قضايا وآراء

حراثة في ديوان قديم .. كاظم السماوي في "إلى الإمام أبدا" / شاعـر بـثـلاث ذوات / عباس حويـجـي

معياراً لتوصيف ما قبلها وما بعدها من نتاج شعري  وأساليب تعبيرية، وتقـنيات شكلية، ودلالات لغـوية، تمتلك قدرة على البقاء والـتأثير ؛ وهي طريقة تقليدية في النقد وتـنمـيط الأجيال والفترات التاريخية .

هذه الطريقة التي أسقـطتْ من سـلـّتها مئات الشعراء الذين أصبحوا بسبب تـعسـّف النقـد، خارج متن التـأريخ الأدبي أو على هامشه، على الرغم من إنّ هؤلاء يمـثلون الحقيقة التاريخية أكثر من الشعراء المشهورين، كما يرى المؤرخ الدكـتور فيصل السامر .

  ولعلّ شاعرنا كاظم السماوي من هذه الفـئة المهـمّـشة نقدياً، والمنـسـّية شعـرياً

والتي أسـقطتْ حقوقها التاريخية في تدوين سيـرتها وأدبها وموقفها النضالي في

ساحة النـقد أم في ميدان الجهد الوطني على السـواء.

 

ليست ْهذه المقدمة عذراً للالتفات لشاعر منـسي، ولا وفاءً لسيرة عصاميـّة، وإنما لأنّ ديوان "إلى الأمام أبداً" - الـصادر  عام 1954 عن دار العلم للملايين في بيروت، والذي ولد بعد مجموعتين شعريتين، أولاهما: "أغاني القافـلة"/1951، وثانيهما "الحرب والسلم" /1953 -  وإن كان بعيدا عن أيّ أفق ريادي أو نموذجي في التجربة الشعرية العراقيـة، لكنـه  في الأقل يحمل جـينات نموذجه الخاص، وتجربته الشخصية، في أنـّه يفصح عن تـوحـّد الشاعر بالمناضل، والوطني بالكوني، والسياسي بالرومانسي .

 

هذا التوحـّد يختلج في مجمـل الشعر السياسي والوطني حتى خمسينات القرن الماضي بهذه الصورة أو تلك، عند هذا الشاعر أو ذاك، وهو توحـّد  نحتاج إلى الغور في عمـقـه السوسيولوجي،  والـفكري، والإبداعي، لنرى صورته الكلية بتقاسيمها المنظورة والمحدوسة .

 

أ-2

يتحدث جبران خليل جبران في (المجنون) عن ذواته السبع،التي تتجادل للسيطرة

عليه، وامتلاك كينونته .

كما يخـتبر الشاعر والناقد  ت .س  اليوت   التغـيـّر الذي يعتري صوت الشاعر

بتـغـيـّر المتـلقـّي ذاتا أو جمهورا أو موضوعاً . غير أن ّ (مجنون) جبران، تتجادل

ذواته السبع لإثبات حكمة وتحقيق سلوك، وأصوات الشعر الثلاث عند إليوت هي

رصد للتغيرات الفنـية في ُبـنـْية القصيـدة إبـّان توجـهها لذات الشاعر، أو إلى جمهور

أو لخـلق دراما .

لكن الاثنين جبران وإليوت يحفران في ذات الشاعر الأقـنـية المبهمة التي تزوغ من

الذات إلى الخارج، أو من الذات لعمق آخر في الذات .

 

وافتراض ثلاث ذوات للشاعر ليس انشطارا نفسياً، أو انـقساما مرضياً، كتلك التي

يعالجها منهج التحليل النفسي ؛ كما لا نستطيع اعتبارها – كما عند إليوت – أصواتــاً

شعريـّة،تستقلّ بنـفسها حيناً، وتظهر مع بعضها حينا آخر، أو أنها أنساق خطابـيـة

في القصيدة تفـترعها التجربة.

إنها أكثر من ذلك، أنها الذات التي يحملها الشاعر في ميدان العمل ( النضالي والسياسي والإبداعي ) وقد توزّعـتْ وتخلـْخلـَتْ مركزيـّتها، فكل ذات تتمـتـْرس

خلف (مهنتها) وتنصاع لشروطها، وتتكيـّف لبيئتها، وتلـتزم قنواتها الخاصة للتعبير

والحركة والتواصل، فيتـخلـّق ُ لديها قاعـدة سلوك، وبـُنـْية تـقالـيد، تـنـْتج سلـطـة متحـكـّمة لها لغـتها وخطابها الموجـّه .

ستظهر هذه الذوات واضحة لدى الشعراء الذين احترفوا النضال السياسي، وعاشوا

في الخفاء سنوات طويلة، كشاعرنا كاظم السماوي الذي عاش جـلّ حياتـه مشـرّداً

ومطارداً في المخابئ السريـّة والسجون والمنافي، وأسقطت عنه الجنسيـة العراقيـة

منذ عام 1955 .

 

أ-3

وفي ديمومة الصراع تنقسم ذات الشاعر إلى ثلاث ذوات : ذات المناضل وذات السياسي وذات الشاعر. وحين تتـعدد هذه الذوات في قدر واحد، يبدو تعسـفياً تفكيك قواعد انطلاقهـا،وآلـيّة مسيرهـا، إذ ْ أنّ تماهي إحداهـا بالأخرى لا يوفـّر لنا غير

تلك الفرصة التي يهبها منهج تحليل النصوص واسـتـنطاقـها .

ولعل الشاعر يفصح من دون ترميز أو مواربة لفـظـية، عن حركة هذه الذوات،

منفصلة آناً، ومختلطة ببعضها آناً آخر.

وتظهر أكثر صراحة في لحظات الانكسار والخسائر الموجعة،حيث ينهض الشعر بالـتعويض بسيل فيـّاض من أمل حتمي، وتـثوير العاطفة النائمة بقـدسية الشهادة

 والتضحيات ؛ وبذلك يعمل الشعر على خلق توازن نفسي، ومعادل قيمي، في ظرف يصبح فيه الإهمال والنسيان والركود الاجتماعي كيانات مجلجلة أكثر من عسف السلطة .

 

أ-4

فحياة المناضل هي غير حياة السياسي أو الشاعر، فالمناضل ليس له وجود واقعي،

إنه شبح باسم مستعار، لكنـّه سادن الايدولوجيا وبوّاب الثورة،بيده مفاتيح المستقبل،

وبمشيئـته يقف التأريخ وتتحرك الجغرافيا، انه يحيا في الغياب (مفرد بصيغة الجمع)

 

كما يقول أدونيس، لا جمهور لديه ولا أسرة أو حب، انه كالبطل المبرْمج تسـيـّره

الأفكار وينقاد له القدر . خطابه خطاب مـتعـال، مُمـَنـْهج، تكمن فيه سلطة خـفيـّة،

موجـّه لنفسـه أو لنخبة من أمثاله، ولغتـه حديدية فخـمة، مسرودة من تراث معتصم

بهـيـبتـه.

أما السياسي فهو رجل العمل اليومي، الكادح المناوب في الشارع العام، الدريئـة التي تـتكـسـّر على حلقاتها صدمات العنف والقهر، كبش فداء الحرية...

خطابه تعـْبوي، أبوي، محـرّض، ولغـته حادّة، طـنـّانة، شعائـرية آمرة .                    

 

أما الشاعر فهو الابن العـاق للواقـع، الذي يبني بالكلمات يوتوبيا المناضل ومثابـات السياسي، انه تابع مطيع للاثنين، يتماهى فيهما حينا، ويتمرّد عليهما أحيانا أخرى،

وفي تمرده يعود لقاعدته الأليفة : الناس. خطابه شعبوي، عاطفي، منحاز، ولغتـه ثريـّة بالرموز المفتوحة على الوعي الجمعي .

 

هذا المتن الإستباقي للذوات، هو توصيف أوّلي، لأن الإجراءات التحليلية للنصوص

ستكشف بـؤراً ليست مكشوفة، وكنايات أهملها التأريخ الأدبي، لأن مدوناتها تتـصل

بالحياة السـرية الصعبة المنال والعصية على الذاكرة .

 

ب-1

وإذا ما تتـبـّعنا آثار هذه الذوات في حركة القصيدة، سنجـد ذات الـمناضل تـقـود  الذوات الأخرى إلى قـدَر يوتوبي، وبطولة أسطورية، وتقنـين وهم كبير بحتـْمـية انتصار الخير والحقّ، هذا الوهم الذي أصبح أيقونة تنـصب في كل محفل صراع، لتقديم الشهادات والعذاب والدموع كتعازيم واجبة :

 

                رفـيقُ النـضالِ، وكـم قـُطـّعـَت ْ

                نـيـاط ُ الـعـواصـفِ من سُـخـْره ِ

                وكـمْ داهـمتـْكَ الخطوبُ العضال

                فـعـادتْ صـِغـاراً لـدى كـِــــبْـره ِ

                وحســبـُكَ أنـّكَ عــفّ الضـمـيـرِ

                تـلـوذ ُ الـكــرامـة ُ في خـَــــدْره ِ

                وأنـّك تــسْـتفّ هـذا الـتــــــرابَ

                إبـاءً، وتـصـفـحُ عـن تـِـــــبـْره ِ

                وتـخـرِسُ من هـاجـس ٍ صارخ ٍ

                يســـم ُّ دمــــاءَكَ في وَغـْـــــره

               ولـو شــئـْتَ كان مـداكَ الـمـَـدى

               طـواعـاً على الـبـَرّ أو بـحـْـره ِ

                                                         (قصيدة غداً /ص 48 )

 

لقـد تحـوّل (النضال) من الفعل السياسي العام إلى النضال لذاتـه، النضال كفعل تطهيري، كممارسة لتمجيـد السـيرة الشـخصـية، كجلجلة تمـْتحن فيها قـدْرة الذات

على المقاومة والتحـمـّل كما أمتـحن القـديسون والأولياء .

وبهذا التحـوّل ينـقلب الشعر إلى منطقة للكفاح وأسلوب للصراع، تـخـْترقه الايدولوجيا وتأخذ بلـجامه، بينما تعمل السياسة على شـحذ لغـته وتوطين رموزه،

وإمداده بالموضوعات الحـيـّة التي يحتاجها الـصراع  لكي يستمر.

فـثمة ما يـُفترض انّ الشعر   أداة تـنـوير أكثر فاعـلية مـن الـخطاب السياسي  أو الإيديولوجي . فالمناضل لا يحتاج الشعر كلغة تثوير عاطفية،إنما أكثر من ذلك،

يحتاج الشعر للسـموّ على العزلة والانحطاط الاجتماعي، والتحرّر من الضغوط القهـْرية، يحتاج إليه كتأريخ ما أهمله التأريخ، لإنتاج الرموز الجمعـيـّة التي تـوّحد عواطف الناس، وتبـثّ الحرارة في قراراتهم ويقينـهم، يحتاج الشعر كعصا موسى

لتـلـْقف عنف السلطة وجبروت دعاواها ودعايتها السائدة، والتي لا تستطيع

 البيانات السرية مجاراتها .

وإذا فهمنا إن الشعر جزء حيّ من سليقة الشخصية العربية، وإطار من إطاراتها السوسيولوجية، أدركنا التـمـثـّلات التي يعنيها الشعر، ويدفع إليها الشخصية التي

تتـماهى بالسياسة إلى حالة من الوجد الحماسي، يصبح فيه الشعر هو القاعدة

 الجمالية،ومهماز المقاومة السياسية، التي تكون جاهزة على الدوام للإنطلاق

مع التظاهرات والإضرابات والاعتصامات، في السجون والمنافي والمنشورات

السرية، كما في الهمس العلني وجلسات السمر الودية .

 

ب-2

يفـتتح الديوان بقصيدة (الساري/ص11) وهو عنوان دال على التـخـفـّي ( لغويا: السائر ليلا) وهي قصيدة سيرة تستبْـطـن معارج الشخصية النضالية في ترويض

النفس،والكفاح من أجل المـُثل العليا للإنسان، واختراق الحياة في أعسر تقاطعاتها:

صنع الثورة أو التغيير ؛ هذا الاختراق المـُفضي لبطولة خارقة تكاد تكون اسطورية. فالمناضل هو يوليسيس (بطل ملحمة الأوديسة) معاصر،لا يصارع

فقط عدواً طبقياً مفهوماً، وإنـما أيضا يصارع المجهول والقدر والضعف البشري:

 

                         وتطـْوي الدروب َ بـأثـْر ِ الـدروب ْ

                         وفـي كلّ مـغـْرب ِشـمس ٍ تـجـوبْ

                         ربـوعاً، فـتعـلو هـناك الســــحابْ

                         فـُوَيـْق َجـبـال ٍ عـلاهــا المـشـيـبْ

                        وتـحتَ الـصواري تـشـقّ الـعـبـابْ

                        ومـا زلـتَ في كلّ أفــق ٍ تـجــــوبْ

                        فـيـرْتـدّ ُعـن مسـمـعيكَ الـصــــدى

                        ويـَقـْـصرُ عن مـقلـتيــكَ الـمــــدى

            

                       وعيناك َ تـلـمـحُ  أ ُفـْقــاً بـعـيــــــد ْ

                       فـتنـفضُ عـنكَ حـواشـي المـســاءْ

                       وإصـْرارُ عـزْمـكَ مـلْءَ الـرجــــاءْ

                                                                  (الساري/ص12-13)

هذه الشخصية البطولية بكل تـجلـيّاتـها الفوق إنسانية، هي نموذج مثالي بالغ الكمال،

حتى يبدو أنها فكرة أكثر مـما هي مـمارسة مـتحـقـقـة، فـكرة من تـلك الأفكار التي

يجترحها الادب كرموز جمعية، ونماذج محكية للـعنفوان والتـمثـّل .

 لكن هيكلية هذه الشخصية هي هيكلية واقعية في أخلاقيتها وتجردها وفاعليتها الكونيّة، فهي وريثة ذلك العمق التاريخي من التـمرد والمقاومة، التي اسـتنـْبتها

الإنسان الساعي لبناء حضارة عادلة في المجتمعات التي خلـْخلتها الـبـنـْية الطبقية

الهرميّة،  وصقلتها الأحزاب الماركسية واليسارية كصيغة من صيغ بناء الشخصية       الـمحررة الفاعلة التي يعتمد عليها البناء الاشتراكي.

وشاعرنا كاظم السماوي هو من بـُقـْيا هذه الشخصية التي يحمل جيناتها،وقيمها النادرة  :

 

                             لـكَ الـمجــد ُ لـمْ  تـلـْق ِ الـزمـامَ ولـمْ تـهـنْ

                             كـمـنْ قـصـّـروا حـبـْلَ الكــفـاح  ومن ردّوا

                             وآثرتَ تـسـْتـَفّ ُ الـتـرابَ مــن الـطــــــوى

                             وأنْ يـخـرسَ الأهـــــواءَ خـافـقـُكَ الـجـَلـْـد ُ

                             وإنّ ظـَمـاً فـي نـغـْبـة ِ المـاء ِ تـنـْطـــــفـي

                             ومـن سـبـَخ ِ الأرض ِ الـوسـادة ُ والـمهــدُ

                             لأقــْدس ُ مـن (عـار ٍ) يـُقـال لـه (مـــجــدُ)

                             ومـن (بـذخ ٍ) جـان ٍ، يـُقــال لــه الـسـعـْد ُ

                             ومـن ( وشـِل ٍ) يـزهــو بـنـَشـوتهِ الـعـبــد ُ

                             ومـن ( فـضــلـةٍ) يـنـْدى بـحـمـرتها الـخـدّ ُ

                             فـلا المـغـْريـات الـبـيض طابَ لـها الـو ِرْدُ

                            ولا الموحشات الـسود  دان لـهـا الـقـصــدُ

                                                                              (الرصافي-ص55)

 

ب-3

وفي قصيدة (الكلاب تعوي-ص21)، تعود ذات المناضل بسؤال استنكاري: مـَنْ

هؤلاء النابحون..؟ وهو سؤال مستفز يختزن ثـلة من الرموز والصفات المستهدفة

لتسفيل (العدو) وتحقيره، حتى يبدو كأنـها عـادة طوطـمـيّة  ؛ فمناعة العدو الطبقي

وقوته يجري السيطرة عليها، عن طريق تحقيرها وتصغيرها .

وبهذا لا تتشـكـّل صورة العدو كنظام سياسي ومجموعات بشرية وجيوش منظمة،

 

من قوى ملموسة، وإنما من قوى حيوانية ضعيفة ومحتقرة :

               

              عـواء ُ الذئـابِ يشـقّ عـليـــك

              ظـلام الدروب ِ، وترنـو إلــيك                           (الساري-11)

          

              وتنـفضـنّ على الدروب، غبار نعلك والسباب

              ولـعنـة ً حـمـقـاء، يـبـصـقـها الــذبــــــــــاب

              وقـصـة الـحـقـد ِ الـمـريـر.....

              تـحـوكــهـا تـلـك العناكــــب فـي الــقـصـــور       (الكلاب تعوي-21)

        

             وكـم ْ قبـلـكـم جـُنـّت الـعـاويــــــــــــات

             ذئـأباً.... تناهش في أثــــــــــــــره                 (غداً – 49 )

            

              أشـباح ُ(أغـْوال ٍ) بـأطباق الـظلام ِ تـُسـمـّرُ

              ظلـّتْ تـمصّ من الـدما شـلواً وشلواً تعصرُ        (المعول – 51)

 

وقـد تـكـررت مفـرداتـها في جميع قصائد المجموعة تقريبا، بما يعني أنها أبـعد

من الهجاء السياسي، وأنها تسـتمد ّ ثـقـلها من مـناخ ثـقافي خـرافي وشـعبي، ما

تزال آثـاره فاعلة في الحياة الاجتماعية .

 

ب-4

إنّ ذات المـناضل في سـعـيـها لـتوسيع مـيـدان حـركـتها، وأفق هـيمـنتها، تـستـحضـر الأسمـاء والأشـخاص لتعـيـد إنتاج تأريخها وحـوارها، وتـقويل

رمـزيـتها المفـترضة، ليصبح كل مفصل ٍ منها قابلاً للـتأويل والـتوظـيـف .

فكل من (الأسماء والأحداث) تـمـرّ في بوتـقة هذه الذات لتخرج منها وهي

مكـيـّفة ومـهـذبة، تحمل سمات المناضل، أكثر مـما تحمل سماتها الخاصة

بها .

فذات المناضل ما تزال تـشـكك بمقدرة الشعر أمام قيم النضال ... من يرقى إلى

المجد ؟ النضال أم الشعر ؟

     

                فـقـد كـحـّلـتْ عـيـنـيّ سـيـمـاك وانـجــلـى

                لـيَ الـمـجـدُ، هـل يـرقى لـعلـيائـه الشعـرُ

                                                                      (ستالين-ص32)

 

وما تستـبـْطـنـه ذات المناضل عن (ستالين والرصافي)، إنما هو معارج السيرة

الشخصية التي تخـتزنها ذات المناضل، وما التفصيلات الإنشائية في جــسـد

القصيدة سوى بيانها العلني .

وبـهـذا يصبح الشعر مـطـيّة المـناضل لترسـيـم سيـرته الباطنـية، وتزييت أجنـحـتها

لكي يـشقّ فيها الآفاق المتعالية على البشر العاديين، إلى دار الخلود إنْ لـزم الآمر.

 

وفي تنـّور الشعر إنـقلب(الرصافي)عديلاً أمـمـياً لـ (ستالين)، وارتقت(ديان بيان فو)

قرينة ثورية لـ (بيروت)، لقد خرجت الأسماء من تاريخيتها لـتكون عصا الحكمـة،

ومـرابط الأمـثال الثورية ؛ كما هاجرت المـدن من جـغرافيـتها الطبيعية،لتكون مقدمة الأضحية في سبيل الـغـد :

 

                         يا زهـرة ً روّتْ مـفـاتـنَ سـحـــــرهـا

                         بـدم ِ الجـياع ِ، متى سيطـفئـكِ الــدمُ؟

                         ومتى يـُطـَأطـأ ُ فـيـك ِهـامُ مسـلـّـــط ٍ

                         لـمسـلـّطين تـجـبـّروا وتـحـكـّــــــمـوا

                         أوَ تـسْـتـبيـني فيك ِتـطـرية الـنـــــدى

                         ولـهاث ُ روحـك ِ جـاحـمٌ يـتـضـــرّمُ

                         لا لا وحــقّ  الـمـُدلــجـينَ وتــلـْكــــمُ

                         أشـبـاحـهـم عـبـْرَ الـغـيـاهـب ِتـلـكـمُ

                         سـُـهـُـدٌ بـأجـْنـان ِالظـلام وإنْ دجــى

                        لـيـل ٌ، وغـارتْ في دجـــاهُ الأنـــجمُ

                                                                              (بيروت1954-ص59) 

 

وفي عنابر هذه المغامرة الشعرية، يجري اخـتبار وتـنـقية البطولة الفردية، القادرة

على قـهر القـدر، وصياغة اليوتوبيا، وخلق الحياة . هذه البطولة التي يـتـعمـْلق فيها

الفرد إلى نموذج مثالي، إلى كيان مطلق، إلى معبود شعبوي . حيث تـتنـزّه ذات

المناضل بواجب هذا الاصطفاء، والدعوة لتثبيت دعائمه والترويج له :

               

                      فيا قـاهـرَ الـطغـيان ِ، والـريح ُ زعـْزَع ٌ

                      وإنّ الـدجـى طـاغ ٍ، وإنّ الـسـُرى وعْرُ

                      وانـكَ ثـَبـْتَ الـرّوْع، تـَجـْثـمُ شـامـخـــاً

                      حـديدُ المنى، يرتاعُ من صبركَ الصبرُ

                      ويــا نافـخَ الـتأريـخ ِ روحــــاً جــَديــدة

                      يبـين ُ لما اسـتَعـْصى بها الفرعُ والجذرًُ

                     ويـا واهـب َالأجــيــال ِ نـورَ حــداتــِهـا

                     إذا مـا ادلهـمّ الـخـطـْبُ، أو ظلمة ٌ تعْرو

                     ويا مـودع َالإنـسان ِ سـر ّ كـمـالــــــــه ِ

                     وكـم ْ رَث ّ إذلالاً، وكـم أجْـحـفَ الـقدرُ

                    ويـا مـشْـرعـاً لـلـفلـسـفـاتِ  سـبـيـلـهــا

                    وقـد ْ هـد ّهــا من قـبلـكَ الـمـدّ والـجـزْرُ

                                                                                   (ستالين-ص3.)                                         

 

بينما تكون ذات الشاعر أقرب إلى مفهوم البطولة الجماعية، لآن الشاعر يعيش

في العـلن، ويتحـرك بين الجموع، التي هي مصدر إلـهامه، وينابيع أفكاره،

ومسـتقر صـرخـاته .

 

وبذلك فالبطل الجماعي لم تخـلقـه الأيديولوجيا، ولا اقـترحـته السـياسة، وإنما

هو مخلوق نسـقي من مخـلوقات المبـدعين (أدباء وفنانين)، قبل وبعد ما يسـمـّى

بالواقعية الاشتراكية، وقد قامت الأيديولوجيا بإشهاره وتشـييـده نظرياً، بـعــــد

تـبـنـّيه كحلقة من حلقات الصراع الفكري في الحرب الباردة .

 

ب – 5

لا شك ّ إنّ المـناضل يـنتج ُ تأريخاً، التأريخ الداخلي غير المدو ّن،إنـّه ذلك النفـَس

الطويل من العمل والصبر والمعاناة والشهادة، المـُمـْتدّ في مواقف الوقائع التاريخية

والشـخصـيّات الكاريزمية والـمخاطرات الأسطورية الـتي لـيس لـها قـرار.

فإن هؤلاء (الآخرين) المتساقطين في الطريق،هم الـخصم الـحقـيقي لـهـذا الـتأريخ الداخلي، لأنهم يقطعـون حلقـاتـه المتـنـاغـمة، يرقـّعونـه بالـفراغ والـبقع المـظلمة، يسمحون للأعداء بالتلصّص على ممرّاته السريـّة .

إنّ النضال أشبه بالسير على الصراط، فأضعف زلـّة (إنسانية)، وخطوة تراجع

(عاطفية) مبرّرة، كفيلة بالسقوط عنه إلى الأبد .

 

                             وإنـّك َ فـي حـِلـْمـــك َ الـمـُبـْتـلـى

                             بـمـَنْ يـحـْسـبُ الـمجـدَ في غـدرهِ

                            ولـو شـئـتَ قطـّعـْت هذا الـيــَراع

                            نـصـالا ً، تـكـسـّرُ في صـــــدره ِ

                            ولـكـنـّك الـراحـم ُ الـمـسـْتـبــــاحُ

                            بـمـَنْ حـط ّ في الـوحْـل من قـدْرهِ

                                                                                  (غدا – ص48 )

إنّ الإمـْعان في تحـقير وإذلال الأخ (الآخـر)، وإعـدامه أخـلاقياً، هو بمثابة تحصين

لـلمناضل نفسـه من أن يقع في نفس المصيدة، وهو أسلوب مازوخي لتعذيب وتأنيب

النفس،أكثر من تعذيب الأخ(الآخر) .

وإذ ْ تـُتـّخذ مثل هذه الشخصيات (المتساقطة)، كمَرْمى للـتعالي والـتـفاخر الشخصي

بـ (أنـّا) بطولية كاسحة . لهذا نـلمح إنـّه بعـد كل (تصعـيد) لـذات الـمناضل، يـقـابـله

(تسـْـفـيل) لـذات الآخر.

                           

                    

                          وتـعـبرُ سـيمـاءَ وجــه ٍ صـفيــق ْ

                          يـطـن ّ وراكَ طـنـيـن َ الـذبــــاب

                         وقـد كـانَ بالأمـس ِوجهَ الصديقْ

                         ذوى أمـســـــــــُه وانـدثـــــــــــرْ

                         وهـمـس ُ الـخـيانـة ِفي مـقـلـتيـه

                         تـوقـّد َ فـيـهـا الـشـــــــــــــــــررْ

                         ومـاج الـسّـبـابُ، وجـُن ّ الهـذر ْ

                         وأنـتَ حـديـــد ُ الـبـصــــــــــــــرْ

                         تـَجـِـد ّ ُرتـيــب َ الخـُـــــــــــــطى

                        وتـبـْسـم ُ لـلـسـخـريات ِالـصِـغـارْ                     

                                                                    ( الساري –ص14 )

إنّ ذات المناضل تتحرك بإيمانها المطلق بين حائطين : حائط الأب الأكبر، وحائط

الأخ الآخر، وبقدر ما تحمل من غلائل التقديس للأول،تحمل الازدراء للثاني، وهذه

المسيرة الخطرة بين الحائطين النقيضين سـبـّبت شروخا ً عـميقة في ذات المناضل الكهنوتية، تظهر هذه الشروخ أحيانا في ومضات نادرة، بسبب كبْحها وطمْرها في المقابر السريّة للوعي.

                            لا لا تـقــُلْ مـُل ّ الـمـَقـام ُ إذ الـتـــوى

                            نـفــَر ٌ وآل َ مـخـاضـهـم لـصـــــراح ِ

                            واعـْذرْهـم ُ حـسبـوا دروبَ نـضالهم

                            ما بين جـِـد ٍ تـجـْتـلـى ومــــــــــزاح ِ

                           حـتى إذا وجـسـوا بـأن ّ أمـامــهــــــم

                           يـمـْتـَـدّ لـيـــــلُ جـمـاجـم ٍ وأضـاحــي

                           عـكـفوا وجـوهـهـم ُ وفي سـيـمائهـم

                           جـزَع ٌ يـخــامــرُ نـشـوة َ الـمـرتــاح ِ

                          عادوا وفـي العـوْد السلامة ُ تصْطـبي 

                           لــيـل ُ المـجـون ِ وخـمـرة ُ الأقـــداح

                                                                           (وراء وأمام -45)

فالـنضال هنا ينعتق من ملابسات السياسة إلى ملابسات الحالة الاجتماعية، ولأنّ

النضال كان سرياً، بقادة مستورين، لكن وقائعه سرعان ما تـُعرف وتـُنشر من خلال آليـّة التواصل بين الشرائح الاجتماعية، بـدءاً بالشائعات وانتهاءً بالرسائل

والمنشورات السرية ؛ وهذه الآليات الشعــبية تشكل ضغوطاً عسيرة على السياسيين

الذين يخـْشـَوْن برعب تسلـّط هذه الشائعات، ممـّا يدفع بعضهم إلى تعريض أنفسهم للاعتقال والنفي، لضمان تزكيتهم حزبياَ، وقبولهم اجتماعياً .

وكردّة فعل لسقوط الآخر، يبالغ البعض من السياسيين في الاندفاع النزَقي، لإنتاج

بطولات عنترية ومواقف ارتجالية، لتسويقها إعلامياً عبر تلك الآليات الشعبية.

                       

                       ومـقـلـتـاكَ وراءَ ذيـّاك َ الـمـَـــــــــــدى

                      يـسـْتـَلــهـمان ِمـشارفَ الأفـق ِ الـبعــيـدْ

                      وخـفـْق ُنعـلك َ فـوق َأعـطاف ِالـطريـقْ                                           

                      وفـوق َ هـاتـيــْك َالـجـبـاه ِ الـعـانـِيـــات

                      جـبـاه ِ أشــبـاه ِ الـرجـال ِ، ولا رجــال ْ

                                                                        (الكلاب تعوي- 22)

 

 

ج -1

تتحرك ذات السياسي في ظل الذوات الأخرى، فأمامها ذات المناضل الصُلـْبة

التي لا تـُدرك، وخلفها ذات الشاعر المـوّزعة على منافـذ الـحَيـَوات ومسارب الأشياء ؛ وهي بين صـلابة تلك ومـيوعـة هـذه، تتـبـنّى سـكـّة لـعرباتها،يدفعها

 التحريض والتحميس وتـثبيت سلطتها الأبويـّة، التي تتحكـّم بإنتاج الشعارات

وإشاعة المقولات،لإدارة الصـراع اليومي .

وهي ذات متـفـائلة أبداً بحتميـّة نصـر قريب وفجر أخضر، لا تـَني عن التبشير به حتى في أحلك أيام النضال مرارة وظلمة . وفي حين تفرض ابـوّتـها على ذات الشاعر، غير أنها تفسح مساحة الحركة والتعبير في حدود الموضوعة الاجتماعية والإنسانية، وعندما تشتط ّ ذات الشاعر في الخروج لميدان الذات تنغلق المسموحات

وتعود الصرامة كرقابة داخلية، لتكبح من إنسرابها  لموضوعات (لم تعد ذات أولوية).

وهي أيضا ذات منفعلة، نجدها في مداخل هذه الذات ومخارج تلك، مـحرّضة،

ومـعـزّزة، ومستـهـدفة . لكن إليها تعود تلك الصرامة في الخطاب،والانغلاق على الموضوع، والدعوة إلى العنف، والإيمان الاعمى بالغد . وهي محـدّدات راسخة في الوعي السياسي، والخطاب الشعري في العراق .

 

ج-2

في ثلاثة نصوص كاملة (وراء وأمام- المعول- دماء الشرق) تـتدفـق ذات السياسي

عن نار حماسية لاهبة، ولغة حاسمة لا مهادنة في نبرتها، لغة كالصخر تـتدحرج

من عقل خبر فقه الواقع، ورفض فتاوى مـدّعيه، لكنها أيضا لغة تـتوسل بمعطيات

فن الهجاء : في التلاعب بالمشاعر، وكشف ثنائيات الأضداد، وترتيب المقارنات،

لإعلاء خطاب تربوي قادر على الإقناع في سبيـل الانخراط في الكفاح السياسي اليومي .

وهذه العودة لقيم الهجاء القديمة، تستدعيها ذات السياسي كوسيلة للنقد والتهكم بعد أن تنزع منها تمثـّلاتها الشخصية، ولغتها الساخرة، وصورها الماجنة، مبقية على تلك

العناصر المهـيـّجة للصراع الاجتماعي والقهر السياسي، وتسفيل الآخر (السلطة) :

 

 

                     شُــقّ الـغـمـارَ، وثـِبْ، فـكـلّ سـحـابـة ٍ

                     ســتـُداح ُ عـن وجـه ِ الصباح الضاحي

                     أمـِن َ الـكرامة ِأنْ تـظـل ّ مـحــــــايـــداً

                     تـُضـْفـي على الأهـــــواء ِألف وشـــاح ِ

                     والـمـدّعـون، وكـلّ أ ُفـْق ٍ كـــــــالــــح ٍ

                     فـهـمو عليه عـواتـبٌ ولــــــــــواحـــي

                     ومـثـرثرون يـغالبون طـباعـــــــــــهـمْ

                     ويـفـلسـفون طـرائق الإصـــــــــــــلاح ِ

                    عـُكـُـف ٌ بأحجــــار البـيوت ِ، كـأنـّهـــم ْ

                    جـُـرذ ٌ تـهـابُ سـنـا الـضحـى الـوضّاح

                    حـتـى إذا نـاش َ الـغـبارُ ظــلالــَـــــــهمْ

                    جـزعـوا من الأكـْـــدار والأتـْـــــــــراح

                    هـم ْ هـؤلاء وقــــد أ ُمــيـط َ لـثــامــهـم ْ

                   عـن مـكْـر ِمـنـتـَهــز ٍ، وكـذب"سـجاح"                                      

                                                                    (وراء وأمام-ص43)

 

غير أن هذا الخطاب يتجنـّب التوسـّل بمكوّنات (الماضي الذهبي) المنتهية الصلاحية

كنسق في خطابه التربوي، هذا النسـق الذي استهلـكه شعر النـهضة العربية الأولى، حتى أصبح حنينا مرضياً، ونكوصا لمجد لن يتكرر أبداً .

يفتـتح هذا الخطاب المسيـّس  تـربـيـتـَه بترصين فعل الأمر ومقارباته في النهي والجزم، مفتاح الابويـّة الطاغية، التي تسعى لتثبيت شروط أبوّتها على المواطن، وتسييره عن بـُعـد بحكم الخضوع لهذه الابويـّة واحترامها أو الـرضـوخ  لها :

 

                 شـق ّ الـغـمـارَ، وثـِب ْ، فكـل ّ سحابـة ٍ

                سـتـداح عـن وجـه الصـبـاح الضـاحي                    ( ص -43)

                         __________

                لا لا تـقـلْ مــاتَ الـسـنـا، وعـلى الـدجى

               لـلـمـدْلجـين الـصـّيد ِ خـفـْق ُ جـنــــــاح                   ( ص -45 )

                         ___________

              إضـْرب ْ بـمعـولك الـصخورَ، إضرب ْ غداً تتفـجّرُ

              إضربْ فساعــدكَ الأطـنّ ُ، مـتى يـهـمّ ويـثـــــــأرُ       (ص -51 )

                         ____________-

              سـَل ِ الـوغـدَ فـيـمَ اسـتـباحَ الـحـمـى

             وفـيـمَ يـُراق ُ دمُ الـمـعـْــــــــــــدم ِ ؟                       ( ص -66 )        

 

 

 

ج -3

والـدعوة لـلعنف السياسي من جوانب هذا الخطاب الأكثر إشكالية في الأدب

العـراقـي، الذي تـربـّتْ عليه أجيال عديدة من السياسيين، كانوا هم أنـفسهم

أدوات وضحايا لهذا العنف، الذي لـوّث َ مفهوم الـنضال ومبادئ السياسة

والقـضية الوطنية، بوحول من الوحشية والـثأر والانتقام والتصفية المتبادلة.

 

وانتقلت هذه التربية من الشارع إلى أجهزة السلطة وقواعد الأحزاب وجماهير

العامة، ومازال العراق حتى هذه اللحظة يـدفـع ثـمناً باهـظـا مـن جــرّاء هـذه

التربية السياسية الضاربة جذورها في التأريخ والعرف والثأر العشائري المنفلت.

هذه الدعوة إلى العنف نرصدها في شعر الجواهري الكبير، وفي قصائد  شاعرنا

كاظم السماوي، كما في الشعر السياسي العراقي قبل الخمسينات من القرن الماضي وبعدها...

                       أنـيـري د ُجـى لـيـلـك ِ الـمـظـلــم ِ

                       بـنـار ِ الـلـّهـيـب ِونــور ِ الـــــدم

                      بـحـِقـْدٍ يــفـل ّ حـديــــدَ الصـراعِ

                      ويـلـْــوي بـعـاصــــفـه ِ الـمــرْزم

                     ومـد ّي الـى كـلّ أفـــْق ٍصـَـــــدى

                     يـرَدّدُ حــشـْـرجــة َ الــمـجـْــــــرم

                     وخــلـّي عـلـى عَـطـَـفات الـدروب ِ

                     نــُثــارَ جـمــاجـــمـهـِم تـرتـَـــمــي

                     أوَهـْج ُ الـدمــاء، وإنّ الـشــــــرار

                     رمـــــــــاد ٌ إذا هـو لـمْ يـُـضـْـــرَم

                                                               (دماء الشرق – 65 )

هذا الخطاب الذي يطرب له العراقيون بتبجيل غريب، لأنه الخطاب الذي يـجـْلي

رمـزاً وينـصب أباً، تدور حوله الولاءات والعواطف والحناجر .

فإذا لم يكن هناك أب حقيقي للمجتمع، قام الشعر بتكريس البديل الرمزي، وهو

إما شخصية تاريخية أو دينية أو حزبا أو حتى قصيدة شعرية...

وهكذا كـرسـَت بعض قصائد الجواهري الكبير وبحر العلوم، كـآباء يقودون مشاعر

الملايين من العراقيين اللذين عاشوا بلا آباء قروناً عسيرة من الزمن .

فقصائد من مثل (أخي جعفر ونامي جياع الشعب) للجواهري، و( أين حقـي) لبحر

 العلوم، أيقونات تحريضية منصوبة في الوعي الجمعي، والوعي السياسي كما في

الأدب، وقد  أسهمت – كما يُسهم ايّ أب عظيم – في تسييس الإرادة،وتـثـويـر التطلعات، وتقديس المواطنة، أفضل  مما اجترحته وزارات للثقافة والإعلام مدجّـجة بالخـبراء .

 

 

د - 1      

تبدو ذات الشاعر صنيعة مر ْميـّة بين ذاتين، ذات مهيمنة وذات قائدة، وبحكم ولائها للاثنتين، تجـنـّد هذه الذات كل مخزونـهـا اللغوي، وثرائها القيمي، وبعدها الفني  .

لكنها تطفر فوق مسنـّاة هذه الذات أو تلك، وتتمرّد على محدودية الفضاء الميداني الذي تمتلكه، وهامش الحرية المقيدة التي تضيق كلما اشتدّ  أوار الصراع، والمحظورات المسنودة بتأريخ ضاج من الأبوية المستحكمة،وتراث غني بالسير

العصامية والبطولات الأثيرية . يلاحقها الواجب التاريخي المقدس، وتطاردها الشعارات المرحلية المهذارة، بينما يطالبها الشارع بحقوق أزلية، وتغمزها الـ (أنا)

بمهمازها العاطفي والحسّي .

وهي – لتشعـّب مرجعياتها وواجباتها – تتعلـّم اختزال هذه القـيـْمومات الراصدة، والحقوق التي ينبغي الا ّ تؤجل، بالرموز والكنايات أحيانا، وبالإسقاط على ظرف وزمن مماثل، واستنطاق سير الشخصيات والمناسبات في موضوعات وأغراض الشعر التقليدي، وبترصين دراما الأحداث –وما أكثرها – أحيانا أخرى .

 

إن الموضوعات السياسية وإن كانت من محرّكات الشاعر، لكنها حينما تكون موضوعات مستهـدفة لغايات سياسية، تـنزل بالشعر والشاعر إلى مقام الداعية، وهذا المقام غريب على كينونة الشاعر .

لأن الداعية يمتلك فقط  مايدعو إليه،مشروطا بظرف الدعوة، والشاعر يسبح في الزمان الكلي، ويمتلك أنساقه من دون شروط.

فالسياسة تسحب الشعر للواقع، ليعكس  جـدلـيـّة أحداثه، والشاعر يسحب الشعر إلى

فضاء الحياة المعاشة ويعصر مخاضها في ترانيم .

وهذا الشـدّ والـجـذب بين الواقع والشعر، بين السياسة والـشاعر، هـو الـذي يـولـّد جماليات الشعر السياسي .

 

د – 2

في (الموت والخبز/17) تعود ذات الشاعر لتتسيـّد المشهد الشعري، فالشاعر نزل لأرض الصراع المفترضة بكل أسلحته الأدبية، وعتاده الفكري، ومخياله الشعري.

ولآن الموت والخبز قـيمتان  متعارضتان، أحداهما تـنفي الأخرى، وتستظـل ّ بـهـا، فالموت هنا من أجل الخبز، والخبز يحتاج  للعمل حتى الموت، أمثولة الصراع الطبقي التقليدية التي  تـدور مـنذ ظهرت المجمّعات المديـنـية في ارض الرافدين،

وما تزال ماثلة لـلعـيان حـتى الآن في مساطـر الـعمال الـيومـيين، وعمّال الـشحن والـتفريغ وعمال العمل بالقطعة، الذين يفترشون الشوارع والساحات والعرصات العامة، منذ أربعة آلاف عام .

 

لهذه الأرض نزل، لكنه لم ينزل كشاعر بعد، فما زالت ذات المناضل تسيطر على مسارب السلـّم ؛ إن هيمنتها الطاغية، ومجسّاتها المتعالية، ومبضعها التطهري، لا

تكف عن العمل في تقييد ذات الشاعر وتحصينه بحكمة المصير وحتميـّة الأمل .

لكن الشاعر بينما هو ينزل يخلع عن  روحه أوسمة المناضل ودروعه ويقينه، إلى أن يعود شاعرا متجردا من الوصايا والرقابات، وهذه العملية ( التحرر من ذات المناضل)، تظهر في المقطعين الأول والثاني من النص الذي يقدمه الشاعر إهداء ً

(إلى عمالنا المشردين في صحارى الكويت) :

 

                            الــرمـْل ُ تـسـْفـيـه ِ الـريـاح

                     ولـلـجمـــــوع  الـزاحـفـات  عـلى  الـدروب

                     ظـلالـــــهـن   ّ تـمـــورُ كالـشـبـح ِ الـرهـيب

                     لـِترتبي لمـم الثرى، وتدوف من قلب التراب

                    مـعـاقـــلا ً لـلـمـوت في الأرض الـخـــــراب

                    وقد عفت عرصاتهن من الوحوش الكاسرات

                    وروعت بمخالب ( الوحش الجديد ).....

                                        وفــي أزيــز الــمـاطـــرات

                                        قـنـابـل الـهـول الــمـبـيـــــد

                                                                                    ( الموت والخبز/17)

 

في هذا المفتتح يبني الشاعر واجهة سوداء للرأسمالية، وهي تنصب هياكل اقتصادها

(معاقلاً للموت)، وتجـْني ريْعـَها لغد ٍ (سيشرق بالدماء وبالصديد وبالدموع..)،

مفتتح تعليمي مصنوع للتوظيف الإيديولوجي، وهو تدخـّل يشـْرخ هيكل القصيدة، ويستغفل وعـْي القارئ .

لكن النص الفعلي يبدأ بعيدا عن هذا المفتتح .

 

                           الـشمــسُ تـجـْنـح ُ لـلأصـيــلْ

                           ومـوكــب ُ الـزحـف الـطـويلْ

                           يـجـد ّ ُفـي الـركـْـب ِ الـشـريدْ

                           وكـلــّهـم  ذاك َ الــشـريـــــــدْ

صورة واقعية تنهض الحرفة الشعرية بترتيب أساسياتها التعبيرية، وتقنياتها الشكلية

تطغي على النص روح السيناريو الذي تتقاسمه حركة الشواخص، ومداخل الزمن،

ومرأى البيئة الشعبية (ضرورات الكادر الصوري) . ثم لقطة (فلاش باك) لماضي العراق حيث يتربع تمثال مود(رمز الاستعمار) في الكرخ العتيق، وجولة السياح في السوق الغريب، ثم مشهد تذكاري لصديق الطفولة دحام :

 

                       " دحام" يا همس الطفولة، والصدى الحلو البعيد

                       ألست تذكرني، وقد شأت السنون ؟

                       عشرون عاما، يوم كنا كالصغــــار

                       نخوض في الغدران، أو نقضي النهار

                       نـشـقّ  هـاتـيـك الـسواقـي كـالـكبـــــار

                       وكالكبار نشق في "عاشور" بالأيدي الصدور

                       ونلطمنّ على الوجوه، وبالسلاسل في الظهور

                       وقد ذوى حمَدٌ ومات بضربة السيف الخضـيب

                       لـكي يـفـي نـذرَ الـحسين أبـوه، بالـولد الحبيب

                       أتـذكـرنّ وقـد غـزتـك الـيوم أعـراض الـمشيب

                       وقد شأت تلك الظلال.. وأثقلت كتفيك أحداث السنين

لقد انسحبت ذات المناضل كليا من المشهد، وهيمنت ذات الشاعر،التي تتعامل مع الواقع من دون رمزيات وحتميات، الشاعر هنا يرصد ويصف ويشارك بذاته المفردة، وعاطفته الإنسانية، وموقفه الأخلاقي، لم يعد محاربا متطهراً، ولا انسانا متعاليا على مسوخ الواقع الذي ينتمي اليه.. انه يتحدث عن أ ناس مشردين مثله :

      

                         من الفرات، من الجنوب، من المدائـنِ والـقرى

                         تسـعـون َ ألـفـاً  أو يـزيـــــــــــــد

                         وللرغيف رؤىً تهـوّم ُكالــسراب

                         وســادهــم كـثـُبُ الــرمــــــــــال

                         وشمعة ٌصفراء تعبث ُفي الظلام

 

لقد تطابق الشاعر مع لغته، وصوته مع مشاعره، والمشهد الطبيعي مع بصره ؛ عاد الشاعر بحرفة المصور الفوتغرافي، ليصور بالكلمات نـصـّه الواقعي....

 

                         الـدرْب ُ والـعـرَبـات ُ، والـزفـْت ُ الـمـُذاب ْ

                         تـدبّ ُ فـي الأ ُفـق ِ الـمـُجـَهـَّـم ِ بـالـتـــرابْ

                         وبـاعـة ُ الـحـلـْوى، وأفــواج ُ الـذبـــــابْ

                         وخــفـْقُ ذرّات الغـبـار، تــذرَ أجـفـانَ الـحُــفــــــاة ْ

                         وهـمْسُ أسراب ِ الـبغايا الهـائـمات ِ عـلى الـدروب

                                                                            (الموت والخبز-19)

صورة طبيعية لحي عمالي فقير، ليس من رتوش بلاغية أو تلميحات رمزية أو مبالغات صورية . لقد توقفت البلاغة عن مهمتها لتترك لعين الشاعر حرية نقل

الحقائق الواقعية التي لا يمكن دحضها أو تجميلها، حقائق الحياة نفسها التي تمضي

لمصيرها والتي لا تستطيع كلمات الشاعر تغيير هذا المصير، سوى تقديم تعزيات جميلة تجعل النفس ساكتة عنه  في الأقل، وهي تعزيات يقوم القدر بالمفهوم الديني والشعبي بتبسيطها كحقائق إيمانية .

وينتهي المشهد – كما في السينما- بلقطة (زوم تراجعية) لظل دحـّام وهو يختفي خلف القلاع .

                        الـدربُ  والـعـربـاتُ والـركـبُ الـشريـد ْ

                        وظـلّ ُ(  دحـّام ) يـهـوّمُ مـن بـعـيــــــــد

                     ويختفي خلف القلاع ِ... ويختفي خلف القلاع

 

د – 3

ربما ما يدفع الشاعر للـخوض في الشعر هو الألـم، والألـم يـتمـرأى في الحدث، والحدث دراما ؛ الحدث لسان الواقع المفروض على التأريخ .

وبما أن الحدث يمتلك ألسنة عديدة،وعشرات الآليات المنطقية،  وأقنعة مموهة،

ومرايا رؤية من غير حساب . لكنه عند الشاعر هيكل واحد : هو الإنسان، ومنطق واحد : هو الألم .

صحيح إن الحدث لم يكن  المدخل الوحيد عند شاعرنا المناضل كاظم السماوي،

لاستنطاق المسألة الإنسانية، لكنه الأقرب لذات الشاعر، لأن الحدث جرح مفتوح حتى بعد أجيال من حدوثه،ولأن الشاعر أحد شواخصه والشاهدين عليه بالمشاركة

والمعاناة والتمثـّل،فكل حدث تجربة شخصية، والتجربة الشخصية بقدر ما تلتصق

بالشاعر كقدر غير مردود، تخرج منه كتجربة عامة، تاريخية، مطروحة ليس من أجل وقائعها أو تأويلها المختلف عليه، وإنما من أجل حضورها الصادم، وفعلها المغيـّر .

فحدث الهجرة في (الموت والخبز-ص17)، وإضراب السجناء في (المسلول المضرب-ص23 )، وإضراب العمال في (دم الحبـّانية-ص61 )، وغيرها من الأحداث التي فجـّرت ولادة القصائد، لم يـتناولها الشاعر كوقائع أو جدالات اجتماعية، أو مطالب حقوقية، وإنما كانفعالات لكشف فضائح قمع الإنسان :

 

                     وانـداح َ هـمس ٌ في الـمـديـنــــــــــة ْ

                     يـطـْـوي شـوارعـَهـا الـحـزيــنـــــــة ْ

                     أوَ لـمْ تـسـل ْتلـك الـدماءُ على الثرى

                     وكأنّ أمـواجـاً تـلاطـمُ بـالـهـديــــــر

                    "لـمَ تـهدرون دمـاءنـا إنـّا جـياع .. " 

                     ورشـاشُ نـيـران ِ الـبـرابرةِ الـغزاة ْ،

                     يطوي ويغرقُ بـالـدم الـقاني هـديرَ الجائعين

                      ويـغـور في لجـج الـدمـاء..صـدى الـنــــــداء :

                     لـِمَ تهدرون دماءنا... إنـّا جياع ْ؟

                                                                                ( دم الحبانية-ص63)                            

 وبما أن ّالحدث يجب تبريره، لكي نكشف جدليته في الواقع، يعود بنا الشاعر إلى جذره العقائدي، ذلك البارومتر الفلسفي التي تقاس به الأحداث والفعاليات والقيم والظواهر. فيشير لنا هذا المقياس : بأن الصراع مع (الاستعمار،الوحش الجديد،القراصنة الغزاة، البرابرة، السافكين دم الجياع... ) هو سبب هذا الخراب والجوع والموت .

وهي نغمة مكررة في الشعر السياسي منذ طلائع النهضة الشعرية، ولكنها جاءت بكيفيات مختلفة اختلاف قدرة الشاعر وأفقه النهضوي .

وكأن ّهذا التبرير (الإيديولوجي وليس الشعري) يضغط على الشاعر بسبب التربية

السياسية، أو الانحياز الفكري، أو مايسمـّى بـ (الالتزام)، فيتكرر في تضاعيف وأضلاع قصائد الديوان، وكأنه لازمة لا بدّ منها لكي يكون (مضمون) الشعر ثورياً

أو سياسياً في أقل الأحوال. لكنه من حيث يدري الشاعر او لا يدري، يضعضع بناء

القصيدة بشطرها إلى محتوى فكري وآخر شعري .

وكما ذكرنا سابقا، فإن هذه المبررات المطروحة في جسد  القصيدة هي من آثار ذات المناضل المهيمنة على ذات الـشـاعـر، والتي يصعب التحرر منها تماماً، بسبب كمونها الداخلي وسوطها المراقب .

 

                           مـن ألـفِ عـامٍ والـقراصـنة ُالـغـزاةْ

                           عـَلـَقٌ يـمـصّ دمَ الـجـياعِ دمَ العُراةْ

                           مـجذافـُهم عـبـْرَ الـبحـار ِ أو الـقـفـارْ

                          يـشقّ أمـواجَ الـدمـاءِ أو الـدمـوع ِأو الـصديـدْ

                          لـِتـظلّ تـلـمـَعُ مـاســــــّة ( الـتـاجِ الـعـتـيـدْ)

                          مـن الـعـيـونِ الـمـسْـمـِلات

                          مـن الـعـظـام ِالـخـاويــــات

                                                                        (دم الحبانية-ص62)

 

 

د – 5

ذوات الـشاعـر هذه – كما تبـيـّن -   ليسـت صدوعـاً متـنافرة، ولا صراعات في وجـهات الـنظر، ولا تحتـمل إستقلاليـّة عن بعضها البـعض، تلك الإستقلالية

التي تنـفرد بها الذات لتحصين كينونتها، وإثراء خصوصيتها .

إنها سيرة الذات حين تـتزحزح أجزاؤها في الصراع، وتعود لتكتمل في الحياة .

فنحن نستدل ّ على مركزية هذه الذات من آثارها التعبيرية والفنيـّة التي أنـتجتها

فـلـْذاتها المتفـرّعة عنها.

وما الشعر الا ّ لسان حال، وبوق يقظة  . وفي زمن شبه نائم يكون ثمن الدعوة

لليقظة غالياّ، ولعل ّهذا هو سبب تعـالي الشعر وبساطته معـاّ .

 

إن ّ الشاعر المناضل كاظم السماوي وقد دفع راضياً ثمن دعوته لـيقـظة الإنسانية

كاملاً غير منقوص، عبر سنوات طويلة من الكفاح والنضال الوطني والتشرد في المنافي البعيدة منذ مطلع أربعينات القرن الماضي، من جيل عصامي في سبيله إلى الإنقراض، وبعد أن تعـوْ لمـت الأوطان، وانـْبـعـج التأريخ،وتأكسدت نوابضه الحيـّة . وتـصدّعت الدعامات المشتركة بين الشعوب، وانقلبت السياسة إلى

                                                    

أوكار مؤامرات، ودكاكين استثمار،  بعـد هذا، يبدو الخلود شبحاً فولكلورياً لا يـُذكرالا ّ في المدوّنات الشعبيـّة.

 

لكن – وكما يبدو للبصيرة – فـإن ّ  رحيل الشاعر،حاملا لقبه الشرفي، الذي أضفاه

عليه عراقيو المنفى " شيخ المنفيين"، معانداً كلّ هذا الذي حدث ويـحدث عبر خسارات أسطورية، فقد فيها جلّ عائلته، هو الخلود بعينه .

 

                                   **********

                 

                                          عباس حويـجـي / السماوة –تشرين الثاني 2..9

                                                                               

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2061 الجمعة 16 / 03 / 2012)

                                              

                              

في المثقف اليوم