قضايا وآراء

قراءة وتأويل لقصيدة (ليلة حرة) للشاعر سامي جبر السعد .. شاعرية الايحاء والتصوير / رياض عبد الواحد

كونها مفتاحاً تأويلياً لسبر أغوار النص،  وقد يكون العنوان خارج هذا السياق عندما يكون متناً لوحده . في ضوء ماسبق، فأن المتفحص في / ثريا / القصيدة آنفاً (ليلة حرة) يرى إنها متكونة من نحوية مألوفة /جملة اسمية/ هي خبر لمبتدأ محذوف + صفة للخبر . ورد الفونيم / ليلة / مفرداً نكرة والتنكير – هنا – يوحي بالشمول والاتساع لاقترانه بالتوصيف اللاحق / حرة / التي تحمل دلالات التحرك على مستوى زمني ممتد خارج لحظوية محددة، وبهذا تحقق العنونة حركة بندولية باتجاهات متعددة .

يمثل الفونيم / ليلة / بؤرة العنونة Topic بينما يمثل الفونيم / حرة / فعل التعليق Comment . /الثريا/ عبارة عن بنية عميقة مكتملة الأركان ويمكن أن تقودنا لاستكشاف باطنية النص، فاستدعاء الشاعر للتوصيف /حرة/ يوحي بالبحث عن متنفسات روحية للخروج من ظلمة الليالي وما تكتزنه من منغصات وهموم .

شعرية السرد :-

ما أن ننقل خطوتنا في رواق النص، حتى يتبدى لنا التشاكل الصوتي المتمثل بالسطور الآتية :-

1- سترتي ليس فيها بطانة .

2- غير إني .

3- حين البس سترة .

4- دون أي بطانة .

5- يلوي بي البرد .

6- حتى ألوذ بحانه .

يلعب حرف السين المهموس دوراً مهماً، فهو حرف صفيري يساعد في عملية التنغيم، كما ونلاحظ إن ضمير المتكلم يعضد الدلالة الحرة للنصيص كونه أداة لمجاوزة الزمن وتكثيف الصورة والتعريف المخصص للسارد، إضافة إلى ماسبق تصطف الثنائيات الضدية لتحقق البنية الصورية في السطور آنفاً في ضوء :-

أ- التفاعل

ب- الانبثاق

ج- الاختراق

يتحقق / أ / في هذا الهوس بالسترة كونها الأداة الخارجية أو المصد الخارجي للوقاية مما يعتري السارد من تأثيرات المحيط الخارجي، أما التوكيد على البطانة فأنه ملمح ديكوراتي يعزز من القيمة الجمالية / للسترة / ويضفي دفئاً متحصلاً كونها جزءً من السترة . وتتحقق / ب / في المتحصلات اللاحقة في لاوجود / البطانة / بواسطة عملية اللوذ، مما يقي السارد من المؤثرات الخارجية أما /ج/ فحاصل في الطبيعة التي

-1-

تحملها / الحانة / كونها ملاذاً للخلاص مما تعاني النفس، إضافة إلى إنها من الأمكنة التي يلوذ بها الإنسان للخلاص من واقع مامسلط عليه من الخارج . لقد استطاع الشاعر بمهارة أن يسقط حالته النفسية على المكان وبهذا حقق النص هدف الوظيفية البرهانية التي ترمي إلى تحقيق صواب الرسالة المرسلة من السارد إلى المتلقي . إذن هذه الصياغة جسدت المغزى الكامن وراء الضغط النفسي الذي ولدته الحالة / السترة \ من دون بطانة . يحمل السارد – هنا –غربته الروحية بواسطة افتقاده إلى من يديم ستره حيال المؤثر الخارجي، لذلك نرى إن العبارات آنفاً كانت ذات لغة انفعالية تعكس إحساس السارد بالفقدان وأعباء الحياة عليه من اقرب الناس اليه ( البطانة ) .

 

تشكلات البنية الصورية

تعد الصورة الشعرية بنية ارتكازية من بنى اللغة الشعرية، إذ إنها ( تقدم تركيبة عقلية وعاطفية في لحظة من الزمن ) بحسب \عزرا باوند \ والصورة الشعرية في هذه القصيدة ذات طبيعة إيحائية محملة بالدلالات والمشاعر والمرمزات  . اعتمد الشاعر في صوره على تحريك مجموعة من البنى النحوية الفعلية وبعض الأسماء في تواشج يؤطر موقفه الانفعالي :-

يلوي بي البرد

حتى الوذ بحافة

ترمي بي نهلة

الى غصن ورد

فأرى عالقاً

مثل يعسوب نحل

من جناحي

لو أعدنا النظر في المقطع آنفاً، لوجدنا إن الشاعر قد اعتمد في صوره على مجموعة من الأفعال المضارعة وهي المهيمنة على جسد القصيدة وهذا مايوحي إلى ارتهان الحدث بمحيطه الخارجي، وإعطاء الملمح الزمني بعده الذي يستحق، بيد إن هذا الزمن لم يتأطر، وبهذا جاء النص متحرراً من آسار التحديد التاريخي الصارم لان الشاعر استعان بالأحداث لتحل محل الزمن المنتج لها .

إن اضفاء صورة / اليعسوب / على السارد  تشي وكأن \ اليعسوب \ شيء حي يعي مايدور حوله. هذا الاجراء عزز من البنية الاستبدالية التي كشفت عن بنية استعارية شقيفة ذات إيحاء ودلالة جميلة . فـ / جناح / اليعسوب / هو الذي يقوم بنقله وإرسال الشفرات بواسطة حركته المتتابعة، وبهذا فأن تعليقه من جنحه يعني تعليق فعالياته الحياتية كاملة . فأنسنة الأشياء يوسع من دائرة التوظيف الصوري ويضفي قيمة شعورية بواسطة التغاير الخلقي ( من الخلقة )

إن التفات الشاعر إلى داخله، معاناته بواسطة كل الصور المتواشجة ثم طرح ماحوله من مؤثرات خارجية ماهو إلا عملية نقل زاوية النظر بحركة غير  نسقية، حركة صاعدة ونازلة تحاول هززة التوازن النفسي ومنح الأشياء حركة وقتامة وحرية في الوقت نفسه، ولهذا جاءت الصورة الشعرية مجسدة لحركة طائر، أو اكتظاظ مكان، فهي تمنح المعنويات صفة مادية وتعطي للماديات صفة المعنويات ثم خلع الصفات الإنسانية عليها وهذا مايجعل القيمة الانفعالية قيمة مشاركة في العمل الشعري .

وإذا ماهويت

للأرض آوي مستغيثاً

ببيت جدي القديم

فأقضي ليلة حرة

ليس فيها

ناقد فاقد للياقه

أو سياسي فارقته الرشاقه

 

إن الصورة – هنا – ذات إيقاع متلاحق ( للأرض آوي مستغيثاً ) ولو جاءت على غير هذه التسلسلية لفقدت قيمتها التعبيرية بمعنى لوجاءت (آوي للأرض مستغيثاً ) لفقدت العبارة ديناميكيتها التعبيرية وبنيتها الحركية.

البنية الإيقاعية

لايقل اثر البنية الإيقاعية في القصيدة مما للصورة من اثر فاعل . فالتلاحم بين البنيتين يعطي للقصيدة رصانة اكبر، فالشعر من دون موسيقى يبقى كلاماً باهتاً لاطلاوة فيه .

تعد البنية الإيقاعية ( مدرك صوتي ) فائض عن شعور نفسي يكسب الكلمة بعداً تنغيمياً مهماً بواسطة مجموعة من الشحنات الانفعالية، فتكرير حرف السين وحرف الياء يزيد من عملية التنغيم الموسيقي .

 

سترتي ليس فيها بطانة

غير إني

حيث البس السترة

دون أي بطانة

يلوي بي البرد

حتى ألوذ بحافة

 

إن حرف السين هو المسؤول عما يعتري ذات الشاعر من تأثيرات عاطفية ثم يغيب حرف السين ليظهر الياء. هذا التناغم يضاعف من تحجيم الأثر الواقع على السارد بواسطة فقدانه مايديم عملية الدفء ليشير إلى ما ألم به من جراء ما يلحق ذاته محولاً ذلك بواسطة / بطانة السترة / . فالسترة والبطانة هيما كنايتان عن الآخر الذي يشكل واقية لكل تأثير خارجي يعترض أو اعترض السارد في حياته كما واضفى استعمال  الروي المقيد والوصل حزناً وانكساراً على ذات السارد مما يختلج في صدره من اسى بسبب ابتعاد الأخر عنه والذي يعد  لصيقاً روحياً له .

  

بنية القصيدة :

إن البنية المعتمدة في القصيدة آنفاً تعتمد على حركة الزمن الداخلي بعيدا عن التشكل الذهني , إذ إن النص يحاول تصوير حالة الانكسار، لكن هذا الانكسار لم يوقف تدفق القصيدة ونموها , كما انه لم يؤثر على ترتيب الصور , إذ بدت هذه  الصور منتجة ومترابطة بسبب وجود شعور نفسي واحد يقف وراء الحدث وتداعياته . إن التماسك الحاصل في النص بواسطة حركته الداخلية المنغلقة من عقال المؤثر الذهني الخارجي قد ساعد على ان يكون الزمن مسخراً  من اجل انسياب المد الصاعد للنص بواسطة كلية الصور ذات الدلالات العميقة التي تشير إلى خيبة أمل الشاعر بما بين يديه ومن حوله .

 

لم أجد مصعداً

للصروح الرفيعة

من هناتي الشنيعة

سترتي ليس فيها

بطانة

والجيوب خليعة

 

هذا التشخيص الدقيق لما حل بالسارد نتيجة مجموعة من التراكمات قد افضى إلى ما أفضى إليه، بيد ان الشاعر بضربته الأخيرة الجميلة قد تمكن من أن يلم القصيدة ويكورها في هذه النهاية الاستخلاصية التي يتجسد فيها الزمن ليصبح عارياً من كل شيء  . بهذه الطريقة  بقيت \ السترة  قواما من دون مكونات لأنها فقدت الاجزاء المهمة المكونة لها \ البطانة +الجيوب \ .ان هذا التناقض قد اضاف متانة الى نسيج القصيدة واعطاها شحنة توليدية وايحائية تتمثل في الخيبة الحاصلة في مفردات الوقاية من المؤثر الخاجي انى كانت خانته وتوصيفه .

 لقد حققت القصيدة وحدتها العضوية على الرغم من البناء الحر لهيكلها العام وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على موهبة الشاعر وتمكنه من أدواته الشعرية .


 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2063 الأحد 18 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم