قضايا وآراء

قراءة وتأويل لقصيدة (تعميد) للشاعر سامي جبر السعد: التطهير بماء الشجن / رياض عبد الواحد

كل الحياة ومهما كانت الظروف وهي ترافق الايمان وتلتصق به بنحو مباشر، هذا من جهة اصل الكلمة اما من الوجهة العملية، فالتعميد عملية تطهير جسدي بواسطة الماء والزيت المقدس الذي يسمى ( فيرون ) .اذن ما يراد من التعميد هو التطهير، تطهير الروح من ادرانها بواسطة شيء مادي، او معنوي .

تبدأ القصيدة بالدال اللساني المحكوم بصيغة النداء \ يا \ ولاستعمال النداء ما يبرره، اذ انه يوجه انظار المتلقي الى ما يريد الشاعر قوله اضافة الى انه ضرب من الايجاز الذي يميل الى استمالة المخاطب، ويبعث على اثارة دواخل المتلقي لأدامة زخم فعل المتابعة اللاحقة :

 

يامن قطعتم رمان الخوف

كالعلقم كان

قطاف مناجلكم

الان الجذع بلا عينين ؟

ولان الغصن بلا اذنين ؟

ولان الورد

بلون الشمس

تودع غيمات الافق

 

هنا نلاحظ ان فعل النداء قد الحق بموصول حامل لمعنى الموصولية . هذا الاجراء يحاول محو التواصل بين طرفي الخطاب الا ان الاستفهام الوارد في السطر الثالث هو استفهام مجازي حاول الشاعر بواسطته طرح تصورات ما يتحدث عنه لأخراجه من الصورة الحقيقية الى مقاصد اخرى بدليل القرينة النصية التي استطاعت ان تحرف سيرورة الدلالة . ان مجىء الهمزة للسؤال يراد به – هنا – التصديق والتصور لأن الحدث حاصل غير ان تواشج النفي مع الهمزة لا يراد منه نفي الواقعة بقدر تقرير ما بعدها وقد تحقق ذلك بالفعل .

اذن الصورة الموجودة في السطور آنفا ذات سمة بصرية تسعى لتعويض الفقدان المستمر للاحبة متجردة من منتجات العقل كي لا تفقد هذه السمات البصرية كينونتها الا اننا نلحظ ايضا ان منتجات تلك البصريات لم تسر على الطريق نفسه بل انحرفت عنه بمقصدية مسبقة وواعية بسبب من الاسقاطات التي اضفاها السارد العليم على هذه المنتوجات . فمجىء \ الرمان \ مقترنا بالخوف قد احدث خرقا مهما، اذ انه يعطي طرفي المعادلة انزياحا بعيدا . اضف الى ذلك ان عملية \ القطاف \ تتخذ منحى جديدا كون اداة القطف للمان كما هو معروف \ اليد \ الا ان احلال \ المنجل \ بديلا عن اليد قد حرف سيرورة الدلالة بأتجاه مغاير ادى الى استلاب المدلول من الدال في بنية تعالقية خارجة عن كينونته الاصلية وهذا هو ديدن الفعل الشعري الحديث . ان الصاق \ الرمان \ بـ \ الموت \ ما هو الا تسخير دالة مفيدة رمزا لمدلول غير مفيد بل وسلبي \ الموت \ الا ان ذلك اكسب النص مجموعة من الانزياحات الدلالية التي تخرق المألوف فاللغة قد خرجت من كونها وسيلة فهم الى وسيلة تأثير في الاخر بحسب \ فيتشتغاين \ . اعتمدت القصيدة ايضا على عملية ( قلب النسق)، اذ يمكننا القول ان عبارة (الجذع بلا عينين + الغصن بلا اذنين) تنطوي على قلب الصفة وموصوفها، بمعنى اننا الصقنا صفة جديدة على موصوف لا يملك تلك الصفة في تكوينه الاولي باي حال من الاحوال وبهذا فان عملية ( طرح الموصوف منقطعا عن صفته) الطبيعية هو اجراء ذكي لان الهم العام الذي يغلف السطور هو هم لا يخرج في صفته العامة عما الصق به من غير صفاته الاصلية، وبهذا حقق الشاعر نجاحه الباهر من اقحام ما لا يقحم في هذا المجال وحقق معالجة تقنية ولدت مجموعة من الشفرات الرمزية الثانوية للموصوف وهذا ما رتب قبول التأويل على اكثر منمستوى لاغناء المنتوج الدلالي . يستمر فعل السرد بالاتجاه نفسه، فالجملة الفعلية التي تبدأ بالفعل \ تأبى \ الذي ينطوي ضمنا على تنويه ب ـ \ الرفض \ صدر عن شيء غير عاقل الاشجار + الانهار + الامطار . هذه البؤرة المتشظية من البؤرة الرئيسة تؤدي الى محصلتين متعاضدتين :

الاولى تفضي الى ان \ الرفض \ عملية مشاركة بين ما هو عاقل وغير عاقل بمعنى تمثل الاشياء الحسية للفعل السيء وهذا ما اضفى بعدا شفيفا لهذه الدوال من اجل ان تلبس الصورة الشعرية لبوسا يقترب من الصورة الحقيقية لما يجري على الارض . والمحصلة الثانية تفضي الى ان هكذا توصيف يمتد الى ما هو غير مباشر كون هذه المفردات قادرة في مثل هذا الموقف على احداث بؤرة تفاعل وجداني مع الحدث المراد توصيله . ان عملية اللاسكوت المقرونة بالشجار والامطار والماء تمثل نقيضا لمنتوجها الاساس الا ان وقوع هذه الاشياء ضمن دائرة الاحساس بالفجيعة المتحصلة جعل بينها وبين الانسان سمة مشتركة جراء وقوعها تحت التأثير نفسه . فبنية الاحتجاج المقرونة بالرفض لم تأت جزافا بل انها متأتية من حقل دلالي واحد لان الرفض نابع من مرادف دلالي هو عملية \ السكوت \ عن سرقة النسمو والبسمة التي من دونها لا تتحقق الحياة لأي كائن . اذن القاسم المشترك في الحقل الدلالي واحد وان بدا على غير ذلك ظاهريا الا ان تمكن الشاعر من ادواته قد بلور معطيات متعددة لحالة واحدة .

 

فغدا يفتح شباك المكروبين

وتطل الشمس

لتفضح اسرار غياهبهم

سيفرون كجرذان

او غربان

من حول جثامين

ضحاياهم

 

تتحول اللغة الى موضع المواجهة بمعنى انها تأخذ منحى الاخبار الموقن لهذا يبدو التعبير مباشرا وهذا ما تذهب اليه الاسطر آنفا اذ انهاموجهة لأدراك معنى واضح المعالم . فهي اي الاسطر ذات مقصدية مبيتة لأنها تنحو بأتجاه توكيد غد لا بد ان يتحقق .لاحظ الترابط بين \ انفتاح الشباك \ والذي يعني المستقبل و \ اطلالة الشمس \ التي تعني بزوغ امل ووضع جديد حامل لبذرة التغيير . ان القوة المتجذرة في المستقبل هي المسؤولة عن فرار القتلة الذين دمروا الزرع والضرع . ان عملية تغييب المعنى الاساس خلف طروحات مباشرة هو الذي اكسب السطور انفا اهميتها وان الظلال الكثيفة التي احاطت بالكلمات سوغت لنا هذا التأويل المعقول . ان عملية انفتاح الشباك ستؤول حتما الى عملي فرح لاولئك المكروبين بواسطة الشمش التي ستغسل كل شيء وستضيء في الوقت نفسه عتمة الزمن المر.

 

***القصيدة من مجموعة للشاعر بعنوان : لعيني اروى \ 2011 \مطبعة القدس \ البصرة

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2035 الأحد 19 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم