قضايا وآراء

إعلان الحرب الأمريكية الثانية على العالم

 "مفهوم إستراتيجي جديد" للحلف.  فما هو "المفهوم الإستراتيجي"؟ ولماذا يبحث الحلف عن "مفهوم جديد"، وما هي مشكلة "المفهوم الإستراتيجي القديم"؟

 

تأسس الناتو بهدف "حماية أوروبا الغربية من الإتحاد السوفيتي"، أو كما قال أول أمين عام للحلف، اللورد إيسمي: "هدف الناتو أن يبقى الروس في الخارج والأمريكان في الداخل والألمان في الأسفل."

وبعد أنتصار الغرب في الحرب الباردة، واجه الحلف فرصاً جديدة كبيرة، ولكنه واجه أيضاً تحدياً مصيرياً، فما الداعي لبقاءه وقد زال سبب وجوده، بل أن روسيا تخلت عن أيديولوجيتها وانضمت إلى المجتمع الرأسمالي وصارت لها علاقات اقتصادية كبيرة جداً مع أوروبا الغربية؟ وما الذي بقي له من أهداف بعد حل حلف وارشو الذي كان قد تأسس رداً على ضم حلف الناتو لألمانيا الغربية إليه عام 1955؟ ألم يحن وقت إلغاء التوتر الدولي وإعلان السلام، بدلاً من البحث عن "مفاهيم جديدة" لحلف عسكري أنتهت مبررات وجوده؟ أم أن هناك مبررات أخرى لإبقائه؟  ولماذا بقيت أميركا تحتفظ وتطور جيشاً يعادل بقوته مجموع قوة جيوش بقية العالم مجتمعة؟ إعلان الحرب الأمريكية الثانية على العالم

 

"المفهوم الستراتيجي" هو حسب وثائق الناتو: "البيان الرسمي الجازم في أهداف التحالف ويمثل أعلى مستوى من القيادة فيما يتعلق بالسبل السياسية والعسكرية التي يمكن استعمالها للوصول إلى الأهداف".

والمفهوم "القديم" للحلف ليس قديماً تماماً، فلم يمض عليه سوى عقد من الزمان، في حين عاش المفهوم الستراتيجي التأسيسي لمدة نصف قرن، والذي يعرف الحلف كحلف دفاعي بحت، يلتزم الأعضاء فيه بالدفاع عن أية دولة عضو تتعرض إلى هجوم مسلح.

ويعتبر البند الخامس في معاهدة حلف شمال الأطلسي الموقعة في واشنطن في الرابع من ابريل 1949، أهم بنود الحلف وينص على ان "اي هجوم مسلح على طرف واحد او اطراف عدة في أوروبا او أمريكا الشمالية سيعتبر بمثابة هجوم على جميع الاطراف".

 

إلا أن أحلام البشرية في انهاء توترات الحرب الباردة لم تكن تتناسب مع إستراتيجية أميركا التي فضلت أن تبقى تلعب دورها "كحامٍ" لأوروبا، وأن تحافظ على مكانتها باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم بأي ثمن، كما جاء في العديد من الوثائق الأمريكية بشكل صريح مثل وثيقة "القرن الأمريكي".

لذلك لم يتم إلغاء حلف الناتو، بل تم ضم المانيا الموحدة إليه، ولأن هناك اتفاقيات حول المانيا التي هزمت في الحرب الماضية، فقد كانت موافقة الإتحاد السوفيتي ضرورية ولو شكلياً، لذلك اتفق الغرب معه أن لا يعترض على انضمامها إلى الحلف، مقابل وعد بـعدم التقدم مستقبلاً باتجاه الشرق – نحو حدود الإتحاد السوفيتي.

 

لكن الوعد كان أضعف من الإغراء القوي، لضم الدول المتناثرة من تفتت الكتلة الشرقية والإتحاد السوفيتي، والشديدة الحماس للإنضمام إلى الحلف، بما توفره من فرص لنصب صواريخ وأجهزة إنذار ملاصقة للحدود السوفيتية. كذلك كان هناك إغراء آخر يصعب مقاومته وهو إمكانية استعمال القوة بدون وجود رادع عسكري، لفرض الحقائق على الأرض وإعادة رسم الخارطة السياسية لأوروبا.

وبالفعل كان من أول ما قام به كلنتون بعد استلامه الرئاسة هو العمل على تجاوز هذا الوعد والإتجاه نحو ضم تلك الدول إلى الحلف. وقدم نائب وزير الخارجية الأمريكية ستروب تالبوت عذراً باهتاً هو "جلب دول المعسكر الإشتراكي السابقة إلى الإتحاد الأوروبي"، رغم عدم ارتباط القضيتين، ولا تشترط عضوية الإتحاد الأوروبي عضوية الثاني، كما هو الحال مع النمسا وفنلندا والسويد.

 

وفي القمة التي عقدت بمناسبة العيد الخمسين للناتو في واشنطن ، برر قادة الناتو القصف الذي كان يقوم الحلف به ضد صربيا، خارج أراضي الحلف وخارج ميثاقه، بالأسباب "الإنسانية" وبعدم إمكانهم تحمل أعمالاً وحشية قريبة جغرافياً من الحلف، في الوقت الذي تجاهلوا "أعمالاً وحشية" أكبر بكثير، وفي داخل أراضي حلف الناتو نفسه، كما لاحظ جومسكي، حين كانت الحكومة التركية تقصف القرى الكردية، بدعم أمريكي عسكري كبير. (1)

في تلك القمة تم إقرار "المفهوم الجديد للحلف" الذي تقدمت الولايات المتحدة به، والذي أعطى الحلف الصلاحية للذهاب إلى ابعد من هدفه الدفاعي المعلن والتدخل العسكري في دول ذات سيادة، وبدون تفويض من الأمم المتحدة، رغم الإشارة العابرة إليها. وكان التدخل "الإنساني" العسكري في البلقان وبدون تفويض من مجلس الأمن، سابقة خطيرة أشرت بداية استعمال المفهوم الجديد وكانت نقطة تحول في النظام العالمي. حيث تم لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية إهمال مؤسسة الشرعية الدولية الوحيدة. وصار للآخرين أيضاً مثل الصين أو روسيا حجة أكبر للتدخل العسكري في مناطق تأثيرهم مستقبلاً. (2)

 

بعد ذلك ضم الناتو هنكاريا وبولونيا وجيكيا عام 1999، وبلغاريا ، لاتفيا، ليثوانيا، أستونيا، سلوفاكيا و رومانيا عام 2004، وانظمت ألبانيا إلى الحلف في نيسان 2009 وتنتظر كل من جورجيا وأوكرانيا دورهما الآن. أما يوغوسلافيا التي قاومت الإنضمام، فقد تعرضت لهجوم الحلف (صربيا 1999). وكانت عمليات الضم تتبع باتفاقيات سلاح واتفاقيات "تداخل فعاليات" (interoperability) (تسمح لكل دولة بالتدخل العسكري داخل الثانية) وتم نصب قواعد عسكرية تلاصق روسيا بشكل مباشر، مما شكل عليها ما تعتبره حصاراً عسكرياً تتممه القواعد العسكرية في تايوان وكوريا الجنوبية واليابان والفلبين. (3)

وفي كلمة له في  بروكسل في 3 أبريل الماضي، أشار غورباتشوف إلى الإتفاقية بين الناتو والإتحاد السوفيتي قائلاً:" لقد وعد قادة المانيا والولايات المتحدة ودول غربية أخرى، مباشرة بعد سقوط جدار برلين في 1989، بأن حلف شمال الأطلسي لن يتحرك سنتمتراً واحداً باتجاه ماكان يسمى في ذلك الحين "الإتحاد السوفيتي".  "ولعلهم فركوا أيديهم سعداء بأنهم قد خدعوا الحكومة الروسية". "لكن هذا أسهم في حقيقة أن أحداً لم يعد يثق أبداً بوعود الدول الغربية". (4)

 

بعد إطلاق "المفهوم الجديد" الأول عام 99 بسنتين، أطلقت الولايات المتحدة مهزلة "الحرب على الإرهاب" التي ماتزال مستمرة، رغم أن العبارة اصبحت اليوم ذات وقع يثير عدم التصديق والإحساس بالخداع وأيضاً الألم والإحتقار.

مع مرور الأيام تتضح أن "ألحرب على الإرهاب" لم تكن سوى حرب أعلنتها الولايات المتحدة على العالم بهدف السيطرة عليه، وأن الهدف الرئيسي منها لم يكن المسلمين أو العرب، فلم يكن لهؤلاء من القوة او الإرادة السياسية أو الحرية ما يستحق كل ذلك، بل كان الهدف الرئيسي هو الشعوب الغربية التي تتمتع بقدر من الديمقراطية وهو الخطر الرئيسي الذي كانت الشركات التي أعلنت "الحرب على الإرهاب" تخشاه أكثر من أي شيء آخر. ولو تابع المرء الإهتمام الأساسي للإدارة الأمريكية في حكم بوش، لوجد أن تركيزها الأساسي كان على إعلان حالات طوارئ تتيح لها إيقاف الحريات وجمع المعلومات عن أبناء شعبها أولاً, والضغط على بقية حكومات العالم وخاصة الأوروبية من أجل تسليمها معلومات عن شعوبها أيضاً. وتمت مراقبة حتى ما يقرأ الناس في المكتبات العامة في الولايات المتحدة، وتم جمع بصمات الأصابع بلا مبرر أمني والسيطرة على المعلومات الخاصة بالأموال، وفي كل من هذه النقاط وغيرها كثير ما يستحق الكثير من الكتابة عنه. 

وكان الإهتمام الثاني منصباً على السيطرة على مصادر الطاقة ما يتيح لهم ورقة قوية يمكن استخدامها لخنق من يتجرأ على الإعتراض.

 

فشلت المحاولة الأولى للحرب على العالم، ولعل الكثير من الفضل في ذلك يعود إلى فشل الأمريكان في كل من أفغانستان والعراق، وأيضاً سوء حظ الأمريكان بتواجد حكومتين لم تكونا بالخضوع الكافي لأميركا في كل من فرنسا وألمانيا، كما أن يلتسن كان قد غادر روسيا قبل فترة من الزمن. هذا إضافة إلى جهود أوائل الشجعان من الأمريكان الذين قالوا بصراحة وصدق، إنهم لايصدقون قصة 11 سبتمبر والحرب على الإرهاب مثل المخرج مايكل مور والعديد من الذين أثاروا الشكوك من خلال طرح الأسئلة الحرجة وإيصالها من خلال الأفلام والمقالات إلى الناس. هؤلاء هم الذين كسروا حاجز الصمت وقالوا أن الإمبراطور يسير عارياً، ولعبوا دوراً هاماً في إسقاط الهجمة الأولى على العالم!

واليوم هاهم المهووسون بالسيطرة على العالم يجمعون شملهم ويعدلون طرقهم للوصول إلى نفس الهدف. هاهو الناتو يجمع شتات خلافاته التي برزت خلال الهجوم الأمريكي الأول، ويصر على البحث عن طرق جديدة للوصول إلى الهدف. لذلك يتحدث قادة الناتو مرة ثانية عن تغيير المفهوم الستراتيجي للحلف لكي تمنحه المرونة للتعامل مع "التهديدات الجديدة"، والبحث عن الوسائل التي تمكنه من التدخل العسكري دون إزعاجات سواء من رفاقه الذين يثيرون التساؤلات عن حدود عمل الحلف أو من القانون الدولي.

ولتحقيق ذلك يتجه بشكل عام إلى ثلاث خطوط عامة، الأول إعادة كتابة المفهوم الستراتيجي لحلف الناتو، ليمنح اعضائه الحرية اللازمة للتدخل العسكري في أي مكان في العالم، وليتكفل بإسكات المعترضين على خطط الولايات المتحدة داخل الحلف. وبالفعل تم تشكيل "لجنة الحكماء" برئاسة وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت، لصياغة المفهوم الجديد.

ويهدف الثاني إلى استعادة بعض السمعة التي خسرها المعتدون في العالم ولدى شعوبهم، فقد أدركوا أهمية الدعم الشعبي لمشاريعهم، إن ارادت ان يكون لها عمر طويل.  فلقد أحس الليبراليون الجدد بأن الناس صارت تعي التهديد الذي يمثلونه بالنسبة للعالم وعبر صموئيل هنتنكتون عن التحول الخطير ونتائجه قائلاً: "بالنسبة لمعظم الأمم، فأن الولايات المتحدة تتحول إلى دولة مارقة عظمى، وتعتبر التهديد الخارجي الأعظم الوحيد لها". وخشى هنتنكتون أن يوحد هذا الشعور بعض الدول لتنشئ تحالفات.  لذلك اتجه الناتو إلى ذر الرماد في العيون وممارسة "الإنفتاح" وإشراك جهات مختلفة في قرارته وشرحها وتطعيمها بالأهداف الإنسانية.

أما الخط الثالث فيهدف إلى التخلص من الفيتوات المزعجة، وخاصة لكل من روسيا والصين في مجلس الأمن، وذلك بتكوين بديل عن الأمم المتحدة، أطلقوا عليها اسم "عصبة الديمقراطيات" و "كونسرتو الديمقراطيات" و "تحالف الديمقراطيات" ويرون أن هذا الكيان المكون من تجمع "الدول الديمقراطية" يمتلك الشرعية لكي يقرر، متى فشلت مجلس الأمن باتخاذ قرار. وبالطبع سيمكن دائماً إفشال مجلس الأمن بواسطة الفيتو، وطرح هذا البديل المكون ممن نصبوا أنفسهم حكماً على العالم!

وهكذا فلم تتغير الأهداف بين إدارة بوش وأوباما، فالعمل على السيطرة على العالم مازال جارياً على قدم وساق، ومازال أوباما الذي وعد خلال حملته الإنتخابية أن يبقى جيش الولايات المتحدة الأقوى في العالم بلا منازع، مازال يطور جيشه هذا بنفس الحماس الذي كان بوش يفعله. فما هو الهدف الممكن لبناء جيش يعادل جيوش العالم ويزيد عليها سوى التخطيط لمحاربة هذا العالم؟ لم تكن فترة حكومة بوش وحيدة في هذا الإتجاه، لكنها كانت خاتمة مرحلة محاولات الولايات المتحدة للعمل الفردي نحو هذا الهدف، والتي بدأت أول إشاراتها منذ كندي، وفي فترة ريكان وحتى كلنتون أخذت طابعاً صريحاً مفتوحاً، وانتهت بهجوم بوش الفاشل. هذه النتيجة أكدت للطامحين فشل السياسة الإنفرادية التي ميزت المحاولة الأمريكية الأولى التي سميت بـ "الحرب على الإرهاب" وكان "الإرهاب" من أهم أسلحتها، فكانت الدول ترتجف أمام غضب هذا العملاق النووي الرهيب. لكن الفشل كان نصيبهم في النهاية، فأحس الأمريكان بضرورة أن يجدوا لهم مستقبلاً شركاءاً لدعم مواقفهم. لقد استوعبوا الدرس، وهاهم يعلنون الحرب الثانية على العالم بلا تأخير. إنهم مصرين على أهدافهم وعلى العالم أن يكون أكثر إصراراً منهم إن أراد الحفاظ على حريته، فالهجوم مازال مستمراً……يتبع

 

 روابط:

(1) http://www.zmag.org/znet/viewArticle/21068

(2) http://mondediplo.com/1999/05/02chomsky

(3)  http://www.informationclearinghouse.info/article20550.htm

(4) http://www.thaindian.com/newsportal/world-news/gorbachev-slams-natos-east-european-expansion_100175072.html

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1152 السبت 29/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم