قضايا وآراء

(احبُّه هذا الهدوء) .. قصيدة للسيد محمد حسين فضل الله / علي جابر الفتلاوي

يحملُني على جناح   الرؤى          الى  لذاذاتِ  الهوى     الساحرِ

يتيه  بي  في الغيب في زورقِ الضبابِ في  بحر ِ الدجى   الساهرِ

أحبّه      غيبوبةً       حلوةً           في  عالمٍ    مجنّحٍ         طائرِ

تُبعدني عن  الحكايا    التي           تخنقُ وحيَ النور في خاطري

عن الخطايا في دمي تلتقي           بالحسِّ   في   كيانه       الثائرِ

أحبّه   صفاء        روحيةٍ           أغفو على  حنانها        الغامرِ

كما  يهيمُ  الطيفُ  في  خاطرِ  الاسحارِ   حول  النسمِ        الحائرِ

أحبّه  يمنحُ  روحي  الهدى  اذا  أضمحلَّ  النورُ  من        ناظري

يضمُّني  يغمرني   بالندى           ينسابُ  في  لمحِ  السنا    الغائرِ

حتى  يعودَ العمرُ  أغفاءةً           حالمةً في  حضنه ِ        الطاهرِ

القصيدة من ديوان (على شاطئ الوجدان) للسيد محمد حسين فضل الله (رض) القصيدة من شعر سني حياة السيد التي قضاها في لبنان، منطقة جبل عامل، وهي سنين غربة بالنسبة للسيد وهو ابن البيئة النجفية، اذ تركت هذه السنين اثرها على حياة السيد المليئة بالجد والمثابرة العلمية،  كان السيد مجتهدا ومفكرا اسلاميا كبيرا عايش قضايا العصر بوعي وعلمية وواقعية، كان سياسيا مجاهدا يعي قضايا الامة ويحمل همومها ويتفاعل معها، وكان قائدا اجتماعيا ميدانيا، اضافة الى مواهبه الاخرى في الادب والشعر الوجداني الصادق، كان السيد رحمة الله تعالى عليه يشعر بغربة قاتلة لدرجة انه في بعض محطات حياته يئن من غربته، لكن (غربة السيد تختلف عن غربة الرومانسيين السلبية التي تجعل صاحبها ينكفئ على ذاته منفصلا تماما عن الاخرين، كغربة جبران خليل جبران التي عبر عنها بقوله:

(انا غريب في هذا العالم ... وسأبقى غريبا حتى تخطفني المنايا)

بينما يغترب السيد ويحب الهدوء املا بتحقق وعد الخالق بدُنيا السرور والامل والاغفاءة الحالمة بحضن الايمان الطاهر) محمد حسين فضل الله شاعرا،اسماعيل خليل ابوصالح .

اني اقرأ القصيدة قراءة ربما تختلف عن قراءة الاخرين، وقد يعدّها البعض غريبة  لكن هذا ما استوحيه من القصيدة، ومن معطيات حياة السيد الروحية الايمانية، ارى القصيدة وجدانية رمزية فيها مسحة صوفية، يعبر فيها السيد عن اشجانه، عن ضجره عن توجعه من دنيا ضاقت باهل الايمان على وسعها ظاهرا  حتى كادت ان تعصرهم عصرا، فتمنوا الانتقال الى حياتهم الارحب، حياة الاخرة، التي يتمناها كل المؤمنين الصادقين العارفين الواعين العاملين .

 (احبه هذا الهدوء) عنوان القصيدة، احبَّ السيد هذا الهدوء حبا فوق العادة، وقد اكد هذا الحب بضمير الغائب في (احبه) ولم يقل (احب هذا الهدوء)، وقد كرر حبه الى (الهدوء) الذي جعله املا يسعى اليه، ويجلب له المسرات.

 

ارى ان (الهدوء) الذي يعنيه السيد هو رمز لرحلة الانسان الى (العالم الاخر)، اذ كان السيد يتمنى هذا الرحيل، المعطيات التي دعتني لاستيحاء هذا المعنى، منها ان الايمان القوي بالله تعالى يجعله واثقا من ذاته انه سينال سعادة هي اكبر بكثير من بعض سعادات الدنيا ان لم تكن شقاءات بالنسبة اليه، وهذا الشوق الى حياة الاخرة امنية جميع المؤمنين الصادقين العارفين المتشوقين للقاء الله تعالى، هذه القراءة ربما تكون غريبة للبعض، لكن من خلال فهمي لشخصية السيد المؤمن الصادق العارف البائع لدنياه بآخرته يقوّي عندي الشعور بهذه القراءة، (الهدوء) الذي يعنيه السيد هو هدوء العالم الاخر، لا الهدوء الرومانسي الدنيوي الذي يقول به بعض القارئين  رومانسية السيد اخروية، وليست رومانسية دنيوية  تجعل الحالم بها يعيش في جنة يخلقها الحالم من خيالاته، ولا يخرج من دائرة الذاتية والدنيوية، المعطى الاخر الذي يجعلني ان اقول ان المقصود بكلمة (الهدوء) هو هدوء العالم الاخر، ورغبة السيد في الرحيل الى هذا العالم، هو المعاناة في الدنيا، وعدم تحقق الاماني، ولا اعني الاماني الشخصية الذاتية، بل فقدان العدل وشيوع الظلم، ان مظاهر الظلم  التي يتحسسها السيد بحق ابناء الامة، وازدواجية المعايير، والباس الباطل ثوب الحق  هذه الدوافع واخرى غيرها، اضافة الى ما يدور في نفس السيد المؤمنة الشفافة التي لايحس بها الا هو فقط، كل هذه مجتمعة تدفع باتجاه تعزيز قراءتي بان السيد متشوق للانتقال الى (الهدوء) الاخروي، ومستعجل للانتقال والرحيل كي يستمتع بالهدوء والسكون الكبير في عالم الغيب .

(الهدوء)  الذي احبه السيد واشتاق للقياه يعدد منافعه بالنسبة اليه،وارى انه يتكلم بلسان جميع المؤمنين، ولكونه يعيش لحظات الايمان الحقيقية، فانه يشعر باحاسيس امثاله من المؤمنين، يعدد السيد منافع (الهدوء) الذي يشتاق اليه من خلال تكرار كلمة (احبه) اربع مرات  احبَّ (الهدوء) الكوني الذي يحلم به المؤمنون، ويحب (الهدوء) اذ يلفّه في (خدر شاعر) والشاعر عندما يكون في الخدر يبدأ يعيش احلامه الرومانسية، وخياله الواسع، لان الخيال الواسع من حصة الشعراء المبدعين، وان كانت بعض خيالاتهم اشبه باحلام اليقظة، واحب (الهدوء) كأنه طائر وهو يحلق على جناحيه بعيدا لينقله الى :

(لذاذات الهوى الساحر) او لينقله الى (بحر الدجى الساهر) وهو راكب في زورقه الضبابي،هذا الشعور الوجداني، والاستعارات الجميلة،والسعادة الغامرة، لا يمكن تخيلها الا في عالم  الغيب، انه يشتاق لهدوء وسكون عالم الغيب، وعندما اتكلم عن السيد انما اعني مايدور في خواطر السيد عن مشاعر جميع المؤمنين، لان المؤمنين فقط هم من يشتاق لهذا العالم السعيد، قال تعالى (فتمنوا الموت ان كنتم صادقين) البقرة، 94 .

القصيدة طافحة بالوجدان والحب الصوفي، الذي يعيش في افيائه اهل المعرفة العارفون فقط هم مَن يعيش في خيال وسعادة العالم الاخر، السيد هنا ينتقل من عالمه الادنى الى العالم العلوي، هو في دنياه ويتخيل نفسه في العالم العلوي لوجده واشتياقه يريد ان يعيش (الهدوء) الكبير الذي يحلم به، الغيبوبة في رأيي انها غيبوبة الموت  التي يعيش لحظاتها جميع الموتى،هذه الغيبوبة بالنسبة للسيد وكذلك لجميع المؤمنين الصادقين، حلوة سعيدة لانها بداية الانطلاق الى العالم الاخر الذي يشتاق اليه المؤمنون، يتخيل المؤمن نفسه في تلك اللحظات وكأنه ينتقل على جناح طائر  ليوصله بسرعة فائقة الى مكانه او منزلته في العالم العلوي، في هذه اللحظات يبتعد المؤمن عن صخب الحياة الدنيا، يبتعد عن الحكايا الدنيوية، التي تخنق (وحي النور) وحي الايمان في خاطره، وتبعده عن عالم الحس الذي هو مصدر الخطايا كل خطايانا من عالم الحس،الجسد الذي تتركز فيه جميع حواس وشهوات الانسان  اصله من التراب، وعند الموت ترجع جميع هذه الحواس المادية أي الجسد الى التراب، اذ ينزع البشر اجسادهم كما يُنزع القشر عن اللب، السيد يعيش اماني الانتقال الى العالم الاخر الروحي، الذي يحلم جميع المؤمنين بالانتقال اليه، عالم الصفاء والهدوء والراحة والسعادة الدائمة بالنسبة للمؤمنين الصادقين، السيد يتكلم بلسان هؤلاء المؤمنين، اذ يحلمون برومانسية صوفية روحانية عرفانية صادقة وصافية، لا تشبه رومانسية اهل الدنيا، التي تنحصر في ذكريات الماضي الحلوة او في عالم الخيال البعيد عن الواقع، السيد يعيش غربة في هذه الدنيا، ويتمنى في هذه القصيدة الصوفية الرحيل الى العالم الاخر، اذ الاطمئنان الروحي بجوار رب الخلق اجمعين، فهو عندما يقول:

حتى يعودَ العمرُ اغفاءة ً       حالمةً في حضنهِ الطاهرِ

في هذا البيت اشارات الى ان السيد يعني ويقصد رحلته التي تحقق له الاماني وهي رحلة نهاية العمر، هي رحلة الهدوء الذي احبه السيد بصدق، وكرر ذلك اربع مرات، والبيت الاخير فيه ايحاء بان قراءتنا للقصيدة قراءة صحيحة، وفعلا عمر الانسان اشبه بالحلم، حتى يجد الانسان نفسه فجأة في العالم الاخر بعد ان يستفيق من حلمه، فهو اشبه بحلم نائم استيقظ من نومه،  فوجد نفسه في عالم غير عالمه الدنيوي، القصيدة تعبير عن لسان الصوفيين، واهل العرفان، والمؤمنين الصادقين هنا نرى براعة السيد في رسم هذه الصورالجميلة لمشاعر هؤلاء جميعا، القصيدة تجلب الاستمتاع، وتنبّه للتفكر بعواقب الامور، كي يراجع الانسان نفسه .

رحم الله المرجع الفقيه المجدد المفكر والقائد الاجتماعي الشجاع السيد محمد حسين فضل الله (رض) عوضه الله تعالى في جنات النعيم، وجعلنا الله تعالى من السائرين على نهجه وخطاه

 

        علي جابر الفتلاوي

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2096 الجمعة  20 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم