قضايا وآراء

قراءة في قصيدة: سراب للدكتور جمال مرسي

مَن أَنتِ قُولِي، كَي أُجِيبَكِ مَن أَنَـا  ؟

أَلقَت بِكِ الأَقدَارُ فِـي دَربِـي، ومَـا

أَلفَيـتُ دَربـاً رَاقَنِـي مُـذ ضَمَّـنـا

و كَأَنَّهُ مِـن نُـورِ وَجهِـكِ  أَشرَقَـت

جَنَباتُهُ، فَهَـدَى خُطَـايَ إِلَـى الهَنَـا

عَامَانِ مُذ كَـانَ اللِّقـاءُ، وخَافِقِـي

مُتَرَنِّـحٌ بَيـنَ الصَّبَـابَـةِ  والعَـنَـا

أَصحُو عَلَى شَوقٍ، أَبِيتُ عَلَى جَـوَىً

وأَشُـمُّ فِـي رَوضِ التَّذَكُّـرِ سَوسَنَـا

وأُبِيحُ لِلعَينِ اختِـلاسَ طُيُـوفِ  مَـن

زَرَعَت، ورَاحَت بِالبِـذَارِ وبالجَنَـى

وعَنَـادِلُ القَلـبِ الشَّغُـوفِ تَرَنَّحَـت

مِن خَمـرِ عُصفُـورٍ بِثَغـرِكِ  دَندَنَـا

و نَسَائِـمُ الجَنَّـاتِ فَاحَـت بِالشَّـذَى

فَعَرَفتُ مَـن تَخِـذَت رُبَاهَـا  مَسكَنَـا

مَن أَنتِ، قَد جَفَّ السُّؤالُ عَلَى  فَمِـي

و اْخضَوضَرَت فِي القَلبِ أَشجَارُ الضَّنَى

و تَأَجَّجـت نَـارُ التَّوَلُّـهِ فِـي دَمِـي

مِـن نَظـرَةٍ قَلَبَـت بِعَيْنَـيَّ الـدُّنَـى

فَشَمَالُهَـا كَجَنُوبِهَـا، وصَبَاحُـهَـا

كَمَسَائِهَـا، والمُستَقِيـمُ المُنحَـنَـى

و نُوَاحُهَـا كَصُدَاحِهَـا، وعَرَاؤُهَـا

كَكِسَائِهَـا، والفَقـرُ فِيِهَـا  كَالغِنَـى

مَن أَنتِ قُولِي، أَينَ بَوْصَلَـةُ الهَـوَى

تَهـدِي سَفِينَـةَ مَـن لِحُبِّـكِ  أَذعَنَـا

لَو كُنتِ خَلفَ الشَّمسِ جَئتُـكِ  طَائِـراً

لأُرِيـقَ فِـي كَفَّيْـكِ أَنهَـارَ المُـنَـى

أَو كُنتِ خَلفَ البَحـرِ جِئتُـكِ سَابِحـاً

لا المَـوجُ يُثنِينِـي هُنَـاكَ ولا هُنَـا

عَامَـانِ والـدَّربُ الطَّوِيـلُ يَقُودُنِـي

لِلآَلِ، مَا فَتَـرَ الفُـؤَادُ ومَـا  وَنَـى

عَامَانِ أَبحَثُ فِي مَوَانِـي اْلقَادِمِـيـ..

نَ، اْلرَّاحِلِينَ، وكَم سَأَلـتُ الأَعيُنَـا

و نَظَرتُ فِي كُلِّ القُلُـوبِ فَلَـم  أَجِـدْ

لِطُيُـورِ قَلبِـيَ غَيـرَ قَلبِـكِ مَوطِنَـا

عَينَـاكِ غَيَّرَتَـا خَرِيطَـةَ عَالَمِـي اْل

بَـدَوِيِّ، مُـذ أَشرَقْـتِ فِيـهِ  تَمَدَّنَـا

و جَبِينُـكِ المِـرآَةُ يَفضَـحُ لَحـظَـةً

دَارَت بِهَـا كَـأسُ التَّسَـاؤُلِ بَينَـنَـا

و يَمِينُكِ النَّعنَـاعُ مُـذ لَمَسَـت يَـدِي

و حَـرَارَةُ اللُّقيَـا تُــرَاوِدُ أَرعَـنَـا

لَـوْلاكِ قَــرَّت عَيـنُـهُ بِمَنَامِـهَـا

و ارتَـاحَ مِـن أَرَقٍ عَلَيـهِ  تَشَيْطَنـا

يـا ظَبيَـةً عَرَبِيَّـةً لَــم  تَتـرُكِـي

لِقَتِيـلِ حُسنِـكِ غَيـرَ حُلْـمٍ  هَيمَنَـا

و شَرَدتِ لا عُنـوَانَ غَيـرَ " أُنُوثَـةٍ "

و سَـرَابِ غَانِيَـةٍ إِذَا ابتَعَـدَتْ  دَنَـا

و قُصَاصَـةٍ بَيضَـاءَ نَـوَّرَ  فَوقَهـا:

" مَن أَنتَ قُل لِي كَي أُجِيبَكَ مَن أَنَـا  "

 

 

سراب / عنوان بدلالته يمضي بالمتلقي نحو المستحيل، أو نحو الوهم، أو وراء الحلم الذي لم يتحقق ...، اللحظات السريعة التي تترك في النفس أثرا وتغادر، السراب أن نحاول الامساك بآخر ذيل من ذيول الفجر التي تنفلت من بين أصابعنا، نلحق بها نشدها نتصبب عرقا، نتراخى، ونمسح عن الجبين كلّ الذي مضى لنحلم من جديد ..!

 

يبدأ شاعرنا بالتساؤل،، وكأنه لا يعرف عن تلك الأنثى شيئا، وكأنّ الدقائق التي جمعتهما وفرّقت بينهما تعود الآن، تساؤل فيه من المعرفة بما يجهله بقوله :

مَن أَنتِ يَا فَجـراً تَوَضَّـأَ بِالسَّنَـامَن أَنتِ قُولِي، كَي أُجِيبَكِ مَن أَنَا ؟

أَلقَت بِكِ الأَقدَارُ فِي دَربِي، ومَـاأَلفَيتُ دَربـاً رَاقَنِـي مُـذ  ضَمَّنـا

و كَأَنَّهُ مِن نُورِ وَجهِـكِ  أَشرَقَـتجَنَباتُهُ، فَهَدَى خُطَايَ إِلَـى الهَنَـا

 

من أنت؟ ويناديها بالفجر، الفجر الذي ألقى به القدر ليسقط على روحه ذات يوم، هي التي منذ غيابها لم تعرف دروبه الجمال ولا الاستقرار، الفجر من نور وجهها، نور هدى خطواته للهناء فكيف يتساءل، وهو الذي يصفها بهذا الوهج ؟؟ هل هو سؤال استنكاري

عَامَانِ مُذ كَانَ اللِّقـاءُ، وخَافِقِـيمُتَرَنِّـحٌ بَيـنَ الصَّبَابَـةِ  والعَـنَـا

أَصحُو عَلَى شَوقٍ، أَبِيتُ عَلَى جَوَىًوأَشُمُّ فِـي رَوضِ التَّذَكُّـرِ سَوسَنَـا

وأُبِيحُ لِلعَينِ اختِلاسَ طُيُـوفِ  مَـنزَرَعَت، ورَاحَت بِالبِذَارِ وبالجَنَى

وعَنَادِلُ القَلـبِ الشَّغُـوفِ تَرَنَّحَـتمِن خَمرِ عُصفُـورٍ بِثَغـرِكِ  دَندَنَـا

و نَسَائِمُ الجَنَّـاتِ فَاحَـت بِالشَّـذَىفَعَرَفتُ مَن تَخِـذَت رُبَاهَـا  مَسكَنَـا

 

 

 

 

تحديد العامل الزمني وتوظيفه في القصيدة يدلّ على أن الشوق ما يزال ينبض في العروق لأن المدة الزمنية ليست ببيدة مع أنها ليست وليدة الآن،، لكنها ساعدت في سرده للمتلقي أن يعرف المدة الزمنية التي هي نتاج الماضي والذي هو جزء من الفترة الحالية، :

/ عامان مذ كان اللقاء / .. لم ينس الشاعر هذه السوسنة، لم ينس طيفها، وعنادل قلبه تترنح من خمر ثغرها، من دندنة تلك العصفورة، ونسائم من شذاها فاحت، فعرف أين مسكنها،، !!

 

مَن أَنتِ، قَد جَفَّ السُّؤالُ عَلَى  فَمِـيو اْخضَوضَرَت فِي القَلبِ أَشجَارُ الضَّنَى

و تَأَجَّجـت نَـارُ التَّوَلُّـهِ فِـي  دَمِـيمِـن نَظـرَةٍ قَلَبَـت بِعَيْنَـيَّ الـدُّنَـى

فَشَمَالُهَـا كَجَنُوبِـهَـا، وصَبَاحُـهَـاكَمَسَائِهَـا، والمُستَقِيـمُ  المُنحَـنَـى

و نُوَاحُهَـا كَصُدَاحِهَـا، وعَرَاؤُهَـاكَكِسَائِهَـا، والفَقـرُ فِيِهَـا كَالغِـنَـى

مَن أَنتِ قُولِي، أَينَ بَوْصَلَـةُ الهَـوَىتَهـدِي سَفِينَـةَ مَـن لِحُبِّـكِ  أَذعَنَـا

 

ويعود للتساؤل من جديد "من أنت؟" وقد جفّ السؤال،والنار تتأجّج، شاعرنا أضاع اتجاهاته وفقد بوصلة الهوى لسفينته فكيف به يبحر؟؟

  لَو كُنتِ خَلفَ الشَّمسِ جَئتُكِ طَائِراًلأُرِيقَ فِي كَفَّيْـكِ أَنهَـارَ المُنَـى

أَو كُنتِ خَلفَ البَحرِ جِئتُكِ  سَابِحاًلا المَوجُ يُثنِينِي هُنَاكَ ولا  هُنَـا

  ويلجأ الى التمني، (لو كنت) ليس اختياريا بل حلما يصنع منه الغد الآتي ليريق في كفيها كل المنى، الأماني هل تصنع المستحيل، هل تحققه؟ لا موج صاخب يثني شاعرنا عن خوض غمار البحر وهياجه، (لا هناك، ولا هنا) وكأني بشاعرنا بين مكانين !!

 

عَامَانِ والدَّربُ الطَّوِيلُ  يَقُودُنِـيلِلآَلِ، مَا فَتَرَ الفُؤَادُ ومَـا وَنَـى

عَامَانِ أَبحَثُ فِي مَوَانِي اْلقَادِمِيـ..نَ، اْلرَّاحِلِينَ، وكَم سَأَلتُ الأَعيُنَا

و نَظَرتُ فِي كُلِّ القُلُوبِ فَلَم  أَجِـدْلِطُيُورِ قَلبِيَ غَيـرَ قَلبِـكِ مَوطِنَـا

 

ويعود الى عامين سرقهما الزمن، دربه طويل لكن الفؤاد ما ونى، عامان وهو يبحث بين القادمين والراحلين عنها، يفتش في عيون الغرباء عنها وفي قلوبهم، لم يجد غير قلبها موطنا له، إنها غربة النفس، الشعور بفقدان الوطن / وطنه هي / وهي الوطن، ألمس في تعبيره شوق المغترب إلى وطنه الأصل، الإحساس بالغربة والترحال هي حال المغتربين عن أوطانهم، والجدير بالذكر أن الكثير من الشعراء تناولوا قضايا الاغتراب في قصائدهم ولم يجدوا غير الحبيبة تسدّ الرمق، يبقى الشوق وتبقى الأحاسيس بالرغم من المسافات والبعد الجغرافي والمكاني، يبقى الحب الصادق كهذه اللحظات الجميلة كأن الأيام لم تمر

بل تتوقف عقارب الساعة لتعلن أن " السراب" ليس مستحيلا .

 

عَينَاكِ غَيَّرَتَا خَرِيطَةَ عَالَمِـي  اْلبَدَوِيِّ، مُذ أَشرَقْتِ فِيـهِ  تَمَدَّنَـا

و جَبِينُكِ المِرآَةُ يَفضَـحُ  لَحظَـةًدَارَت بِهَا كَأسُ التَّسَـاؤُلِ  بَينَنَـا

و يَمِينُكِ النَّعنَاعُ مُذ لَمَسَت  يَـدِيو حَرَارَةُ اللُّقيَـا تُـرَاوِدُ  أَرعَنَـا

لَـوْلاكِ قَـرَّت عَينُـهُ بِمَنَامِـهَـاو ارتَاحَ مِن أَرَقٍ عَلَيـهِ تَشَيْطَنـا

يـا ظَبيَـةً عَرَبِيَّـةً لَـم تَترُكِـيلِقَتِيلِ حُسنِكِ غَيـرَ حُلْـمٍ هَيمَنَـا

و شَرَدتِ لا عُنوَانَ غَيرَ " أُنُوثَةٍ "و سَرَابِ غَانِيَةٍ إِذَا ابتَعَـدَتْ دَنَـا

و قُصَاصَةٍ بَيضَاءَ نَـوَّرَ فَوقَهـا:" مَن أَنتَ قُل لِي كَي أُجِيبَكَ مَن أَنَا

 

يأخذنا إلى لغة العيون، عيناها غيّرتا خارطة العمر، خارطة التاريخ من عالم البداوة إلى التمدّن والحضارة وهنا ألأمس رابطا في العلاقة ما بين حياة القرية والمدينة وانتقال الشاعر ليس فقط في المكان كمكان إنما انتقاله النفسي والروحي من عالم البدوي القابع في خيمته إلى التحضّر الفكري والمدنية بقوله: عيناك غيرتا خريطة عالمي ألبدوي .....!! ومن لغة العيون إلى (التفصيل): جبينها / يمينها / ظبية عربية /،،، اذن شاعرنا ها أنت لا تترك مجالا للشك أن سيدة الموقف الظبية العربية، التي تركت تساؤلها ونعناعها بين يديك،، قد شردت لتترك لك " أنوثة " وقصاصة ورق بيضاء تسألك هي من أنت ؟؟؟

هو الحلم الذي تركته فيك لتزرعه في سراب وتواصل البحث ...!

 

الشاعر الجميل، الأنيق أستاذي د. جمال / هل تستحق تلك الظبية أن تفصح لها

" من أنت ؟"

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1194 الاحد 11/10/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم