قضايا وآراء

الدعوة للخلق الحسن !! / حميد طولست

وصحيح كذلك أن الدعوة للخلق الحسن، مهمة عظيمة -بل إنها "أثقل ما يوضع في الميزان"- لتحقيق التنوير والتعليم بالوعظ والإرشاد والانفتاح والاعتدال والتسامح، وصحيح أيضا أن الداعية هو المضطلع بهذه الرسالة المهمة الخطيرة والعسيرة، لأنه هو الذي يمثل ضمير الأمة وصوتها المعبر عن قضاياها والمتابع لمشاكلها من منطلق عقائدي الزمه الله به بقوله تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" سورة النحل (125). وجعل الدعوة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة والتمسك بالخصال الحميدة مبدأ جوهرياً من المبادئ التي أقرها الدين الإسلامي وجعلها أساس تعاليمه وقيمه الحقيقية التي تدعو لإصلاح النفس وتحليها بالقيم والمبادئ الحسنة والصفات الحميدة التي بعث سبحانه وتعالى برسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لاستكمال منظومتها التي جاءت بها الشرائع السماوية التي سبقته، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ولتصحيح مساراتها تحصينا للإنسانية من سوء الخلق، إبعاده عن سيئ العادات، وتعويدها على الصدق والأمانة والتعاون وباقي السلوكيات الحميدة التي تدخل ضمن  خانة المعاملات الطيبة الحسنة بين الناس -التي هي كالشجرة الطيبة التي توتي أكلها كل حين بإذن ربها - والتي هي أصل الدين الذي يدفع بالمتمسك بها للعفة عن الحرام في المأكل والملبس والقول والفعل، وتترتب عليها نتائج إيجابية يثاب عليها وتكون طريقه وذريعته إلى الفوز بمحبة الله والقرب من رسوله يوم القيامة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، الموطأون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون". وكفى بهذا ترغيباً للمؤمنين بالأخلاق الحسنة والدعوة إليها بكل هذا اليسر وهته السهولة، دون تهويل أو بث للرعب في نفوس الناس، وتصوير مجتمعاتهم على أنها مجتمعات مدنسة كلها بالفواحش والشهوات المحرمة ما ظهر منها وبطن. 

وهذه هي خصال الدعوة وآدابها التي جاء الإسلام بها وهذّبها ووضع لها الأسس والقواعد المتينة التي فاقت كل دعوة، كما في قوله الله تعالى: "إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا"، والتي دأب عليها قدوتنا صلى الله عليه وسلم في حثه على الأخلاق الحسنة ورددها بلا ملل أو قنوط على أصحابه والناس أجمعين، حيث كان صلى الله عليه وسلم، رقيقا حكيما في دعواته إلى مكارم الأخلاق، سواء المرتبط منها بسريرة الإنسان ذاته، أو المتعلقة بما ينفع الناس جميعهم، كالإنفاق والتصدق والعدل والبعد عن الظلم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم، في آخر خطبة له: "طوبى لمن طاب خلقه، وطهرت سجيته، وصحت سريرته وحسنت علانيته، وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، وأنصف الناس من نفسه".

فكم كان حريا بمن فكر في الدعوة "للحياء والعفة" لو إبتعد عن الأساليب الطالبانية المنافية للتعاليم الإسلامية ويختار من الأساليب الدعوية ما يطمئن المغاربة على أخلاقهم المتوارثة التي اكتسبوا قِيَمها الرفيعة -التي يعتزون بها ويغيرون عليها- من آبائهم وأجدادِهم ومن بيئتهم ومن رجالاتها ذوي الحكمة وغزارةِ التجربة، لأن المجتمع المغربي مجتمع كيس لبيب وبالإشارة يفهم الأمور، وأن مورثه الخلقي عريق جدا، كما أشار إلى ذلك الشاعر العربي زهيرُ بن أبي سلمى في مدحِهِ لهرم بن سنان في قوله:

فما كان من خيرٍ أَتَوْهُ فإنَّما   توارثَهُ آباءُ آبائهم قبلُ.
كذلك الشاعر طرفة بن العبد الذي عَبَّر عن نفس المعنى في قوله:

والمجدُ نُنْميه ونتْلدهُ          والحمدُ في الأكفاءِ ندَّخره.

 ورغم البساطة الظاهرية للنشأة الاجتماعية والدينية للمغاربة، فهي سليمة متجانسة في الأفكار والقيم التي ورثها المغربي من قومه وأهله وبيئته، ومرتكزة كليا على خصال العفة والحياء، التي لا تبلى ولا تفقد أبداً، لأنها رأس ماله الذي ليس في حاجة لمن يحميه، كما أشار إلى ذلك لبيد بن ربيعة في قوله:

مِنْ مَعْشَرٍ سنَّتْ لهم آباؤُهُم   ولكلِّ قومٍ سنّةٌ وإمامُــها
لا يَطْبَعون ولا يَبورُ فعالهُمْ       إذْ لا تَميلُ مع الهوى أحْلامُها.

ولهذه كان على من يتهم مجتمعنا المغربي، تجنيا، بالتفريط في أهم خصلة من خصاله الحميدة "العفة والحياء" التي تشربها مند الصغر، عليه قبل التفكير في فرض يوم لاسترجاعها، أن يبحث عن الأسباب الكامنة وراء انتشار هذا التفسخ وذلك الفجور-إن هو موجود فعلا- حتى يتعرف طرق علاجه والقضاء عليه، لأن حجر الزاوية في أي مشروع إصلاحي يتوخى تغيير المجتمعات ونشر فضيلتي الحياء والعفة وسائر مكارم الأخلاق التي تعد شرطا أساسيا لإثبات الشخصية الاجتماعية المقدرة والمحترمة، لابد له من مراعاة تحقيق تطلعات تلك المجتمعات، في محاربة الفساد المؤثرة في أخلاقه بمختلف مظاهره، وعلى رأسها جميعها، المرفق العمومي في علاقته بالمواطن سواء على مستوى ظاهرة الرشوة أو التهرب الضريبي أو امتيازات الريع الاقتصادي بكل أشكاله، والذي حفلت الساحة السياسية الوطنية في الأيام الأخيرة، بنقاش محتدم حول مدى قدرة إسلاميي الحكومة الجديدة على ملاحقته والغوص في سراديبه المدلهمة.

وكان على الداعية أن يمتثل في دعوته لأوامر ربه الواردة في الآية السابقة، ويتسلح بمعطيات عصره الحديثة في تطويرها، ويسخر الوسائل الجديدة المفيدة لخدمة وطنه وأمته، ليكون بحق قدوه لغيره، وأداة فاعلة في تغيير مجتمعه، قريبا منه متفاعل معهم، يفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويتأثر بتأثره، ويجد ويسعى لحل مشاكل الناس دون ان يبخل عليهم بشيء حتى يكسب ودهم وتعاطفهم، لأن الإنسان لا يقدر على كسب الآخرين إلا بمكارم الأخلاق وبالتالي فإنه من السهل له أن يجذب الآخرين ويكسب قلوبهم إليه، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :"يا بنى عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر) لأن مكارم الأخلاق وحسن الدعوة وصدقيتها وصلاحها، هو السبيل الوحيد لكسب ود الناس وحبهم، مصداقا لقوله الله تعالى:"وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين"  فصلت (33)

لكنه في حال شذوذ الدعوات عن غايتها الإصلاحية وكانت مجرد استصدار للأحكام الجاهزة الغايات السياسية، والخلفيات الأيديولوجية المستحكمة في نفوس الكثير من اليعاقبة أصحاب دعوات "الوعظ/السياسي " التي ليست إلا مجرد تعبير عما في نفوس بعض المرضى الذين لا يهتمون إلا بصغار الأمور وجزئياتها، دون الخوض في ما هو أهم وأجل وينفع الناس، ولا يعملون إلا إلى تجذير واستمرار ثقافة الانتهازية والوصولية السياسية السلفية، التي تكشف خباياها، ازدواجية الخطاب السلفي، بمختلف فروع السلفية العلمية والجهادية، سواء المعتمدة على إستراتيجية الانسياب داخل قوانين اللعبة الديمقراطية، أو التي تلعب على إستراتيجية مصادمتها وتكفيرها، من أجل الوصول إلى السلطة، عن طريق بناء أحزاب الملتحين المتأسلمين المؤدلجين للدين لاستغلال السذج، وإيهامهم بأنهم وحدهم  الذين يمثلون الدين الإسلامي، والإيمان بأن "الخلافة" هي شعيرة من شعائر الإسلام لا مناص منها، وأن كل الفتاوى الصادرة عنهم في حق من يخالفهم الرأي، من يساريين، وعلمانيين، هي فتاوى شرعية؛ كما يقول الأستاذ سعيد لكحل، الباحث في الشأن الإسلامي، عن هذه الجماعات التي تتحرك بإيعاز وتشجيع من جهات متنفذة على توسيع رقعة التّمييع والتذرّر والتفكّك والتّفرقة، عملاً بالمثل المأثور"فرق تسد"، أو "ميّع تفُز": "أنها بدأت تعدّ عدتها للانتقال إلى مرحلة التدخل المباشر في رسم السياسة الفنية والثقافية للحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، مذكراً أنها - كما الحزب- لطالما تصدّيا للمهرجانات الفنية والثقافية دون جدوى، واليوم يعتقدان أن ذلك أصبح ممكناً". أي أن الظروف والشروط الضرورية لتطبيق الشريعة الإسلامية وإعلان دولة الخلافة وسلطانها المطلق المتحدث باسم السماء، قد توفرت ولا ينقص إلا إعداد المجتمع  للتحول الكبير الذي يهيئون له، كما يقول الشيخ يوسف القرضاوي في نفس الصدد مخاطبا الزعيم الإسلامي التونسي الأستاذ الغنوشي: "والشريعة اكتملت بلا شك غير أن تطبيقها يحتاج إلى تهيئة وإعداد لتحويل المجتمع إلى الالتزام الصحيح"(انظر د.عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، م.د.و.ع.ط2، بيروت، سبتمبر2004، ص166).

فما أحوجنا إلى دعاة يحسنون الهدي والدعاية للأخلاق الفاضلة والتمسك بقيمنا وثوابتنا وأصالتنا العقدية التي نعتزَّ بها وبمصدرها الإسلامي المشرق، بعيدا عن الغايات السياسية المبيتة، والأيديولوجيات غير الشريفة، التي تثير الكثير من النقاش والجدل بين المؤيدين والذين لا يمكن أن ننفي ما تخلقه تلك الدعوات من سحر الانفعال والتفاعل في النفوس والتي تدفع البعض للإيمان بأن الانحلال والتفسخ قد عم المجتمع، متمثلا في العري والسفور والفجور، وقلة الحياء وغياب العفة، وان القيم كلها أصبحت بحاجة، ليس إلى يوم واحد، بل إلى أسابيع أو شهور لاسترجاعها وترسخها في الطباع. وبين الرافضين الذين يعتبرون الدعوة استهدافا واستفزازا للمجتمع المغربي، ومساً بكرامة المغاربة وأعراضهم، الذين يرون بأن الحياء والعفة، لا ترتكز على الحجاب أو النقاب أو إطلاق اللحى فقط، وإنما هي في سُلم القيم "مُثل وقيم خلقية" لا تتخذ مرتبة ثابتة جامدة لا تتغير، بل ترتفع وتنخفض تبعا لظروف الفرد وأحواله ورغباته واهتماماته، يكتسبها الرجل العفيف ولو كان أمردا أو حليقا، والمرأة الشريفة حتى ولو كانت سافرة بملابس محترمة ومحتشمة طبعا..

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2069 السبت 24 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم