قضايا وآراء

نسق القرابة ونظام الزواج في الأهوار العراقية بين الأمس واليوم

وعليه فان النسق القرابي يعتبر من أهم الأنساق في البناء الاجتماعي للمجتمعات البدائية بصورة عامة ولمجتمعات الأهوار بصورة خاصة . ويقوم نسق القرابة في الهور على قانون الانحدار عن طريق الأب فيحمل الأبناء والأحفاد أسماء آبائهم ويرثونهم في المكانة الاجتماعية والاقتصادية، فالانتماء للأب صميمي وليس للأم كما هو شائع في بعض المجتمعات البدائية .

 

أن نظام الانتساب الأبوي هو الشائع في الهور، فالابن لأبيه ويسمح هذا النظام لأقارب الأب أيضا في الإشراف على أبناء قريبهم ولو من خلال المشورة ومنذ الصغر يتم تربية الأطفال على التفريق في المنزلة بين الأخ وأخواته فهو الولد الذي يحق له فعل كل شيء وهي البنت التي يحرم عليها فعل أي شيء، فالخطأ الذي يقترفه الاثنان يكون وبالاً على الفتاة التي قد تدفع حياتها ثمنا له بينما لا يعاقب الذكر إلا باللوم والتقريع في اشد الحالات وهذا راجع إلى التراث العربي القديم الذي لا زال يحمله معظم سكان الأهوار والمتمثل في النظر إلى المرأة وعاءاً للنسب لا يجوز تدنيسه في الوقت الذي يمارس فيه الرجال إشباع نزواتهم دون رادع أخلاقي صارم .

 

يمارس الأخ الأكبر دور أبيه في حالة وفاته أو غيابه المؤقت فيخضع الجميع لأوامره التي تسري على الرجال والنساء في العائلة . ويكنى الأب باسم ابنه الأكبر وليس باسم ابنته حتى لو كانت هي الأكبر وحتى إذا لم يكن له أبناء ذكور . ويشترك سكان الأهوار مع سكان القرى والأرياف والبوادي في العراق بإنزال المرأة منزلة أدنى من الرجل ويصل الاحتقار أعلى درجاته في المخاطبة،  فلا ينادي الرجل زوجته أو ابنته أو أخته باسمها أمام الغرباء بل يقول لها (ولج) مثلاً أو كلمة (هيه) التي تشير للتصغير والتهميش أما إذا تحدث احدهم عن امرأة من عائلته فلا بد أن يشفع حديثه بكلمة (تكرمون) ويسبق الإشارة إليها بكلمة (خادمتكم) وحتى في الطعام فلا تستطيع المرأة وهي الأم والزوجة والأخت أن تشارك الرجال في نفس المائدة بل تناولها الطعام يجب أن يتأخر لحين انتهاء الرجال من طعامهم . وقد تناقلت التنشئة الاجتماعية العربية هذه القيم عبر الأجيال وظلت مستمرة في المجتمعات التقليدية ومنها مجتمعات الأهوار. ويكاد لا يستثنى مجتمع عربي بدوي أو قبلي من هذه القاعدة ما عدا مجتمعات الطوارق ربما، وللرجل الحق في ضرب المرأة وتوبيخها بل وطردها إلى أهلها .

 

يرتبط الأقارب برابطة الدم ويشار للأقارب الذين ينحدرون من جد قريب (بآل فلان) ويربط هؤلاء بمجموعة أخرى من العائلات الممتدة التي ترجع إلى جد مات قبل خمسة أو ستة أجيال ويسمى هذا التجمع  (الفخذ) وتشكل مجموعة من الأفخاذ (الحمولة) بينما تشكل مجموعة من الحمايل (العشيرة ) . وطالما تربط الأقارب الصميمين رابطة الدم فأن اكبر الضرائب التي يجب عليهم تقديمها هي (ضريبة الدم  فللعشيرة الحق على أبنائها في الحفاظ على كيانها . ولكن أبناء العشيرة الذين يقاتلون صفا واحدا

أمام الغرباء يقاتل بعضهم بعضا في أحيان كثيرة ولا سباب تافهة ويشير المثل الشعبي (أنا وأخوي على أبن عمي وأنا وأبن عمي على الغريب) إلى هذه القاعدة.

 

 نظام الزواج:

ينتشر الزواج الداخلي في الهور مثل باقي المجتمعات التقليدية، فبنات العم لأبناء عمومتهن وبنات الحمولة لأبناء الحمولة وبنات العشيرة لأبناء العشيرة ويستطيع كل رجل أن يمنع الفتاة التي تقع ضمن المستوى القرابي له من الزواج من رجل من مستوى قرابي أبعد، أي الأقرب فالأقرب حتى إذا ما وصل إلى أبعد مستوى تجلى ذلك في أن يمنع رجل زواج امرأة تنتمي لعشيرتة من رجل ينتمي لعشيرة أخرى، ولكن المنع يكون على أشده بين أبناء العمومة الحقيقيين أي أخوان الأب الذين يشار إليهم ( أبناء عم لح ) يستطيع الرجل الذي يقع ضمن نظام منع واحد على هذا المستوى القرابي أن يمنع زواج ابنة عمه من شخص أبعد منه في القرابة وحتى لو ظلت طوال عمرها عانسا . ويضطر بعض (العمام) إلى نظام (المفاكك) أي أتفاق الإطراف التي تقع ضمن نظام منع واحد على تفكيك آلية هذا النظام من خلال عدم الالتزام بتزويج بنات العم من أبناء أعمامهن حصرا، ويسمى نظام المنع المشار إليه (النهوة) .

 

ينتشر في الهور الزواج المبكر إذ تشجع ألعائله أفرادها الذكور على الزواج الذي يبدأ عادة في سن الخامسة عشرة وتسمح المساحات الشاسعة في الهور وحرية التنقل للفتيات بالتعرف على شباب من حمولة أو عشيرة أخرى ولكن النهوة التي تقف حجر عثرة في طريقهم للزواج قد تؤدي إلى أضطرارهما للهرب سوية واللجوء إلى مكان أخر ويسمى هذا النوع من الزواج (النهيبة) الذي يؤدي إلى أحداث مشكلة كبيرة في العشيرة وتتعقد المشكلة عندما تكون المرأة الناهبة هي زوجة لرجل فرض عليها فرضا فقررت الهرب مع فتاها الذي لم يوافق أهلها علية حينما تقدم لخطبتها . ويحاول أهل الرجل (الناهب) تسوية الأمر مع أهل المرأة (سواء أكانت ناهبة أو منهوبة) من خلال تحملهم لعقوبتين في آن واحد هما (الحشم والفصل) وتقدم في أحدهما أو في كليهما امرأة لأحد أخوة (المرأة الناهبة) وامرأة ثانية إلى زوجها إذا كانت متزوجة وتسمى المرأة التي تتزوج بهذه الطريقة (الفصلية) ولا تستطيع هذه الزوجة أن تحصل على حقوقها الكاملة إلا بعد وقت طويل وإنجابها لعدد كبير من الأبناء وتقدم المرأة (فصيلة) أيضا في مواقع أخرى مثل حالات القتل التي يتم من خلال تسوية الأمر بين أطرافه فرض امرأة أو أكثر كزوجات (فصليات) لأبناء أو أخوة القتيل . ومن الجدير بالذكر أن حالات نادرة جدا بل تكاد تكون معدومة تلك التي تتخلص فيها المرأة التي تهرب مع رجل للزواج من عقوبة القتل التي ينفذها أهلها فيها غسلا للعار،وفي بعض الحالات يشترط أهل الرجل المدان بعملية اختطاف المرأة على أهلها أن يقتلوها أولا قبل أن يقوموا بتقديم الفصل والحشم أليهم.

 

من أنواع الزواج الأخرى هو زواج (الصدق) أو (كصة بكصة) ويتم فيه تبادل الفتيات كزوجات كأن يقدم الرجل أخته أو أبنته لقاء موافقة الطرف الآخر على تزويجه من أخته أو أبنته أيضا .إلا أن النمط الأكثر مهانة للمرأة ذلك الذي يتعلق في إجبارها على الزواج من رجل (كهبة) أو (هدية) وغالبا ما يكون هذا الشخص مميزا وموضع احترام العائلة كأن يكون شيخ عشيرة تخاف سطوته أو سيد ترجو شفاعته أو غني تدين له العائلة ولا تستطيع سداد ديونها إلا بهذه الطريقة .

 

أما النوع الأكثر مهانة للرجل فهو زواج (الكعيدي) ووفقا لهذا النوع فأن الرجل لا يستطيع الزواج بالفتاة التي يرغب إلا إذا وافق على العيش في بيتها ويتوجب عليه القيام بتأدية جميع الأعمال التي تناط به وتتوافق بعض أنواع الزواج عند سكان الأهوار مع المجتمعات التقليدية، وهذه الأنواع عندما يتزوج الرجل أرملة أخيه المتوفى وهو يلقى الدعم والمساندة من عائلته وأقاربه معتقدين أن هذا الزواج سيحفظ أيتام أبنهم المتوفى من التشرد عندما تتزوج أمهم من رجل غريب . كما ينتشر أيضا زواج الرجل بأخت زوجته المتوفاة على اعتبار أن هذه ألزوجه الجديدة وهي خالة الأيتام سوف تحافظ عليهم أكثر من غيرها ويطلق على هذين النوعين بالزواج الاستمراري أو الزواج ألبدلي، ووظيفة هذا النمط من الزواج هو الإبقاء على علاقات المصاهرة لأنها أداة من أدوات التماسك والتضامن الجماعية للعائليتين المتصاهرتين وأبناء الزوج المتوفى،  وأبناء  الزوجة المتوفاة.

 

و كانت لمراسيم الأعراس طقوسها الطريفة في الهور في السابق، فالعريس الذي يرتدي الثياب البيضاء ويعتمر فوق رأسه الكوفية البيضاء (الغترة) والعقال، (يتبختر) جيئة وذهابا فوق (الجباشة) وسط الجموع من أبناء العمومة والعشيرة . وبعد عودة موكب الزفاف الذي يصادف وقت الأصيل ترافقه الهلاهل وقرع الطبول والهوسات وإطلاق العيارات النارية في الهواء، يقدم العشاء للمدعوين  (المعزومين) من قبل أهل الدعوة (المعازيب) . وفي أول أوقات الليل يتجمع أهل العريس وأصدقائه على شكل نصف دائرة تحيط بالعريس وهم يهزجون ويزغردون وتدفعه إلى كوخ العروس فيدخل عليها محتزما (بالسفيفة) المنسوجة من الوبر وفي وسطها خنجر ومتكتفا بمسدس تحت إبطه وفي بعض الأحيان يمسك بيده (الشومي) وهي عصا غليظة ليس للمعيدي غنى عنها في عملية الرعي بل وحتى في عملية مسيره العادي .

 

يتوجب على العريس أن يفض بكارة عروسه في فترة لا تتجاوز النصف الساعة في أسوأ الأمور إذ يظل الجمع المحتشد من النساء والرجال يحيطون بالكوخ يطالبونه بإنجاز عمله بأسرع وقت من خلال أطلاق الصيحات البوهيمية المصحوبة بالإيحاءات الجنسية التي لا تتوقف بالإضافة إلى الهوسات والأغاني والدبكات حتى يخرج لهم العريس وقد قدم الدليل الذي هو عبارة عن دماء طازجة تطرز جزءا من ثوبه الأبيض ويحتفظ بها حتى ظهيرة اليوم التالي ليقدمها كدليل على رجولته أمام المهنئين الذين يزورونه.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1140  السبت 15/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم