قضايا وآراء

قراءة وتأويل للمجموعة الشعرية: ربما يحدق الجميع للشاعر كريم جخيور / رياض عبد الواحد

بواسطة كشف نقاط التلاقي والاختلاف بين الذات المنتجة للنص وعالمها الموضوعي من اجل اكتشاف مخرجات النص ثم الوقوف على بنياته المشكلة لهيكله العام .

تحيلنا عنونة المجموعة \ ربما يحدق الجميع \ الى جملة مولدة عن بنية عميقة هي \ يحدق الجميع \ .ان دخول \ما \ الكافة على الحرف شبيه بالزائد \ رب \ مع وجود الفعل المضارع \ يحدق \ قد انزل المضارع منزلة الماضي لتحقق وقوع فعل التحديق . وقد يتبادر الى الذهن مجموعة من الاسئلة اهمها السبب الكامن في تحديق الجميع . وهل ان المحدقين متمترسون من اجل تحقيق هذا الهدف ؟ ثم الى اي شيء يحدق الجميع ؟هل لشخص، لقضية، لحقيقة ما ؟ ان جلَ هذه الاسئلة موضوعية، لهذا تضعنا العنونة بداية امام مجموعة من التأويلات التي ينبغي التوقف عندها قبل الدخول الى المتون . هذه اللايقينية مردها التردد الحاصل في نفسية السارد الذي يكشف في مواضع عدة على فعل متردد، تخييلي، يتصور مجموعة من الاشياء التي قد لا يكون لها وجود، او ربما هو العكس من ذلك . وفي هذا وذاك لا تحمل العنونة سمة الاخبار الجزافي عن فعل التحديق، بيد انها وضعتنا امام مجموعة من بنى الاستفهام العقلي التي تستدعيها الحالة \ العنونة، والتي تعكس العلاقة بين الذات والاخر، الذات\ والمطلق، الذات \ وما يحيط بها \ . هذه الحركية تعطي للعنونة زخما وعدولا واسعا، اذ ان صوت السائل يبقى مدويا حيال الاسئلة المفتوحة التي تترى في ذهن اي شخص . فأرتباط عملية التحديق بالاخر \ الجمعي \ تؤشر حالة من الاستلاب الروحي التي يعاني منها السارد ولو بنحو غير مباشر . تشكل بنية الاسئلة المبطنة مهيمنة مهمة في نصوص المجموعة، وهذا ما نلحظه في قصائد عدة منها على سبيل المثال لا الحصر قصيدة \ قمري مضرج بالسواد \ . الاسئلة التي تطفو امامنا :هل القمر ملمح كوني ام اشارة الى شيء ما؟ هل هناك اقمار  اخرى لكي يضفي السارد على كلمة \ قمر \ ياء المتكلم \  والتي تعني التملك والخصوصية؟ وهل ان \ القمر \ قناع يحيل الى دلالات ظلية لا تستبين من الوهلة الاولى؟

ان القمر بنحو عام ملمح للنور والبهاء والهدوء والحب، هو بعد روحي يرسمه الانسان ليبث في نفسه واعز الطمأنينة والجمال، وهذا ما يجعل \ تضرجه بالسواد \ حالة نادرة على مستوى التحقيق الطبيعي (من الطبيعة)، اما على مستوى تحقيقه لحالة نفسية فممكن اللجوء لمثل هذا التصوير . هذه العلاقة الناشئة بين القمر والسواد تشي بحصول انبعاج روحي وتشويش مساراتي في المسافة  الى الاخر . وفي محاولة الكشف عن السياقات المقطعية الاولية، يواجهنا النص في بداياته ببنية استرجاعية موشاة بواقعة تقترب من اليقينية الملموسة المتمثلة بـ \ الاباريق المحطمة \ غير ان هذا الاسترجاع يردف بأستباق زمني تسبيبي، بمعنى مسبب  لقضية \ التحطيم \ الذي مرده \ نوم العناكب على افئدة الاباريق \

 

الاباريق محطمة

وعلى افئدتها تنام العناكب

 

ان بناء الدلالات على علاقة المفارقة المحسوبة يوحي ببداية منكوصة تستمر لخلق مجموعة من الانكسارات الدالة على هبوط نفسي عال نتيجة الاستلابات التي خلقها ذلك التحطيم وما آل اليه من نكوص اتخذ رمزا للخذلان المتحصل في نفسية السارد

 

لا هدهد في يميني

والظمأ سيد

يشايعه السراب

 

\ الهدهد \ اشارة البشارة، واختيار \ اليد اليمنى \ له دلالة ايجابية في الموروث الديني، فعندما لا يرى الانسان في يمينه ما يدل على البشارة فهذا ما يوحي له بالخسارة الكبيرة . هذه المتحصلات المتراتبة لم ترد بنحو اخباري مجرد بل جاءت لتقدم صورة نابضة لتأسي الحال والاستلاب الحاصل نتيجة تراكم الخيبات . يستمر النزوع الدراماتيكي ضمن بنية سردية تحيل الى محكي يتصف بالقتامة لوقوعه بين فكي الواقع واليأس المتحصل بسببه. وفي ضوء هذا، تنبثق واقعة جديدة في العملية السردية هي ادخال عنصر جديد من اجل اضفاء صوت اخر يجسد جوهر السردشعرية، الا اننا نرى ان السارد لم يتح المجال لهذا الصوت ان يأخذ مداه، فقد تركه عند  العتبة من دون ان يتيح له ان يكون موازيا له في العملية التفاعلية ومرد ذلك يكمن في ان هذا الخارجي اريد من صمته وتوصيفه اضافة كمية لما يعتمل في اعماق السارد من ارهاصات وسبب ذلك كله هو الانغلاق على الذات والكشف عنها بواسطة مرئي خارجي يكشف عما يعتمر من قلق في تلك الذات المنغلقة . هذا الانحراف يكمن في ارجاء الفكرة واستكمالها لاحقا من خلال هذا الاخر .

 

فأستديري اليَ ايتها العارفة

قلبك مهبط للماء

ومأوى الضليل

بأسمائك الحسنى

استديري اليَ

بمآذنك تتفرقد خيولا وسكينة

 

ان هذه التوصيفات تتضامن مع بعضها من حيث المعالجة، بمعنى انها تريد الوصول الى نتيجة هي : ان هذه العارفة قيمة انسانية قادرة على تغيير المسارات لما تكتنزه من معان سامية، فهذه العارفة \ الرمز تحقق بوساطة ذاتها وجود الاخرين بصفته المطلوبة . وبعد ان نصل الى نهاية النص نتعرف على السر الكامن وراء ذلك السواد الذي ضرج القمر وبهذا يتبدد السر الكامن وراء المصدات اللفظية للوصول الى الحقيقة

 

استديري اليَ

قلقي ذئاب تتعاضد

بلا نخل ولا اصدقاء

قمري مضرج بالسواد

ونافذتي مطفأة

 

في القصيدة التي تحمل المجموعة ثرياها \ ربما يحدق الجميع \ يبدأ السارد بالاتي :

 

1-       وهي تحدق في السماء

2-       وربما في جيوبي الشاحبة

3-       زوجتي دائما تسألني

4-       عن ميزان الحق

 

تتشكل في السطور الاربعة آنفا وحدة مضمونية متكاملة عبر سارد عليم،يبدو منفصلا عن الحال التي عليها الزوجة بما هو ظاهر معطياتيا .هذه الزوجة لم نعرف عنها شيئا غير الحاحها في معرفة الكيفية التي يتم فيها احقاق الحق ومفردات آليته. وعبر كل التوصيفات، تبدو الزوجة في حالة من التأزم النفسي بسبب شعورها بالغبن، غبن الزمن حيالها وحيال من حولها .فعملية \ التحديق \ الحاصلة في السطر (1) آنفا تحيلنا الى وجود خيط رفيع ورابط قوي بين \ السماء \ و \ الجيب \، اذ ان \ السماء \هي رمز يوحي بالعطاء والخير وهي التي تملأ ذلك الجيب بما يديم زخم الحياة في ابهج صورها، وهكذا فأن الدلالة التي تنبثق من السماء تنحو بأتجاه البوح بأنها الجهة المسؤولة في احقاق الحق حيثما ينبغي ذلك

 

تسألني عندما تنام

وتسألني حين تصحو

حتى تلبسها جنون الاسئلة

 

يكمن تكرير السؤال عند النوم وحين الصحو في قضية نفسية تكمن في الفعل الادراكي وخداعه، فما تطرحه المرأة في نومها يوازي ما تطرحه حينما تصحو وهي وان كانت في نومها قد تتخيل اوهاما الا ان تلك الاوهام لا تكشف عن عيوب في  منظومتها الادراكية بل تظهر قوتها لانها غير معتمدة على المثيرات في تلك الفترة . ان التشبث بالسؤال عند النوم هو – ايضا – جزء من اتمام عملية الاقناع الجارية في اللاوعي المترسب في الذاكرة، ويصح الامر نفسه عند الصحو اذ تعمل الاجهزة الارادية ويكف اللاوعي عن عمله . فالمرأة حين تصحو لا ترى تغييرا في حالها، فتشعر بالخيبة، لهذا يعد تكرير السؤال شيئا اراديا يحصل حتى في المنام الواعي  من اجل حصول ما يطفىء ظمأ الروح . ان انتظام الفعل المضارع \ تسأل \ بنحو تراتبي يشي بعملية لا توازن بين المرأة وزوجها . اذ اننا لا نرى الزوج مشاركا في عملية السؤال بسبب من حسم قناعاته بهذا الخصوص والتي ستبين في نهاية النص . انه ينظر الى الامورمن على شرفة بل لعله يجد ضالته التعويضية فيما تطرحه الزوجة كبديل موضوعي . في السطور اللاحقة من القصيدة يتم اعادة تشكيل السؤال المركزي موزعا على بنيات حسية وغير حسية، عاقلة وغير عاقلة (ملابس، قطط نافرة، دوائر، سيارات اسعاف، جنود ورجال اطفاء .... الخ) .

 

حين يلبسها جنون الاسئلة

فراحت تسأل الملابس

الصحون الفارغة، القطط النافرة

تسأل الكتب، دائرة البريد

وتسأل صاحب بيت المال

الجنود الفارين

والجنود الذين يمسكون الثغور

تسأل سيارات الاسعاف

وثلاجات حفظ الموتى

 

ان عملية توجيه السؤال المركزي لهذه الجهات الكثيرة ما هو الا عملية تعويضية عن الفقدان الحاصل يوميا والذي يعرش على حياة الزوجة ، اضافة الى ذلك فأن هذا الامتداد الاستفهامي الموزع  على جهات حسية مختلفة امر اساس من اجل اتمام عملية التيقن بواسطة اتساع رقعة السؤال ومن ثم زيادة المتحصلات المعرفية . ولعل السارد يحاول ان يضع الامور في غير الموضع الذي عليه الزوجة بواسطة ما هو عملي او عياني \ الميزان \

 

زوجتي

دائما ما تسأل عن ميزان الحق

ولأنني رجل اخشى عاقبة الامور

اشتريت ميزانا انيقا

فقالت: واين الحق؟

فرحت ادلها على بنات آوى

  

ان \ الميزان \ هنا مقاربة خارجية بيد انها ترمي الى عملية تطمين وقتية لاقناع الزوجة بأن \ الحق \ حاصل بواسطة الموازنة الجارية في الميزان الفارغ . لاجظ ان الزوج يلتقي مع الزوجة في التوجه للوصول الى الحقيقة على الرغم من قناعاته . انه يؤشر الاشياء بواسطة ما هو مادي \ الميزان \ او ما هو عملي . بمعنى بما هو جار في الواقع اليومي \ بنات آوى \ . ان عملية استنطاق الجمادات، او الكائنات  الحية الاخرى ما هو الا عملية تفعيل  تشي بالحركة التي يستدعيها السؤال المركزي والذي يمكن ان يتحقق بواسطة ما تصبو اليه الزوجة . ان ما اشار اليه السارد \ الزوج \  في الضربة الاخيرة يعلو فيه صوت المعطيات على صوت الواقع ومداخلاته المحيرة والتي انتجت السؤال المركزي .ان هذه المجموعة تستحق تفحصا اكبر لمستوياتها المشكلة لنسقها العام المتضمن مجموعة من اسئلة الوجود التي نبحث جميعا في علتها للوصول الى اجوبة عنها بواسطة الاستكشاف الواعي لحيثياتها .

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2098 الأحد  22 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم