قضايا وآراء

جوهـر العلمـانيـة / مصدق الحبيـب

وحاجات وتطلعات الناس في حيواتهم اليومية والعمل من اجل تحقيقها وخدمتها بشكل منصف ومتجرد عن الانحياز العقائدي والمذهبي.  ومن هذا المنطلق تعكس العلمانية حالة تحليل وتفسير اوضاع المجتمع بمعزل عن التأويلات الروحية، وبمنأى عن الطروحات الدوغمائية ، او الافكار المستندة الى التشريعات الدينية والوصايا الفقهية.  أي انها تتبنى المنهج الدنيوي غير اللاهوتي او الكهنوي او السماوي او المقدس في التفكير وتحديد معاني الاشياء وتقدير قيمتها وترتيب اولوياتها وتفسيرها وتحقيقها. وبذا ينطلق مفهوم العلمانية من قاعدة انسانية،لاإلهية؛  و دنيوية،لاأخروية ؛ ومادية، لاروحية وذلك من اجل القيام بالواجبات والمهام المدنية، ليس بالمعنى الحضري المتعلق بحياة المدينة، بل بما يخص المواطنة وفحواها الحقيقي وثيق الصلة بشؤون المواطنين.  وهكذا فإن الجوهر الحقيقي للعلمانية يقضي بضرورة ان تكون كل سلوكيات الانسان واتجاهاته مستندة على ترسيخ الاعتبارات المستقاة من الحياة الدنيا، وعدم اعتماد الاعتبارات التي تعوّل على الحياة الاخرة كفيصل اومعيار في ايجاد الحلول العملية لامور الحياة ومشاكلها. وهي بهذا تؤمن ايمانا عميقا بقدرة الانسان على حل مشاكله بالاستناد الى مامنحه الله من قدرات عقلية وحس انساني،  بدلا من القاء مشاكله على القدر والتراخي والاكتفاء بالدعوة الى الله ان يحل مشاكله، ويفتح عليه باب الفرج على مصراعيه دون سعي واجتهاد من جانبه. فما قاله الله في كتابه الكريم ليس بعيدا عن صلب العلمانية! قال الله تعالى: "لايغير الله مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".  وهو بهذا يلقي المسؤولية الاولى على الانسان في حل مشاكله والسعي لخدمة حياته وحياة الاخرين ويحثه الى العمل والاجتهاد ويبث فيه الثقة والهمة والعزم. ذلك ان الانسان الفرد البالغ هو المسؤول الاول والاخير عن حسناته وسيئاته على السواء. وبهذا المنطق الالهي ينفي الله سبحانه وتعالى وصاية اي جهة اخرى على افعال الانسان واقواله وتصوراته وتطلعاته، ويلغي وصاية اي جهة دينية أو روحية أومؤسسية. وهنا تبطل كل الادعاءات التي يروجها من نصبوا انفسهم وكلاء الله في الارض الذين يفرضون قيمهم واخلاقهم واعتباراتهم الشخصية على عموم الناس باسم الدين او الدولة التي تتخذ من الدين مبررا لسلطتها.

 

ومن هنا فاذا ما شاء لموقف العلمانية ان يتركز ويتعمق ويشيع بهذا المفهوم  ضمن جماعة معينة او حزب سياسي فانه سيتحول الى  منهج حياتي سياسي اقتصادي اجتماعي (secularism).   اما اذا قامت السلطة السياسية الحاكمة بتبني هذا المنهج وتطبيقه رسميا ودستوريا كمنهج لادارة شؤون الدولة وامور مواطنيها فسيكون لديها نظاما علمانيا ( secular system ). على ان اهم مايميز سياسة النظام العلماني هو تطبيق مبدا " فصل الدين عن الدولة"  الذي يعتبر العمود الفقري الذي يستقيم به المنهج العلماني. ولا يعني ذلك مطلقا وبتاتا الغاء الدين من حياة الناس او تقليل دوره في اخلاقهم وايمانهم، انما يعني عزل الدين عن العمل السياسي والسعي الى تحقيق استقلاليته والتشجيع على تركيزه في بيوت الناس ودور عبادتهم، وهي الاماكن التي تليق به وتسهم في ازدهاره. فليس حري بالدين ان يكون طرفا في اروقة السياسة ومزايداتها بسبب التعارض الجوهري بين رسالته الالهية السامية النقية ورسالة السياسة الوضعية التي تعمل بفن الممكن الذي لايتوانى عن انتهاج الخطيئة اذا اقتضت المصلحة السياسية لها.

 

وكان مفهوم العلمانية قد ورد لاول مرة في كتاب "العلمانية الانكليزية" لمؤلفه جورج جيكب هوليوك المنشور عام 1846، والذي صرح فيه هوليوك بأن العلمانية عبارة عن موقف ومبدأ للواجب الانساني يرتكز على اعمدة ثلاثة هي:

 

1) ان الوسائل المادية ، بالدرجة الاساس، هي التي تضمن تحسين حياة الانسان وتطوير نوعيتها ، ولايكفي الاعتماد على الاعتقادات الروحية وحدها في انتشال الانسان من براثن بؤس الحياة وفاقتها وقسوتها وويلاتها.

 

2) ان العلوم وتطورها هي السبيل الاول الكفوء لانقاذ الانسان واعانته في كفاحه الدائم في الحياة ومؤازرته في مسيرته نحو الافضل، وهي بهذا تشكل البديل الاكثر منطقية وعقلانية من الاعتماد على "العناية الالهية".

 

3) ان عمل الخير يجب ان يكون واجبا انسانيا يمليه الضمير وتفرزه القناعة، ولا يفترض فيه ان يكون ناجما عن الخوف من عقاب الله او لغرض زيادة رصيد الحسنات للفوز بالجنة.

 

فالنظام العلماني، اذاً،  يسعى الى ان تكون جميع القرارات المتعلقة بإدارة شؤون الحياة معتمدة على الاسس الموضوعية والتسبيبات المنطقية والاعتبارات الاخلاقية، وعلى ان لاتكون مستندة على الاعتبارات الدينية والتفسيرات الغيبية.  وهذا هو السبب الجوهري في الدعوة الى فصل الشؤون الدينية عن شؤون الادارة والحكم والتشريع والقضاء. ومرة اخرى، فان ذلك لايعني على الاطلاق ان النظام العلماني  يرفض الدين اويتنكرله او يقوم على تحجيم قيمته واهميته، الامر الذي يميز العلمانية بوضوح عن الالحاد والزندقة والتجديف.  كما ان قضايا مناقشة شؤون الخلق والكون والوجود لاتقع في نطاق منهج العلمانية، مما يجعلها مختلفة عن "البانثية"، بإعتبارها مذهب وحدة الوجود الذي لايفرق بين الله والطبيعة، كما يجعلها مختلفة ايضا عن معتقد "الاكنوستية" او مايسمى بمذهب اللاادرية الذي يعلن بموجبه اللاادريون بانهم لايستطيعون ان يثبتوا او يلغوا وجود الله او يفسروا اصل الوجود وتطورالكون. 

 

كان هوليوك قد اكد بشكل خاص على ان ليس من شأن العلمانية ان تهتم بمناقشة وجود الله وشرعية الاديان، ولامن شأنها ان تتدخل في امور الايمان والعبادة، وهي بالتأكيد لا تناصب المؤمنين العداء او تشن الحرب عليهم، ولاتدعو مطلقا للنكاية بالمقدسات، بل انها على العكس من ذلك تطالب بتطبيق حرية الاديان والمذاهب والمعتقدات بشكلها الامثل، وتريد للمؤسسات الدينية ودور العبادة ان تكون المعاقل السامية التي تضطلع بمهامها الروحية النبيلة. وقد كان هذا الموقف مؤشرا لمفترق الطرق الذي ادى الى انشقاق حركة العلمانية على نفسها، حيث تزعم تشارلز برادلو الجناح الذي يدعو الى محاربة الاتجاهات الدينية وينكر عليها اهميتها. وكان برادلو قد صرح امام الجمهور في سجال عام جرى بينه وبين هوليوك عام 1870 قائلا: 

"اني اعترف بإنه ليس كل العلمانيين ملحدين، ولكن من وجهة نظري الشخصية ارى إن النتيجة المنطقية لقبول العلمانية تحتم على المرء ان يكون ملحدا اولا".

 

من الحقائق المعروفة عبرالتجارب العالمية الكثيرة هي ان هناك العديد من رجال السياسة والقادة والتكنوقراط المتخصصين في ادارة الدولة وتشريع القوانين، والمعروفين بكونهم رجالا مؤمنين وملتزمين بأديانهم لكنهم لايخلطون بين واجباتهم الدينية والمدنية. وبالمقابل فإن ثمة العديد من رجال الدين والمتدينين الحقيقيين المنصفين الذين يؤمنون بصحة منهج العلمانية ويدعون الى تطبيقه، لادراكهم بانه المنهج الذي يكفل احترام الدين ويصونه من الابتذال عن طريق ابقائه على صورته النقية المقدسة التي تعنى بعلاقة الخالق بالمخلوق، بعيدا عن رخص ونفاق السياسة وابتذال اساليبها.  ويشير العديد من التجارب ايضا بان الذين يرفضون العلمانية بشدة ويعملون على تشويه وجهها والذين يشنون الحروب الشعواء على كل ماله علاقة بها هم الجهلة والمتعصبون والمتطرفون وادعياء الدين والمتلبسون بحلته زورا. على ان العلمانية غالبا ماتكون نتيجة طبيعية للتطور الحضاري والاجتماعي وارتقاء الثقافة العامة الى مستويات عليا تمكن الاغلبية من تقدير الاختلافات بين الناس وشيوع روح التسامح والتعاون والمسؤولية المشتركة والضمير الحي.  وعلى العكس من ذلك فهي نادرا ماتكون نتيجة لفرض سياسة معينة او تطبيق دستور جديد. والتجارب العالمية العديدة تشير الى حقيقة نجاح وازدهار المنهج العلماني كلما كان منبثقا من الارادة الجمعية  للشعوب، كما انها تصبح منبرا للصراع وسببا في الانشقاق والتطاحن اذا ما أصرت القوى الحاكمة على زجها عنوة كمنهج لبرامجها السياسية.

 

هناك العديد من القضايا اليومية التي يمكن التعامل معها، بصفتيها الادارية والعملية، اما من وجهة النظر الدينية اوالعلمانية، والتي قد تتحول مسألة مناقشتها الى صراع حام بين المهتمين بها، خاصة اذا كانت من ضمن القضايا الحساسة التي تستلزم وضع قانون معين او رسم سياسة محددة لتنظيمها وبرمجة عملها. ولنأخذ على سبيل المثال قضية تدريس مادة الدين لطلاب المدارس. فمن المعروف بان الغالبية العظمى من الناس المؤمنين بأديانهم في اي مكان في الارض يرغبون في ان تقوم مدارس اطفالهم بتدريس اصول تلك الاديان كدرس نظامي مثل بقية الدروس، واذا اخذنا بلدا متعدد الاديان كالولايات المتحدة مثلا التي تضم بين مواطنيها المسلم والمسيحي واليهودي والصابئي والهندوسي والسيخي والبوذي وممن ينتمي الى عشرات الاديان الاخرى، كما انها تضم الملحدين الذين لادين لهم وكذلك غير الآبهين بالدين.  فهل يمكن من الناحية العملية ان تقر وزارة التربية الامريكية تدريس كل هذه الاديان نزولا عند رغبة المواطنين؟ وبالمقابل، هل يمكن من الناحية السياسية ومن وجهة نظر الحقوق المدنية ان تفرض الوزارة حصر تدريس المادة لدين واحد ، حتى لو كان دين الاغلبية، ضاربة بعرض الحائط اديان المواطنين الاخرى؟ هنا تأتي ضرورة تطبيق المنهج العلماني الذي يسمح بطرح الفكرة التالية:

ان الغرض الاساسي للمدارس هو توفير التعليم في العلوم والاداب والفنون والفلسفة بشكل متساو ومتكافئ لجميع الطلاب، اما الدين الذي تختلف فيه انتماءات الطلاب فسيكون من الافضل تدريسه داخل البيت وفي دور العبادة والجمعيات والمؤسسات الاخرى على اختلاف انواعها وانتماءاتها. ويصبح هذا الاتجاه اكثر منطقية واوفر عدالة اذا كنا نتحدث عن المدارس العامة التي تمولها الدولة اما من الثروات الوطنية او من الضرائب وفي كلا الحالين فالتمويل سيأتي من جيوب الجميع، وبالتالي فليس من العدل ان تسخّر تلك الانفاقات لاغراض خدمة فئة ما دون اخرى . وهذا مايتيح الفرصة ايضا للمتحمسين لتدريس الدين ان يسجلوا اطفالهم في المدارس الخاصة التي تؤسسها مللهم وطوائفهم . وبهذا الاجراء المنطقي والعملي تحل العدالة وينتهي الصراع ويشيع الاحترام فيما بين الناس ويتعالى التقدير المتبادل لاختلافاتهم، ويرتفع شأن اديانهم في عيونهم وفي عيون غيرهم ، وبذلك سيتسنى للمدارس ان  تنصرف للتركيز على مهامها الاساسية في توفير المناهج الرصينة واشاعة الاجواء الامينة التي تصون حقوق الجميع.

ولنا في العراق تأريخ طويل من النظم السياسية العلمانية التي تعود بداياتها الى نهاية السيطرة العثمانية.  كما ان للشعب العراقي الميل الطبيعي العفوي للثقافة العلمانية والاستعداد الشعبي العام لرفض تسلط الدين جنبا الى جنب مع احترامه وتبجيله.  يساهم في ذلك طبيعة بلدنا المتميز بتعدد القوميات والاديان والمذاهب والاتجاهات السياسية التي عاشت مع بعضها عبر السنين في كنف المحبة والتآخي والاحترام. ولم تشهد الساحة العراقية من قبل الصراع والتطاحن والضغينة التي تشهدها اليوم، مما يجعلنا ان نمني النفس بأن الواقع المرير المؤلم الذي نشهده اليوم ماهو الا غيمة عابرة ستنجلي مع الايام.

اختتم هذا العرض بسؤال جاد للسياسيين الاسلامويين العراقيين الذين ترهبهم كلمة العلمانية:

من الافضل، ان نؤسس نظاما لايتدخل بشؤون الدين بل يحترمه ويرعاه ويؤمن له السلامة، ام نظاما يدّعي الدين وهو الابعد عنه فيؤدي الى اشاعة الدمار والخراب الشامل في كل مفاصل الحياة ومن ضمنها نسف رسالة الدين من الاساس؟ 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1604 الاحد 12 /12 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم