قضايا وآراء

هل يمكن أن يكون سر تخلفنا كما قال قيصر روسيا بطرس الكبير هو اللحى ؟!!

دون أن يعترفوا بفشل (المناهج الغربية) في بلادنا، والتي أدت إلى الجمود والانحطاط والتأخر.

والغريب أنهم علقوا كل أزمات ومشاكل المجتمعات المسلمة على بعض مظاهر تخلف المسلمين، ولم يدركوا أن هذا التخلف هو نتائج طبيعية لأوضاع متردية، ساهمت (السياسات المتغربة) في زيادة حجمها وتفاقم خطرها.

فـ(المناهج المستوردة) لم تستطع أبداً أن تعالج أبسط الإشكاليات المعوقة للتقدم، ولم تقض على التخلف، بل زادت من وتيرته في المجتمع، فمثلاً عندما طبقت سياسة (التنمية الشاملة) على (أسس ومنهج غربي)، كانت النتائج بروز ظاهرة (تخلف التنمية) المعروفة عربياً... وهذا ما يدعو للتأمل حقاً...

وهكذا فإن هؤلاء المثقفين، المنتمين إلى (تيار متغرب) يتضايق من أصوله وتراثه، لم يتنازلوا عن مقولاتهم السابقة، إلى درجة أن أحدهم صرّح مؤخراً في (محطة فضائية) بأنه: يأسف لتكلمه اللغة العربية، وكان يتمنى أن يتكلم في هذا اللقاء بلغة ثانية‍‌‍!!

هذه العقلية المريضة المتخلفة، التي ضاقت بواقعها ويئست من علاجه محلياً، ارتمت في أحضان الآخرين تنهل من ثقافتهم وقيمهم بصور ذليلة. وكان الأولى لها أن تتلمس حلولاً للأزمة عبر فهم الواقع السيئ، وتحليل أسبابه الذاتية والموضوعية، والانطلاق من الذات لتجاوز مرحلة التردي والتخلف.

ويحضرني هنا شيء ذكرني بقيصر (روسيا بطرس الكبير)، الذي تتشابه عقليته مع عقلية بعض مفكرينا، لأنه قارن بين تقدم (هولندا)، التي كان يدرس فيها، وبين تأخر بلده (روسيا)، وتوصل إلى أن سر ذلك هو اللحى، التي يتميز بها رجال (روسيا)، فأمر عندما أصبح قيصراً بحلق اللحى لكي يحقق التقدم والتطور!! ونفس الشيء فعله (أتاتورك) في تركيا، والشاه (رضا بهلوي) في إيران، عندما اعتقدا أن سر التقدم هو فرض اللباس الغربي على المجتمع!! وقد اعتقد  المقبور (صدام) أيضاً أن سر التقدم هو رفع الأذان وإلغاؤه من إذاعة بغداد!! لكنه أعاده بعد أن حاول التستّر بلباس الدين، والدين منه براء، عقب حرب الخليج الثانية.

وقد وصل الاستلاب الحضاري أقصى مداه عند البعض، عندما أريد للمجتمع المسلم أن يستحضر في نهضته نفس المراحل، التي مرّت بها أوروبا!! وتم التنظير وفق (ثقافة الغرب ومناهجه)، فماذا كانت النتيجة؟! النتيجة كانت حصاداً مراً وسنوات من الإحباط والفشل والمآسي التي لحقت بالأمة.

لهذا تنبه بعض المفكرين إلى حجم الكارثة بعد تحليلهم للمعوقات، التي برزت إثر تطبيق (نماذج مستوردة) لا تمتّ لمجتمعاتنا بصلة، ومن هذه المعوقات ظهور (ظاهرة تخلف التنمية) الملفتة للنظر. ومن خلال متابعة دقيقة للمقولات الجديدة، نلمس أنها اعترفت بعض الشيء بالخطأ الفكري، الذي وقعت فيه سابقاً، لكنها لم تتخلص كلياً من أسر (المنهج الغربي)، وهذا ما نراه في ممارساتها الحالية وتطبيقاتها الفكرية.

وعليه أتصور أن (التوجه التغريبي) عند المثقفين العرب قد انقسم في الآونة الأخيرة إلى تيارين:

الأول: أصر بشدة على بقاء الأسس الفكرية والتنظيرية السابقة، لكي تتناغم وتنسجم مع (توجه الغرب ومنهجه)، الذي يعادي الإسلام ، ومنهجه القرآني، ومشروعه الحضاري المميز.

الثاني: تبنى مواقف تنتقد التوجهات القديمة، وتدعو للعودة إلى الذات، واكتشاف العناصر الخاصة في المجتمع، التي غيبت نتيجة (التغريب الفكري). ولكن هذه العودة المتأخرة لاكتشاف الذات، والبحث عن الأصالة والتراث لم تكن موفقة للأسف الشديد عند هذا التيار، لأنه استند في تنظيره الجديد إلى نفس الأولويات والمبادئ الغربية، مما أدى إلى الوقوع في أخطاء وإشكاليات جديدة، مثلاً الدكتور (عابد الجابري) يعود الآن باستحياء للاعتراف بالأصول، بعد سنوات من القطيعة والرفض، والولع المطلق بـ(النموذج الغربي)، والإيمان الأعمى بـ(المعجزة اليونانية)، التي وصفها بأنها: (عقل محض)!! ولكن عودة الدكتور (الجابري) إلى الذات والخصوصية رافقها تشويه ومغالطات، لأنه نادى بـ(تأصيل الأصول)، لا من أجل تعميق المعرفة بها، بل من أجل تغييرها كلياً لتتلاءم مع العصر!! وهو في ذلك يستند إلى نفس (المبادئ الفكرية الغربية)، التي تم التنظير وفق أسسها سابقاً، مما يدل على جهل (الجابري) بماهية الذات ومقوماتها الضرورية لنهضة الأمة، وكذلك جهله بالأصول والثوابت، التي إذا (أصّلت) وفق (المنهج الغربي)، ستؤدي إلى نشوء (حالة هجينة)، منفصلة تماماً عن واقع مجتمعاتنا، لأنها لا تقود إلى تحقيق الأهداف التي يتطلع إليها (المنهج الأصيل)، عند وضع أصوله ومبادئه الثابتة.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1179 الجمعة 25/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم