قضايا وآراء

لوْسَمَحْت لا أَرْغَبُ في التَّداوي .. تحليل "طائرٌ من جنون المسافة" (1) لـ سامي العامري / البشير النحلي

والتّشبيه، كما لا يخفى، إجراءٌ يربط بين شيئين بالاستناد إلى قواسمهما المشتركة؛ لكنّه يحتفظ لكلٍّ منهما بوجود مستقل. فأداة التشبيه تقف فاصلاً بين المتشابهين تحفظ الفَرْقَ وتقي من الخلط. وهذا ما قد يدفع لتوقُّع خطابٍ ينزعُ لاحترام منطق العقل بمعنييه التقليدي والوضعي؛ وينخرط، من ثمَّ، في شعرية بيانية تقريرية ومحافظة. قلت "قد يدفع لتوقع ذلك" بناء على إجراء التشبيه في صورته العارية المجردة؛ وإلا فإن الشّبْهة لا تعترض لمتأمّل في أن هذا التّشبيه فاسدٌ بمقاييس العقل "الضّيِّق": فتشبيه "عافية" الشّاعر بالرّيح -حتى على سبيل التمثيل الّذي يجعل حالها في التردّد بين الهبوب والتوقف مثالا لتقلُّبه بين الصِّحَّة والعلَّة- معدودٌ في الإساءةِ وسوء المذهب!. ونحنُ نرى أن هذا من "حسن سلوك" الشاعر، ونعتقد أن الإساءةَ وسوءَ المذهب بهذا المعنى أمران لازمان لإعطاء منطق العقل "الضيق" حجمه الطبيعي دونَ زيادة؛ وهذه بيّناتنا:

 لا معرفة بالعالم بدون لغة وبدون خطاب؛ إذ بهما يتمّ تقطيعه وتتم مفهمته. لكن هذا لا يعني البتّة أنهما قادران على نقله على نحو مطابق كما بيّن ذلك باحثون أفاضل أثاروا بخصوص هذه المسألة قضايا متشعِّبة شديدة التّفصيل والتّحصيل. (2) والتّشابه والتّباين والتّقارب والتّباعد وغير ذلك من الكلمات والمقولات والمفاهيم التي نستعملها في لغاتنا وخطاباتنا الوصفية لا تستند، حصريّاً، إلى معطيات تنتمي إلى الواقع الفيزيائي-الطبيعي؛ بل إنها تصطبغ بنوعية التقطيع والمفهمة التي تقوم بهما اللغة والثقافة لذلك الواقع. هذا فوق أنّ هناك من المقولات ومن الخطابات ما لا يفهم إلا على أساس "واقع" شيّدته وسيّدته اللغة والثقافة. لذا فان بناء معنى تشبيه الشاعر لـ"عافيته" بـ"ريحٍ" بصفات وسمات محدّدة لا يكون إلا بالتوجّه صوب اللّغة والوحدات الثقافية، وبتنشيط الأطر الذهنية التي نشترك فيها مع الشاعر الذي بنى على قاعدتها نسق خطابه المتشابك. فنقول:

 العافية هي الصِّحَّةُ والسّلامة من العِلَل والبَلايا. وهذا مما لا يدوم لكائن. والناس، أبداً،متقلبون في أطوار متفاوتة متداخلة من الفرح والهم والصحة والعلة، أي أنهم يعيشون في تنقل دائم ما بين حركة وسكون إذا ما شئنا اختزال ذلك على نحو رقمي أو عروضي لا فرق!. هذا التردّد بين الحركة والسكون الذي يتمُّ في الجسد وفي الوجدان هو، دون شكّ، مما يمكن أن يُنْقَل بدقّة عبر مماثلته بتردُّد الرّيح ما بين هبوب وسكون. لكن مهلا، فللريح في هذا النّص -الذي تُقَدَّمُ فيه باعتبارها نموذجا أمثل تُشَبَّه به عافية الشاعر- صفات مُميِّزة. من ذلك أنها ليست ريحاً شديدة، لأن الرّيح الشديدة لا تهبّ رويداً حتى يمكن أن نقول عنها إنها "تشدو"، فوق أنها لا يمكن أن توصف بأنها "تغفو". فالرّيح الشّديدة لا تكون إلا عاصفةً مزمجرة. يتعلّق الأمر إذن بريح معتلّة، أو لِنَقُلْ إنه يتعلّق بنسيم يهب هبوباً خفيفاً فيُحدث مرورُه خَلَلَ الحشائش حفيفاً يرى فيه الشّاعر غناءَ النسيم لعصفوره الوسيم احتفاءً بالحياة....هذه الريح المعتلّة، أو هذا النسيم ُ العليلُ سيُنْتِج بهبوبه الخفيف وسكونه المتواتر، أيقونياً، على المستوى البصري والإيقاعي حالة نصيّة مدهشة: ثماني هبات خفيفة متقطعة ومفصولة بالبياض. عدد الأسطر في كل حركة من حركات النسيم متفاوت، لكنّه متقارب. هذه الهبات الخفيفة المتقطّعة معضودةٌ بشكل لافت بحركة تموج تفعيلتي الرجز والكامل الممتزجتين المتفاعلتين اللتين هبّت فيهما نسائم الصّبابة ودبّت في حركاتهما وسكناتهما نشوة الهوى،(3) وبقافيةٍ باكية توقف جريانَهما مع كلّ فاصل. هكذا يحقّق هذا الشّاعر ما يشبه حلم سلفه الذي انخطف بالمنظر البديع لدموع السماء المتساقطة على وجه البسيطة فتمنى لقط حبّاته. حقّق ما يشبه تلك الأمنية حين أمسك –بشبكة ذهنية لا أدري من أي حجم!- بهبات النسيم الخفيفة المتقطعة وجعل تموجاته تنطبع هكذا على صفحة الوقت.

 

هَذا مُدْهش.

ومدهشٌ، أيضاً، أن نرى أن من صفات "ريح" الشاعر الأخرى أنها تشبه عصفوره الوسيم لأنها "تشدو"، وتشبه أنثى ما، لأنها "تغفو" و"تصحو" على نحو متواتر مما يدل على تكسّرها واعتلالها تكسّر واعتلال الشاعر نفسه الذي لا يعرف لا ما بها ولا ما به هو. هذا يعني أننا لسنا بصدد خطاب يعتمد منطق التشبيه الذي قلنا إنه يحفظ الفرق والتّمايز بين أشياء العالم؛ وأنّنا، على خلاف ذلك تماما، أمام منطق التّكثيف الذي يعجن أشياء العالم ليصنع منها كيانات وعلاقات وحالات ووضعيات تضاف إلى العالم وتثريه. البينات أيها المحلّل، البينات؟ وإلا كان ما تقول مجرد كلام يُلقى هكذا من غير خطام أو لجام!. صدقت أيها القارئ الكريم. فلنتابع:

[2] الأنثى- الرّيح:

الرّيح أنثى بقرارٍ لا من الشّاعر، بل من اللغة نفسها. بيد أن الشّاعر يُسند إليها بعضاً من صفات الأنثى البشرية. رأينا أعلاه أنها تستكين للإغفاء حيناً، وحيناً آخر تهبّ صاحية تمرّ "مرَّ السحابةِ" إذا استعنا بالأعشى الخبير في وصف أنثاه الخارجة من بيت جارتها. وهي تَظْهَر في حاليها، إغفاءتها وإفاقتها، متكسرة. وإذا كان تكسّرها فيه بعضُ معاناة، فإنّ فيه أيضاً، وبالأولى، دلال المرأة المغناج. نستوحي هذا من المقطع الأوّل والثّاني، ونتأكّد منه مع بداية المقطع الرّابع حين يلتفتُ إليها الشّاعر ويوجِّه إليها الخطاب ويصفها بـ"ذات التّدلّل".

 

[3] الرّيح- الأنثى- القَصيدة:

 قَدْ يَعْتَرِضُ علينا معترض بالقول: إن خطاب الشّاعر في بداية المقطع الرّابع موجّه للقافية التي ختم بالحديث عنها مقطعه الثّالث؛ فنجيب: نعم، أصبت يا صاحبي. لكن هل ثَمَّ، بالتّحقيق، فرقٌ بين قافية الشاعر وأنثاه؟ لا، بالتأكيد، ما من فرق: فالأنثى التي تغنِّي لذلك العصفور الوسيم، الذي ألمحنا -وإن لم نبين بعد ذلك- أعلاه إلى أنّه ذاتٌ نصّيّة للشّاعر، تللك الأنثى التي يختلط على الشّاعر أمرُها فيكاد يرى "ما به" في "ما بها" و"ما بها" في "ما به" لا يمكن أن تكون شيئا آخر غير القصيدة. وإذا استعنّا برمزيّة الرّيح المرتبطة، في سيافات كثيرة، بطاقة التخييل وحرية المتخيل تأكَّد لدينا أننا هنا أمام "ريح-أنثى-قصيدة". وهي كيان هجين إن لم يكن له وجود في عالم الواقع، فقد صار له الآن وجود ذهني ونفسي ونصي قائم غير قابل للرفع أو الدفع.

 

[4] العصفورُ- الشّاعر:

 ما إن ينهي الشاعر رسمه لمشهد هذه الأنثى الغَنِجَة الّتي تهبّ هذا الهبوب الخفيف اللطيف حتى يستعمل صيغة الاستدراك ليتحدّث عن بعض ما يكدِّر صفو اللّحظة والمشهد في كيانِ ذاتٍ "ما"؛ فتَسْمَع تلك الذّات–لنلاحظ تراسل الحواس البديع- بسبب ذلك غيمة تُرْسِل دمعها -لا قطرها- بغزارة. لا شكّ أنّ ألماً ما حادّا شديدا أكيدا مستمرّا تنشّب في أحشاء تلك الذّات فجعلها على هذه الحال الغارقة في ملحِ دمْعٍ ذي طبيعة كونيّة. ربّاه! من تكون هذه الذات الأسطورية؟. من صفات هذه الذّات التي يحيل عليها الاسم الموصول "مَنْ" في السطر الأول من المقطع الثالث أنّ –ويا للهول- مسافتها مجنونة. هذه "المسافة المجنونة" تحيلنا على نحو مباشر إلى عنوان النص: "طائر من جنون المسافة". وحرف الجرّ "مِنْ" في هذا العنوان ليست لشيء آخر غير بيان الجنس بتعبير النّحاة. هذا يعني أنّ الذّات الأسطورية المشار إليها أعلاه هي ذاتٌ- طائرٌ، أو هي–لا فرق- ذاتُ طائرٍ. و"مَنْ" يكون هذا الطّائر غير ذلك العصفور الوسيم الغارق في الإنصات والتّألّم والتّأمّل والدّوران "الصوفي" حول محور عشقه الذي "أحدثَ فيه الكلف وأورثَه التلف".(4)

 

[5] جُنونُ المسافة/ المسافَة معَ الجُنون:

 أنْ تُجَنَّ المسافةُ فهذا يعني أن تختلط أبعادُها وإحداثياتُها واتجاهاتُها. كيف؟! بسيط يا صاحبي؛ فهذه الأبعاد والإحداثيات والاتجاهات هي، من قبل ومن بعد، تشييدٌ ثقافي. فإذا اختلطت في ذهنٍ فقد اختلطت؛ ولا يعود استمرارها في أذهانٍ أخرى سليمةً "معافاةً" نافعاً بالنسبة إلى المجنون. فهل يعني هذا أننا نقول بجنون الشّاعر؟. أجل، إنّه مجنونٌ وربِّ الكعبة!؛ ولكن بالقياس إلى ما اصطلحنا عليه أعلاه بــ"العقل الضّيّق". وإلا فإن انتقالات الشاعر بين وحدات اللّغة ووحدات الثّقافة والرّوابط التي انتقاها ليبتني من خلالها كونَه المتخيّل هي دقيقةٌ ومراقبةٌ ومضبوطةٌ على نحو ينقطع دونه الدّرك، ولا يمكن أن يتأتى مثلُه أو حتى أقلُّ منه لمتشاعر يجعل الشّعر فيضاً تلقائياً للعواطف والأحاسيس. وقد رأينا بعضَ ذلك، وسنرى بعضاً أخر في الفقرات القابلة.

 

[6] المسافَةُ المجنونَة: بينَ الشّاعر والقَصيدة:

 ليست القصيدة لا على مسافة قريبة ولا بعيدة بالنسبة إلى الشّاعر. فلو كانت على مسافة منه لكانت تلك المسافة قابلة للتقدير، وكانت هي مجرد وسيلة تستعمل لأغراض شتى. تحضرني هنا قصة شاعرة اعتلت منصةً بالرباط فحمدت الله الذي حقّق لها أمنيتها الرّائعة فصارت شاعرة؛ فقد كانت في صغرها تتمنى أن تكون شاعرة فعضّت على الأمنية الثمينة بالنواجذ حتى تحقق لها ذلك بفضل الله ومعونته. لو أنّها ختمت كلامها بحمد الله من جديد واكتفت، آه لو اكتفت ولم تقرأ لكانت كتبت قصيدتها البديعة. لكنها قرأت. وما كان كلامها ليكون، بعد هذا، غيرَ تحقيقٍ لِمُسبقٍ تَصوّريٍّ -عام وخاص- ممتلئ ومتطابق مع نفسه؛ أو على الأقلّ هذا ما يدعيه منطوق قَناةِ ذاتِ المنَصَّةِ المجوّفة المحايدة. أظنّ أن الأمر، في ما يتعلق بهذا الشاعر، بخلاف ذلك تماماً. فالقصيدة بالنّسبة إليه لا توجد لا على مسافة زمنية ولا مكانية، نائية كانت أو دانية. فحتى حين لا تُسعفه عافيتُه فـ"تنأى مثل ريح بعيدة ساكنة!" فإنها لا تكون إلا مثل قصيدة إن كانت بعيدة موغلة في المتخيل فإنها مع ذلك حاضرة في كيانه بمشاهدها وإيقاعاتها حتى ليُشكل عليه الأمر، فيُسند إليها الشّدوَ وهو العصفور، ويجعلها تكابد ما لا يدريه وهو الإنسان. ثم إنّها في هذه الحال نفسها التي "تسكنُ" فيها عافيتُه وتعتلّ، فإنّ الشّاعر لا يملك، في لحظات انزوائه وانطوائه، إلا أن يَسْمَعَ حُزْنَ السّماء وبكاءَها بأُذن القصيدة الغَنِجَة المُحِبَّةِ للحياة، فتتراءى له دموعُ الغيم قفزاتِ ظباءٍ في الفناء تُلْهِمُه القافية. ما من إحداثيات. ويلتبس الأمر أكثر حين نراه مبحرا بمركبة قطافه العجيبة في ظلالٍ خرافيّة لشجرةِ شعرٍ بسعة الكون؛ ونراه، أيضاً، طائراً –لا ندري من أي نوع- غير قادر على الانفكاك من حركة دورانه حول نقطة الجذب التي تمثّلها القصيدة. لذا فإنّ المسافة ما بين القصيدة والشّاعر هي، بالتّدقيق، مسافة مختلطة ومجنونة. لكن مهلاً، فنحنُ لا نسارع إلى الحكم بعدم جدوى العلم ونستدلّ، استسهالاً وكسلاً وتعاظماً وتطاولاً على العلماء، على فشل حسابات قانون الجذب العام وتهافت حسابات نظرية النسبية العامة!. لا؛ لا نفعل، وما يليق بنا أن نرميهم بدائنا ونَنْسَلّ!. هم يحكمون، بخصوص مثل هذه القضايا، بعدم الاختصاص؛ فحريّ بنا، يا صاحبي، أن نُحيل الملفّ إلى جهة مختصّة.

 

 [7] موجزٌ حولَ داءِ الشّاعر:

 في المقطع الثاني من القصيدة يرسم الشّاعر لوحةً لعافيته وعافية قصيدته المتردّدتان ما بين الإقبال الجميل على الحياة، والسّكون اللّحظي الفاجع. هذا السّكون هو الدّاء العياء بالنّسبة إلى هذا الشّاعر الضّاج بالحياة. يحسّ بهذا الدّاء ويرسمه دون أن يعرفه على وجه التّمام. ولأنّ الشّاعر هو، بمعنى ما، نتاج نصّي أيضا، فإنّه مرّ بمسار تكويني مشكّل من سبعة مقاطع منفصلة بسكتٍ متردّد، وَوَقَفَ أمام السّكت والبياض الممتدّ الّذي سيلي المقطع الثامن والأخير، قبل أن يتبيّن بوضوح تامّ مصدر اعتلاله وألمه. والمصدر خوف مزدوج: خوفٌ من سكون الحبّ، وخوفٌ من الكهّان.

 

• الخوفُ مِنْ سُكونِ الحبّ:

 الحبّ الكبير لهذا الشّاعر هو حبّه للقصيدة؛ أو لنقل إنّ هذه تشكِّل بالنِّسبة إليه موضوع ترسّخٍ نفساني بالغ الشّدّة. وقد رأينا أعلاه كيف يختلط عليه التّمييز بين أحواله وأحوالها، وكيف لا يفارقه التّفكير فيها حتى في لحظات انكساره وانزوائه، وكيف لا يسمع ولا يرى الأشياء إلا عبر مسافتها، ورأينا كيف يجعلها ريحاً وأنثى ومركزَ جذْب لا يملك ترك الدّوران حوله، ونُضيف الآن أنه يقدِّم نفسه في صورة مدينة أثريّة تحاكي أسوارها رموشاً باكية جراء استباحتها من قبل هذه الرّيح- الأنثى- القصيدة، ويجعل لهذه الأنثى المدهشة محراباً يعتكف فيه ليغنّي للنّجوم فتستجيب هذه وتأتيه عبر القصيدة وفيها فتُحيطه على نحو ما تفعل النحلات حول الكروم.

 لكنّ الشّاعر ينفي، مع ذلك، في المقطع الأخير أنْ تكون الأشواقُ والألحان-أي القصيدة في نهاية المطاف- من أدوائه.

 سَيفرحُ "كاهنٌ" يعتقد، بسبب كونه شدا شيئا من التحليل النّفسي، أنه يَصْنعُ شيئاً إن كشف "حقيقة "اعتلال الشاعر، فلا يزيد على أنْ يُسيء إلى العلم الجليل ويخنق القصيدة ويثبت عضلات من رماد؛ أو يعتقد، إذا أحسنّا به الظّن، أنّ مهمته هي علاجُ الناس رغماً عن أنوفهم وعلى رؤوس الأشهاد. سيفرح ويقول: إنّ النّفي إثبات. ونفي الشّاعر أن يكون مريضا حقيقيا هو ديدن كل مريض. فقد ارتبط بالقصيدة على نحو مرضي، فأصابه فصام توزع على إثره مابين الحلم والواقع توزّعاً لم يعد معه يستطيع العيش مثل بقية الناس. سيبتسمُ العصفورُ الوسيمُ، ويقول: أصبتَ سيّدي، فداء القصيدة يورّثني ألما أكثر من أي داء آخر، "ألما جد عظيم في داخلي. إنه ثقيل ومستدير وأنا معه في بلاء وعناء"،(5)لكني لا أرغب ، إن أنت سمحت، في السعي لمداواته، لأني به أحيا، أحيا بمحبة وجلال و"جمال لا حد له".(5)

 أجل، إن الموضوع الأول الذي يتجه إليه الترسخ العاطفي المتعلق بالحب، إذن، هو القصيدة. هذا الترسُّخ العاطفي الأكيد والشديد سينتقل إلى حبِّ أشياء الكون التي تصير، بسبب ذلك، ذات طبيعة شعريّة، بل سيؤول الأمر إلى حبِّ الحبّ نفسه. هذا بالضبط ما ينهي به الشاعر المقطع الخامس. فإذا كانت إحدى يديه، وهنا سنُقدِّم ونؤخِّر، قدْ أوصلته للسّماك في ظرف ثانية وذلك مما لا يكون إلا بالقصيدة ومن خلالها، فإنّ اليد الأخرى أقامت له من تلك القصيدة نفسها تمثالا للمحبّة. وها نحن أولاء أمام شاعر يحبّ الحبّ، فيقيم له تمثالا بالقصيدة.

 ومن يحبُّ الحبَّ يخاف أنْ تتعطِّل قوادح حبه، فيصاب بـ"السّكْتَة". لذا تجده يتعهّده ويحرص عليه، ويتوجّس خيفة من مجرّد تعرّضه لحالة توعّك لحظي يقطع استرسال طاقته الإيروسية في التّدفُّق والجريان؛ بل إنّه يصاب بالفزع الشّديد لمجرد أن يفكر في إمكان اختلال طفيف في حبه الأحلى لحبيبته-القصيدة التي ليس بمكنته أن يعانق الوجود بكل تفاصيله إلا عبر كيانها الأثيري القادر حتى على حقن الحزن الكوني ذي الطبيعة الأسطورية المتمثّل في بكاء الغيم بلقاحٍ إيروسي يحوِّل قطرات دموع ذلك الحزن السّماوي إلى هذا المشهد المدهش الضّاج بالحياة، مشهد قفزات الظّباء وهي تسعى في الفناء وتلهم الشّعر!

 

• الخوفُ منَ الكهّان:

 الكهان رجالُ دين. إنّهم الوسطاء بين الله والناس. هم قنوات شفّافة ومحايدة تمرّ من خلالها مشيئة الله وتشريعاته التي يتوجّب على النّاس أن يكيّفوا كياناتهم ووجودهم في المجتمع وفي العالم وفقهما. فالكهّان مجرد مبلِّغين، لذلك فإن إراداتهم وأقوالهم هي نفسها إرادة الله وقوله من غير فرق. تعدديتهم هي مجرد إجراء للتنزيل لا أكثر. ولسنا نحتاج إلى الإشارة إلى أن من واجباتهم الأساسية أن يقوموا بخدمة تقديم ذبائح سنوية وشهرية وأسبوعية ويومية. للكهانة كمدخل معجمي بعض التلوين في حقل الثقافة العربية، بيد أن ذلك لا يقدّم ولا يؤخّر في ما نحن بصدده. وهي، إن اكتفينا بمستوى "المنطوقات"، مرفوضة في حقل هذه الثّقافة، إنْ لم نقل ممنوعة. لكن "المفهومات" والوقائع تدل على أن الكهانة تقيم بيننا وفينا بفَحاشَة تفوقُ ما كان عند غيرنا في عهوده المعتمة. نستطيع أن نقول، إذا تبيّنا وظيفة الكاهن القائمة في الانطلاق من قبليّات تصوّرية متصلِّبة والتّصرف على طريقة قاطع الطريق اليوناني "بروكست": كلٌّ منّا كاهنٌ. نحن كهّان لا في الإيديولوجيا فحسب، بل في السّياسة والأخلاق والأدب... وحتى، أعوذ بالله، في العلم!. أليس كارثيّاً أنْ يفزع الشّاعر من مجرّد اختلاف بسيط بين النسيم والصباح في بلادنا ويخشى أشدّ الخشية من أن يؤول أمرُهما -وهما اللطيفان الجميلان- إلى التّناحر وتحكيم السيف، بل ويضطرّ لتقديم الموعظة بضرورة الاحتكام للصّبوح لحل الاختلاف. ماذا لو تعلق الأمر بالكهّان؟ ونحن، ربّاه، كهّان وإن تفاوتنا في دركات التّكلّس. ألا يحقّ لكلّ "عصفور وسيم" أن يفزع من احتمال تقديمه قربانا للمذبح في كل وقت. كيف لا تترسخ عاطفة الخوف من الاختلاف بشدّة وحدّة لدرجة انتشارها وتنقُّلها على هذا النّحو الذي يضطرّ شاعرا للتّدخل وتقديم إمكانية الاحتكام لغير السيف، يا للهول!، في خلاف النسيم والوسيم!. الاحتكام للصّبوح، والحال هذه، نهج مختلف في الحياة، نهج أعلى وأغلى وأحلى. فالصبوح راح والراح والريح رمزان لطاقة المتخيّل، فتكون دعوةُ الشّاعر دعوةً لتشغيل المتخيّل للخروج من أسْرِ العقائد الطّهرانية بالغة العُقْم والضَّيق.

 

[8] خاتمة:

 لم نفصل بين مستويات النّص فنُحيله إلى تخطيطات مدرسية مفكّكة مثل أجزاء آلةٍ معطّلة حلّت أجزاؤها وفصلت؛ ولم نخنقه بإهالة تراب النظريات الكاتمة للأنفاس عليه؛ بل حاولنا أن نتتبع خيوط علاقاته المتشابكة، فكان أن نفى تنقُّلنا بين عناصره ومقاطعه وعلاقاته كل احتمال لانفصال مقاطعه بعضها عن بعض. فتقطعاته نفسها مسبوكة محبوكة بقصد خدمة متخيلها ذي الأبعاد المدهشة. وقد شغّلنا خلفيتنا المنهاجية المتمثلة في التحليل الدلائلي الجهوي اليُصطلح عليه بالبلاغة فنشّطنا الأطر والشبكات الذهنية التي استند إليها الشاعر في بناء عالم النص من غير أن نسقُط في اختزال معانيه غير القابلة للحصر بإرجاعها لقصد متعالٍ آيلاً كانَ للشّاعر الواقعي أو للمتلقي.

 

......................

المراجع:

(1)نشرت القصيدة بأحد أعداد صحيفة المثقف الإلكترونية.

 (2)لعل أولى أولئك الباحثين بالذكر الدلائلي الأمريكي شارل سندرس بورس؛ والإيطالي أمبرطو إيكو. وقد اجتهد الفاضلان د. سعيد بنكراد ود. محمد مفتاح في تقديم جوانب من المسائل الشائكة المرتبطة بالدليل وأدلى كل منهما بدلوه فيها فلتُنظر كتبهما.

(3) سيُتعرض علينا بالقول إن الأمر لا يعدو أن يكون تسكين ثاني تفعيلة الكامل، ولا صلة للرجز بذلك. فنقول إذا اعتبرنا الأمر كذلك قلنا إن تسكين الثاني من تفعيلة الكامل ألانه وقرّبه من "ريح الشاعر". رأي تمازج البحور للجليل محمد مفتاح. وهو رأي حصيف لولا أن نزعة وضعانية تداخله في بعض المواطن. يُحسِن، في ظننا، حين يستعمل التمزيج . انظر: محمد مفتاح: مفاهيم موسعة لنظرية شعرية، الجزء 1: مبادئ ومسارات، الفصل الثاني: توليف الأنغام، المركز الثقافي العربي، ط.1، 2010، ص. 181 وما بعدها.

(4) عبارة لأبي حيان في وصف العشق، أنظر: أبوحيان التوحيدي: المقابسات، تحقيق: حسن السندوبي ، منشورات دار المعارف، تونس، ط. 1، 1991، ص. 255.

(5) جبران خليل جبران: اللؤلؤة، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران المعربة، تعريب الارشمندريت انطونيوس بشير، مكتبة صادر. بيروت- لببنان، بدون تاريخ. ص. 406.

 

 

طائرٌ من جنون المسافة / سامي العامري

 

شبَّهتُ عافيتي بريحٍ نائيهْ

تشدو لعصفورٍ وسيمٍ

فوق خاصرة الحشائش

والرُّبى والساقيهْ

 

وتعود تغفو

ثُم تصحو

ثُم تغفو

دون أنْ أدري تماماً

ما بها أو ما بيهْ

 

لكنَّ مَن جُنَّتْ مسافتُهُ

سيسمعُ غيمةً تهمي

دموعاً

يا لقطراتٍ

كقفزاتِ الظباءِ

سعتْ أمامي في الفناءِ

وألهَمَتْني القافيهْ

 

ولأنتِ يا ذاتَ التدلُّلِ

حيث يأسرني مدارُكِ طائراً

فيُبيحُني

طعماً كطعمِ مدينةٍ أثريةٍ

أسوارُها تحكي

رموشاً باكيهْ

 

غنَّيتُ في محراب نومك للنجومِ

وقد أفاقت مثلما النحلاتِ

من حول الكرومِ

هما يدانِ

يدٌ أقامت للمحبة منك تمثالاً

وأخرى أوصلتْني للسِّماكِ بثانيهْ

 

ماذا إذا اختلفَ النسيمُ مع الصباحِ؟

فكلُّ جُلاّسِ النبيذِ اليومَ يختلفون

رأياً

ثم يحتكمون لا للسيف لكنْ

للصَّبوح تشفُّ عنهُ الآنيهْ!؟

 

وأنا اتَّفَقتُ مع الخلافِ

أقودُ مركبة القطافِ

إلى بحارٍ لا تقيمُ،

تظلُّ تبحرُ

في

ظلالٍ راسيهْ!؟

 

دائي هو الحُبُّ المُهدَّدُ

بالسكونِ وصولة الكُهّان

لا الأشواقِ

لا الألحانِ

ها هي ذي الحقائقُ

كيفما جِئنا لنكسوَها

تعاندُنا لتخرجَ عاريهْ!

 

برلين

آب - 2011

 

للاطلاع

طائرٌ من جنون المسافة / سامي العامري

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2030الثلاثاء 14 / 02 / 2012)


في المثقف اليوم