قضايا وآراء

الفعاليات الاقتصادية في الأهوار العراقية قبل التجفيف

 ولا يختلف النسق الاقتصادي في مناطق الأهوار عن أي نسق اقتصادي آخر في المجتمعات التقليدية إذ تكون علاقة الإنسان علاقة مباشرة بالطبيعة فهو يعيش وسط مفرداتها ويتعامل معها وجهاً لوجه دون الحاجة لواسطة أخرى . ولا توجد في الهور ملكية أراض بصورة واضحة ومع ذلك فلكل عشيرة تسكن هناك حدودها المتفق عليها . لكن الحدود الوهمية هذه غالباً ما تخترق من عشائر أخرى لا سيما في وجود حالات السلم والاستقرار فيكون من الممكن أن ترعى قطعان الجاموس في غير مناطق أصحابها أو أن يذهب أفراد العشيرة للصيد أو لقص القصب في مناطق تابعة لعشيرة أخرى.

إن هلامية الحدود في الهور غير مقبولة على الإطلاق في الريف المحاذي له حيث الحدود فيه موضوعة بالأمتار وأجزائها إذ يقوم أصحابها باستغلالها على أكمل وجه حين توفر الظروف الملائمة ، وهذا يفسر العلاقة الجدلية بين الفلاح في هذا الريف وبين الأرض التي كان يلتصق بها إلى ابعد الحدود . أن الأرض التي تمتاز بثباتها واستمرارها وعدم فنائها ومحدودية مساحتها واستعدادها للعطاء جعلها مركزاً لمختلف الفعاليات والتفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وصور التفاوت الطبقي وأنماط الحراك الاجتماعي ومراكز النفوذ والقوة والسلطة والصيت والسمعة .و ليس هذا فحسب بل أن نظام الملكية يسهم في تشكيل مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والأنماط الثقافية الأخرى التي تؤلف البناء الاجتماعي والثقافي . ولهذا نجد أن العشائر التي تسكن في الريف أكثر تحضراً من سكان الأهوار .

ويمكننا أن نحد مجموعة من أهم الفعاليات والأنشطة الاقتصادية التي يمارسها سكان الأهوار وكالآتي:-

أولاً - جمع القصب وصناعة الحصران :

ينمو القصب Phragmites Karka trin  في مناطق الأهوار بكثافة وهو نبات مائي طويل يبدأ في النمو منذ شهر كانون الثاني وفي شهر نيسان يبزغ عوده ويسمى محليا (العنكر) الذي يكون الغذاء المفضل للماشية في أواخر الشتاء وأوائل الربيع ويصل طول القصب في أواخر مراحل نموه إلى ما يقرب من (20 قدماً) ويجتهد سكان الأهوار في طلب القصب في جميع مراحله حتى يصل إلى مرحلة (الجرد) إذ يتم قصه بمسافة تبعد (30 سم) من جذوره ثم يتم تجميعه على شكل حزم لحين وقت استعماله . ويستخدم القصب في مواضع شتى فهو المادة الأساسية للبناء لجميع الوحدات السكنية مثل الكوخ أو وحدات الضيافة  (المضيف) أو (الربعة) كما يستخدم في بناء ( السوباط الصيفي) .

لا تخلو الصناعات القصبية التي يمارسها سكان الأهوار من جهد وتعب كبيرين فعمليه صناعة الحصران مثلاً تتطلب بعد عملية الجرد المضنية من أعماق الهور أربع عمليات أخرى هي (التكشير وألتفشيك ثم الدك وأخيراً الحياكة أو السفافة) ولكن لا غنى لسكان الأهوار عن هذه الصناعات التي كانت توفر لهم مردوداً اقتصادياً معيناً.

 

ثانيا – تربية الماشية

يربى سكان الأهوار الجاموس والأبقار ويستفاد من الصنفين في الحليب وفي الصناعات المتعلقة بمشتقاته كالقيمر والجبن والزبد والذي يباع من قبل أصحابة في السوق بصورة يومية وعادة ما تقوم النساء بهذه المهمة إذ يحملن قدورهن وأوانيهن ويفترشن الأرصفة ويتم البيع على وجبتين الأولى في الصباح الباكر والثانية قبل الغروب . ولا غنى لهؤلاء السكان عن هذين الصنفين والعمل على تكثيرها بنحو مستمر لأنهما يمثلان مصادر إنتاجية على الدوام .

للماشية في المجتمعات البدائية التي تعتمد في اقتصادياتها على الرعي أثر بالغ في حياتها ونظمها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية لدرجة يستحيل معها فهم تلك الحياة والنظم ما لم ينظر لها من زاوية (الماشية) ويترتب على ذلك أن يقاس اعتبار الفرد وتحدد منزلته  الاجتماعية لحد كبير بعدد رؤوس الماشية التي يملكها.

 

ثالثا – الفعاليات الاقتصادية الأخرى

هناك مجموعة من الفعاليات الاقتصادية الموسمية وهي أقل أهمية من الفعاليتين الرئيستين المشار اليهما ومن هذه الفعاليات الهجرات الموسمية التي كان يقوم بها سكان هذا الهور إلى المناطق الزراعية في موسم الحصاد وكذلك في موسم جني التمر . ويندرج ضمن هذه الفعاليات عمليات صيد الأسماك التي كانت حرفة لبعض هؤلاء السكان ثم هناك صيد الطيور وتقوم النساء والرجال على حد سواء بجلب صيدهم إلى الأسواق لبيعها بصورة مباشرة إلى المستهلكين أو بيعها بالجملة إذا كان الصيد وفيرا .

 

الحالة المعاشية

يمكننا أن نقسم سكان الأهوار (المعدان) على ثلاث أقسام:-

القسم الأول يمثل سكان الرحل وهم الذين لا مستقر دائمي لهم بل يتنقلون على الدوام طلبا لمراعي جيدة لجواميسهم التي تعتبر الرديف الحيوي لمعيشتهم .والقسم الآخر هم المعدان المستقرون في أعماق الهور الجزر الصغيرة الطبيعية أو الاصطناعية ويربون الجاموس والماشية .ويستقر القسم الثالث قريبا من مصبات الأنهار في الهور وموقعهم وسط بين القرى المستقرة القريبة في الأرياف وبين أعماق الهور ويمارس هؤلاء فضلا عن تربية الماشية زراعة الشلب في موسم الصيف وتكاد أنماط الاختلاف والتباين تتلاشى بين هذه الأقسام في العادات والقيم والأعراف والتقاليد ، إذ تكاد تكون مشتركة كما أن تعاملهم المستمر مع الطبيعة حتم عليهم سلوكيات اقتصادية متشابهة وتنشئة اجتماعية متقاربة .

وتسهم وفرة الغذاء وانعدام المنافسة وضحالة أحلام سكان الهور في سذاجة طموحاتهم التي لا تتعدى زيادة عدد الجواميس أو كثرة عدد الأبناء وتزويجهم بصورة مبكرة وحصول كل واحد منهم على بندقية على الأقل . ولقد ساهمت دوامة التخلف والأمية وإهمال الحكومة لهذه المناطق إلى غلق طموحات سكانها ومنعهم من التطلع إلى آفاق أوسع . وعلى الرغم من الجهد الذي يبذله ألمعيدي ألا أن مردوده الاقتصادي لا يمكن موازنته  بالجهد المبذول في كافة الفعاليات التي أشرنا إليها ،والمثل الشعبي الشائع  (التعب على ألمعيدي بفلس) خير شاهد على ذلك .

 

وسائط النقل

يستخدم سكان الأهوار مجموعة من الوسائط المائية التي تتباين في حجمها وتقسيمها بحيث تتلاءم مع الأغراض المختلفة ، فالقوارب المخروطية ذات الأحجام الصغيرة تستعمل في المناطق الكثيفة بالقصب من أجل أن تسمح الممرات المائية الضيقة والتي تسمى محلياً (الكواهين) لها بالمرور بسهولة بينما تستعمل القوارب ذات الأحجام الكبيرة والمسماة (البلم) أو (الكع ) في البحيرات الكبيرة التي تسمى (البرك) ومفردها (البركة) . ولا يمكن قيادة القوارب الكبيرة من قبل شخص واحد بل غالباً ما يتم ربط حبل في مقدمتها يسمى  (الشاروفة) ويمسكه شخص أو اثنان ليسحبا به القارب ولا تخلو هذه الطريقة من تعب وجهد خاصة إذا كان سير القارب عكس اتجاه مجرى الماء ناهيك عن وعورة الطرق في القرى التي يمرون بها ومهاجمة الكلاب لهم باستمرار .إلا أن التغيير الحقيقي قد حدث في عقد السبعينات عندما انتشر استعمال محركات الدفع المائية في الأهوار الأمر الذي جعل من قطع المسافات الطويلة يتم بوقت قصير مقارنة بالطرق التقليدية وما لبثت الحكومة طويلاً حتى منعتها مدعية أنها تستخدم من قبل جهات معارضة لسياستها .

لقد أضطر معظم سكان الأهوار وكما هو معروف للجميع إلى النزوح الاضطراري العام عدة مرات،مرة بسبب شحة المياه في أهوار شرق دجلة في العمارة بعد افتتاح سدة الكوت عام 1933 بالإضافة إلى حالة الفقر العام الذي كان يسودهم نتيجة استغلال الشيوخ والإقطاعيين لهم،والمرة الثانية جاءت بعد إقامة سداد حول حقول النفط شمال محافظة البصرة مما أدى إلى ارتفاع مناسيب المياه إلى الحد الذي غرقت فيه قرى بأكملها في أهوار محافظتي البصرة وذي قار ايمن نهر الفرات، ومرة ثالثة بسبب الحرب العراقية الإيرانية 1980- 1988 والتي نزحت بسببها جميع القرى الواقعة شرق نهر دجلة في محافظتي البصرة وميسان ،والمرة الرابعة شملت كافة مناطق الأهوار بعد أحداث 1991 وتجفيف الأهوار عام 1993.

لقد نتج عن هذه الهجرات تغيير في النظام الاقتصادي لدى الكثير من سكان الأهوار الذين استقروا في القصبات والبلدات ومراكز المدن التي نزحوا إليها،ولم يرغب الكثير منهم في العودة إلى مناطق سكناهم السابقة ولا يعني ذلك أن تغيرا حقيقيا قد حدث في حياتهم الاقتصادية نحو الأفضل بقدر ما يعني خشيتهم من العودة إلى بيئة أصبحت طاردة للسكان بعد أن فقدت مميزاتها السابقة. لقد ازدادت قناعة هؤلاء بعدم العودة بعد أن رأوا كيف واجهت أقرانهم الذين عادوا بعد 2003 جملة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصحية نتيجة فشل عملية أنعاش الأهوار التي اقتصرت على فتح السداد التي كانت قد أقيمت حول الأهوار في بداية العقد الأخير من القرن العشرين لأغراض التجفيف.لقد واجه العائدون من سكان الأهوار مشكلات جمة فلقد نزحوا مضطرين بسبب التجفيف ومطاردة الأجهزة الأمنية لهم  في تسعينات القرن الماضي وعادوا مضطرين أيضا بسبب أعمال العنف التي حدثت بعد 2004  في معظم المناطق التي كانوا قد التجئوا إليها من قبل. وبدلا من أن يجد هؤلاء من يحتضنهم ويخفف معاناتهم، واجهتهم بيئة هجين قاسية وخطط وبرامج حكومية عشوائية وفوضوية وغير واقعية هدرت على إثرها ملايين الدولارات دون أن تقدم لهم أي شيء ملموس على ارض الواقع.

 

محمد حمود إبراهيم

باحث سوسيو – انثر وبولوجي

مركز أبحاث الأهوار – جامعة ذي قار

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1138  الخميس 13/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم