص من حكومته الجائرة كان ضرورة إنسانية وتاريخية ملحة لا غنى عنها ولا مناص منها."

إنه "أستنتاج منطقي" فعلاً، أن تطلب ممن تقول أنه تسبب لك بالمرض عن عمد أن يلعب دور الطبيب المداويا، وان تثق به ثقة مطلقة، كما ذكر عبد الخالق في مقالة أخرى له حين قال أنه لايحتاج إلى قراءة المعاهدة فيكفي انها مع أميركا لتكون في صالح العراق!

وفجأة ينقلب عبد الخالق في نفس المقالة، فلم تعد أميركا هي المسؤولة عن "الطغاة" بل "عقلية معاداة الغرب لدينا":

"إن عقلية معاداة الغرب، وبالأخص لأمريكا، هي التي أنجبت لنا الطغاة العتاة من أمثال صدام حسين"

"وقد قيَّض التاريخ لنا أمريكا برئاسة بوش للقيام بتحرير العراق وخلاصه من الإبادة وتدشين عصر الديمقراطية".

استكمالاً لـ "الإستنتاج المنطقي" فأن الدكتور يرى أن "من أدمن العبودية والذل  والخنوع" فقط هو من يمكن أن يعترض على معاهدة تبقي الإحتلال سنين إضافية في البلاد:

أقول هذا وأنا واثق من أن هذا الكلام لا يعجب البعض من الذين أدمنوا على ذل العبودية البعثية والاستبداد العربي، لأن حتى العبودية تسبب الإدمان لدى البعض من البشر. فهناك قطاع من الناس في المنطقة، أدمنوا على الذل والخنوع، واستساغوا العبودية فيرفضون التحرر، إنهم أشبه بالديدان التي لا تعيش إلا في المستنقعات الآسنة" (7)

هذا هو المنطق المغزول بالمغالطات والإحتيال الذي هيأ الناس للمعاهدة! في مقالة أخرى لعبد الخالق، حين قدم أحد القراء روابط فيديو تبين جرائم الإحتلال الأمريكي في العراق، (6) قدم الدكتور عبد الخالق روابط فيديو تبين جرائم البعث (6)، وكأن الواحدة تلغي الثانية، ولم يخطر ببال عبد الخالق ولا قارئه المعترض، أن يعترف أن الطرفان مجرمين بحق الشعب العراقي وأن على الشعب العراقي أن يتخلص منهما معاً إن أراد حياة كريمة! كأن قد كتب على الشعب العراقي أن يختار بين سافلين: البعث أو الإحتلال، وراح عبد الخالق وقارئه يزنان لهذا الشعب ما يجب أن يتحمل من إذلال ويفاضلان بينهما!

ثم تأتي المرحلة الثانية وإذا بمقالات الدكتور عبد الخالق، وبعد أن فهم جيداً أن أميركا هي التي وراء إعادة البعث، تغيرت لهجتها بشكل مدهش، فلم يعد البعث ذلك الوحش الذي يجب الإبتعاد عنه بأي شكل:

"على أية حال، يجب أن لا نستغرب ولا نتطير من لقاءات تتم بين الأمريكان والجماعات البعثية المسلحة التي تسمى نفسها بـ«المجلس السياسي للمقاومة العراقية». فهذا المجلس رغم إدعائه بأنه يضم أربعة تنظيمات، إلا إننا نعرف أن هذه التنظيمات هي مجرد مسميات للبعث نفسه وتحت أسماء إسلامية، فهذا ديدن البعث في توظيف الأسماء الدينية لأغراضه السياسية."

"لا يجب أن نتطير" ....تذكرني بنكتة عراقية: يقال أن مسؤولاً بعثياً سأل عزت الدوري (الذي كان نائبا لرئيس الجمهورية صدام حسين ومعروف بجبنه وتملقه الشديد) إن كان الفيل يطير، فقال هذا: من قال لك هذا الكلام السخيف؟ فأجابه: السيد الرئيس. فقال الدوري: آه....نعم .. في الحقيقة هو يطير، بس ناصي (منخفض). !

والآن، حين اكتشف عبد الخالق أن أميركا هي التي وراء إعادة البعث، هاهو يكتشف أن البعث "يطير ...بس ناصي" ...وأن علينا أن "لا نتطير"! أليس هناك مستوى من الفضيحة يخجل عندها البعض ويقول كفى؟

لنكمل مع عبد الخالق قصة "أستحالته" إلى قبول البعث عندما يأتي الأمر من أميركا. هاهو يفسر لنا لماذا يقدم الملائكة القادمون من وراء البحار على التفاوض مع ممثلي الرذيلة باعترافه:

"أما فيما يخص الأمريكان، فهم كغيرهم من الدول الغربية الديمقراطية يتحلون بالصبر الجميل، ولن يمتنعوا عن طرق جميع السبل في حل أية مشكلة سياسية".

ولكن أية "مشاكل سياسية" يمكن أن يثيرها من قلت عنهم أنهم "أفراد من بقايا قادة سابقين بلا قواعد ولا نفوذ"؟ 

تحذيرات عبد الخالق حسين السابقة من وجوب عدم التفاوض مع البعث، وحديثه عن النوايا المشبوهة حتى في "عفا الله عما سلف" وتذكير العراقيين بتاريخها سيء الصيت، فقد توجب أن تتبدل لتصبح "تشنجات":

"وخلافاً للتشنجات التي أبداها البعض من تصريحات السيد المالكي، أنا لا أرى أي خطأ في هذه الدعوة، إذ ليس من العدالة ولا من الفائدة لشعبنا، منع نحو مليونين من العراقيين من حقوق المواطنة، وحرمان بلدنا من مساهماتهم الايجابية في إعادة الإعمار"

ها قد أصبح "أفراد من بقايا قادة سابقين بلا قواعد" يمثلون "مليونين"!! ألم تقل عن الأبرياء الملايين أن عملية اعادتهم الى العملية الوطنية كانت "مستمرة" وأن قانون اجتثاث البعث يهدف إلى حماية هؤلاء واستثائهم من الأحكام؟ ما الذي غير رأيك يا عبد الخالق؟ هل تبدل البعث و"أعتذر للشعب" كما أشترطت قبل أي تعامل معه!

رغم كل مرونته في الدوران حول الحقائق وقلبها عند الضرورة، يحس عبد الخالق أن كلامه قد لا يكون مقنعاً, وأن هناك "خطأ" ومشكلة يجب التعامل معها، وأن هناك عمل شائن في حركة الأمريكان يجب إلقاءه على عاتق جهة ما لكي ترفع عن الأمريكان "المعصومين من الخطأ"، ولا يجد عبد الخالق صعوبة في ذلك:

"كذلك أعتقد أن اللقاءات التي تمت بين الأمريكان والمسلحين البعثيين، هي استجابة الأمريكان للضغوط التي توجهها بعض الحكومات العربية على أمريكا "(8)

يريد عبد الخالق أن يقنعنا (لأنه يعتقد!) بأن تلك الحكومات التي تسير كالجرذان خلف أميركا ولا تجرؤ حتى على بناء جسر فيما بينها بدون إذن منها، ولا ترد لها أمراً حتى بارتكاب جرائم قتل وحصار مهما كان يحرجها أمام شعبها ويعرضها للخطر، هذه الخراف صار لها أن "توجه الضغوط على أميركا" فلا تجد هذه المسكينة بداً من الإنصياع لتلك الضغوط التي تأمرها فتضطر لمخالفة مبادئها الراقية!

ليس من السهل أن تجد أمثلة في التاريخ بهذا الهيام الجنوني بحب المحتل والإحساس بالدونية والسعي إلى فرضها على الآخرين! وهذا "الإيمان" المطلق ببراءة الأمريكان يجب أن لايقتصر على عبد الخالق حسين وامثاله من المقسمين على الإيمان بأميركا، وإنما ينبه عبد الخالق كل من تسول له نفسه بإثارة الشك في نقاء ذلك الإله من المسؤولين العراقيين بشكل مقصود أو للإستهلاك المحلي فيقول:

"ومن الجانب الآخر، يجب تنبيه المسؤولين في الحكومة العراقية أن يكونوا حذرين من إطلاق تصريحات غير مسؤولة ضد أمريكا، سواءً كانت مقصودة أو للاستهلاك المحلي، إذ يستغل أعداء العراق هذه المناسبات، وباسم الحرص على مصلحة العراق وسيادته الوطنية، خلق شرخ بين الحكومة العراقية والإدارة الأمريكية. لذلك يجب على الحكومة أن لا تسقط في الفخ. كما ويجب علينا أن لا نتطير من عقد لقاءات بين الأمريكيين وممثلين عن فلول البعث المقبور وغيرهم، لأن الغرض من هذه اللقاءات هو إسكات بعض الحكومات العربية التي تدافع عن البعثيين وتطالب بمشاركتهم في السلطة، كذلك يريد الأمريكان سحب البساط نهائيا من تحت أقدام البعث الصدامي المسلح، وتعريته كل التعرية أمام الرأي العام العربي والدولي. " (8)

أمام كل تلك الحقائق التي يشعر عبد الخالق أمامها باليأس والقلق وهو يرى مظاهر الكراهية المتزايدة بلا انقطاع من الشعب العراقي، لم يجد سوى تحذير المالكي بضرورة عدم " المبالغة في الاحتفال بيوم انسحاب القوات الأمريكية" (9) ، خوفاً من أن يجرح ذلك شعور الأمريكان، وليذهب شعور العراقيين إلى الجحيم!

 

لو قلبت سطور المعاهدة (التي سمحوا بنشرها)، لما وجدت نصاً يفيد أميركا ويفسر حماسها الهائل لفرض تلك المعاهدة بالقوة والتهديد، فما الذي أرادته أميركا إذن من المعاهدة؟ في تقديري لقد كان الهدف الأمريكي الرئيسيي من المعاهدة هو إعطاءها الوقت الكافي لإعادة البعث إلى السلطة لأن سفلة البلاد خير من يمكن أن يتعامل معه أي احتلال حتى إن اضطر للخروج مستقبلاً، ولم يبق في العراق من يسمي نفسه بعثياً بعد كل ما جرى سوى الحثالات التي تم إعادة تأهيلها من قبل الإحتلال. لم يعد هناك من يفاوض على أنه بعثي إلا من تم ترتيب الأمر له، تماماً كما تمت إعادة "استكلاب" برزان بعد إخراجه من سجنه لبضعة اسابيع إلى جهة غير معلومة قبل إعدامه، حيث ذهب ذليلاً مرعوباً، يكتب رسائل التوسل والترحم، وعاد ينبح ويشتم ويعض! وهكذا أعادت "جهة ما" البعث نابحاً شاتماً بعد أن لم يبق له أثر، لتبرر ضرورة التفاوض معه.

لا عجب أن يسير من عبد الطريق للمعاهدة المذلة في درب تعبيد عودة البعث إلى العراق، سواء بوعي أم بجنون الإيمان المطلق بالمحتل، فالطريقان متوازيان متقاربان متشابهان. كلاهما يتجه إلى إلقاء مسؤولية السلطة على مصدر خارج الشعب، ويبحث عن المنقذ في الدكتاتور (العادل؟) أو الإحتلال (المتطور). كلاهما طفولي ومريض وكلاهما يحتاج إلى شعب تم إقناعه بالرضوخ والخوف، وكل منهما يساعد الآخر، وكل منهما ضروري لبقاء الآخر فكل منهما يخيف الشعب من الآخر، وهما يدركان ذلك جيداً، ولا يحسبان معادلاتهما على الأوهام.

بالمقابل فأن الطريق الوحيدة لنجاة الشعب العراقي من الأخطار المحدقة بمستقبله هي بالرفض المبدئي لكل ما ينتقص من سيادته على أرضه ووطنه، سواء كان ذلك محتلاً أجنبياً أو دكتاتوراً قميئاً، فقد رأى الدكتاتور يأتي بالدمار والإحتلال، ورأى الإحتلال يأتي بالدمار ويتفاوض اليوم على إعادة دكتاتورية سفلة بالشروط التي تناسبه. لا أمل للشعب بالخلاص من تكرار سيناريو الدمار ثانية إن لم يمتلك الشجاعة لإقتناص فرصه وخوض الصراع وتقديم التضحيات اللازمة للتخلص من عدويه معاً، وتحمل ثمن حل مشاكله بنفسه، فليس غير المختل عقلياً ونفسياً من يصدق أن الإحتلال يمكن أن يحل مشاكل الشعب المحتل ويذهب في سبيله. وقد كان جزء بسيط من الدماء التي سالت هدراً، كافياً لمواجهة الحقيقة وتحقيق هذا الخلاص.

بدء الخلاص يكون باستعادة الشجاعة للتفكير بعيداً عن الأشباح، بدء البحث عن الإرهابي، بين المستفيدين من الإرهاب والكف عن تفريغ الغضب الجبان بتوجيه التهم إلى العفاريت والمجانين!.

"إذا فضلت أمة ما، أي شيء على الحرية، فسوف تخسر حريتها. والمأساة هي أنها ستخسر أيضاً ما فضلته على الحرية من "الراحة" أو "المال" بعد ذلك!"

سومرست موم

 

..................

روابط:

(1) http://www.aljewar.org/news-12452.aspx

(2) http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=166362

(3) عبدالخالق حسين - هل سيعود البعث لحكم العراق؟

 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=165898

(4) عبدالخالق حسين - هل من جدوى في الحوار مع البعث؟

 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=166150

(5) عبدالخالق حسين - هل من جدوى في الحوار مع البعث؟

 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=166150

(6) عبدالخالق حسين - كي لا ننسى جرائم البعث

 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=168855

(7) عبدالخالق حسين - في الذكرى السادسة لتحرير العراق من الفاشية البعثية

 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=168338

(8) عبدالخالق حسين - حول لقاء الأمريكان بالمسلحين البعثيين

 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=179605

(9) عبدالخالق حسين - هذه الصورة ليست في صالح المالكي

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=177242

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1133  السبت 08/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم