قضايا وآراء

المنهجية التاريخية ودراسة ظاهرة العنف في العراق (6) / علاء اللامي

التي يتبناها و معها استنتاجاته بالكامل. مفاد هذه الحيثية هو أن أغلب الحوادث العنفية التي رصفها على بعضها في كتابه، قادها وخطط لها و قام بها غزاة طارؤون جاءوا من خارج العراق. ينتبه المؤلف إلى هذه الحقيقة ولكنه يلجأ إلى لَيِّ عنقها بطريقته المعهودة فيقول (ورب قائل يمكن أن يقول أن فصولاً كثيرة من العنف وسفك الدماء والمجازر قد جرت على أرض العراق نفذها حكام أو قادة غزاة جاؤوا من خارج العراق، بروح حاقدة ولا مسؤولة وبأعلى أشكال القسوة والتطرف والهمجية (..) وهذا ما يتوجب إسقاطه وعدم إدراجه في مسيرة العنف المرتكب من قبل العراقيين أهل البلاد ذاتهم أو المقيمين لأنه عنف مسلط من الخارج.. ص19 وما بعدها) ولكن باقر ياسين  يعاند ويكابر ويقول إن ذلك الواقع التاريخي الصلب ( لا يمنع من إدراج –  عنف الغزاة الخارجي ـ ضمن أحداث العنف العراقي والسبب هو أن هذا العنف قد نفذ على أرض العراق ..ص20) إن التطبيق العملي طبعا لهذه الفكرة البلهاء هو احتساب المجزرة الذرية التي ارتكبها الأميركيون في اليابان على ضحاياها اليابانيين وتاريخهم وطباعهم وشخصيتهم التاريخية وليس على القتلة الأميركان الذين ارتكبوها لأنها، وفق منطق باقر ياسين، حدثت على الأرض اليابانيين في هيروشيما وناكازاكي!

 

لعل القارئ يتذكر إننا سجلنا في رصدنا للظاهرة موضوع البحث ما تمارسه من تأثيرات وتتركه من آثار على الإنسان موضوعها وضحيتها جيلاً بعد جيل، ولكن الفرق هائل بين منطق يحاول الدفاع عن الإنسان بوصفه ضحية لطاغية أو لغزاة يمارسون العنف وبين " لا منطق" يخلط العنف نفسه بالضحية بالجلاد ليصل في خاتمة المطاف إلى أحكام معيارية تحط من كرامة الشعب العراقي. إن الكاتب ـ للأسف ـ يقوم هنا بمناورة تفتقر إلى الشرف العلمي حين يرفض أن يحذف العنف الذي مارسه الغزاة الأجانب على شعب متحضر وبلد غني وفير الخيرات كالعراق ويراكم تلك الأحداث على امتداد المئات من صفحات كتابه. إنه يصر على إدراج تلك الأحداث لا لكي يبرئ ما دعاه: الذات العراقية، عن طريق دراسة تأثيرات الظاهرة الخارجية عليها بل ليزيد من وقع الإدانة والإهانة لها.

 

وقبل أن ننتقل لمناقشة بعض مضامين فصول الكتاب، وبما أن الكاتب اعتمد اعتماداً وحيداً على جمع المادة التاريخية شاهد إثبات وحيد لأحكامه القاطعة ومقرراته الباترة، وليس كمادة يفعل فيها الأسلوب البحثي التاريخي فعله، ليخرج بنظرية أو مبادئ نظرية قابلة للتعميم. وربما يظن البعض أن أسلوب الرصف و"التصفيط "ولَيِّ أعناق الحقائق له علاقة بالأسلوب التاريخي التقليدي أو التاريخي النقدي الذي نأخذ به، ولهذا سنلقي نظرة على هذا العلم  لنرى أن كان ثمة ما يجمعه بمحاولة مؤلفنا أم أن هذه المحاولة مجرد (هيصة) ذاتية ولا علمية وبعيدة عن أسلوب بحث اسمه الأسلوب التاريخي التوثيقي أو شقيقه التاريخي التحليلي وأقرب إلى ما يمكن تسميته بمنهجية " التصفيط ". فما المقصود بهذا الأسلوب وما ركائزه الأساسية وما هي خطواته البحثية؟

إن موضوع ومادة الأسلوب التاريخي أو الأسلوب الوثائقي كما يسمى أحياناً هو التاريخ المنجز المتحقق، سواء كان يتعلق بماض بعيد جداً ولفترة قد تبتعد عنا بعشرات آلاف السنوات أو بعدة قرون أو عدة عقود من السنين. ويختلف هذا الأسلوب عن التأرخة فهذه الأخيرة لا تتعدى تسجيل الأحداث الحاصلة كما هي دون زيادة أو نقصان أو تحليل أو تفسير ومن هذا القبيل الموسوعات التاريخية العربية المشهورة كتاريخ الطبري و (البداية والنهاية) لابن كثير و(مروج الذهب) للمسعودي.

  وقد أثيرت تساؤلات وانتقادات واسعة لهذا الأسلوب ـ التاريخي ـ في سنواته الأولى وانتقص الكثيرون من قيمته العلمية لا بل عدّهُ البعض أسلوباً غير علمي لأسباب منها أنه لا يعتمد على التجربة بمفهومها العلمي وعدم اعتماد الباحث التاريخي على الملاحظة المباشرة بل على الملاحظة غير المباشرة كالآثار والسجلات وذاكرة الأشخاص، إضافة إلى أن هذا الباحث،  كما يقول المنتقدون،  لا يستطيع ـ مهما كان دقيقاً ـ  كشف كل الأدلة المتعلقة بموضوعه التاريخي وربما أمكنه وحسب الوصول إلى نتائج جزئية. ولكن ورغم الصحة النسبية لاعتراضات والنقود السالفة فقد أثبت البحث التاريخي جدارته العلمية وتشجَّع الباحثون على الأخذ به واستقرت له أسسه العلمية وخطوات البحث الخاصة به وهي على التوالي:

-  الشعور بالمشكلة وتحديد إطارها.

-  وضع الفَرْض أو مجموعة الفروض.

- جمع المعطيات والحيثيات والبيانات.

- وأخيرا يتم الوصول إلى النتائج وصياغة التعميمات.

وبما أن البحث التاريخي يعتمد اعتماداً رئيساً على المادة التاريخية فقد أوليت هذه المادة الحيّة اهتماماً استثنائياً وتم التركيز على ثلاثة جوانب هي:

- مصادر المعلومات كالسجلات والآثار والوثائق وشهود العيان والدراسات السابقة والأعمال الأدبية والفنية المعاصرة للحادثة التاريخية موضوع البحث.. الخ.

- نقد مصادر المعلومات، وهنا ثمة نوعان من النقد وهما النقد الخارجي والنقد الداخلي.

-  صياغة الفروض في البحث التاريخي، فإنها تتطلب مهارة خاصة وبراعة فائقة والسبب هو أن هذه المهمة تختلف عنها في جميع العلوم الأخرى لسبب غير موجود في تلك العلوم وهو أن الباحث هنا يدرس واقعة حدثت في الماضي وليس في الحاضر داخل مختبر مادي ملموس كما هي الحال في العلوم التجريبية ولهذا يحدث غالباً أن يطرح الباحث التاريخي  فرضاً أو مجموعة فروض ثم يقوم بتعديلها في ضوء ما تجمع لديه من معلومات وكشوف جديدة.

   فأين كل هذا الكلام من (منهجية) باقر ياسين والخائضين الآخرين في ميدان البحث التاريخي؟ وقبل الانتقال إلى مناقشة قضايا محددة ومهمة وردت في الكتاب المنقود، نذكر القارئ بأن منهجيتنا تختلف كثيراً عن منهجية البحث التاريخي التقليدية "الوثائقية البحتة"، وإن كانت تستفيد منها إجرائيا،ً متى كان ذلك ممكناً ومفيداً، فنحن نعتمد ما أسميناه المنهجية الشاملة والقائمة على البحث التاريخي النقدي المادي والتي قد لا يرى القارئ منها في بحثنا هذا إلا الظلال والنتف لأننا لسنا بصدد التنظير  لبحث تاريخي مستقل وخاص بموضوع أو ظاهرة معينة.

سلف القول إلى أن الكاتب خصص الفصل الأول من كتابه لدراسة أحداث العنف الدموي في وادي الرافدين بداية من فجر السلالات 3000 ق.م حتى الاحتلال الفارسي 539 ق.م. هذا ما يشير إلى واحد من المطلقات التي لها قوة "البداهة" في ذهن الكاتب، وهي ليست إلا وهماً،  أو في المتواضع، مجموعة من الفروض الخام. إن هذا المطلق الذي يعلنه الباحث بلغة واثقة، يعني: أن العنف العراقي الدموي ليس ظاهرة تاريخية بل هو أشبه باللعنة التي أصابت هذا الشعب قبل خمسة آلاف سنة، وحتى قبل أن تولد كلمة (أوروك) التي اشتق منها اسم العراق على رأي بعض الباحثين والعلماء الإركولوجيين. فقد بدأ تاريخ هذا الشعب وهذه البلاد بالعنف والصراع، فلماذا العجب، وما وجه الغرابة، في أن يكون اليوم عنيفا دمويا كما كان قبل خمسين قرناً؟ هوذا المؤلف  يبدأ الفصل الأول من كتابه بهذه البديهية المطمئنة (ليس غريباً أن يبدو التاريخ العراقي أمامنا غارقاً بأحداث العنف الدموي عندما نكتشف أن بدايات هذا التاريخ تتحدث للبشرية منذ بدء الخليقة عن قصص الصراع المتواصل القائم على العنف التصادمي بين الإرادات المتناقضة للآلهة المتعددة الأسماء التي عبدتها وخضعت لها الأقوام والحضارات التي قامت في وادي الرافدين منذ الألف الرابع قبل الميلاد- ثمة زيادة هنا بألف سنة يبدو أن ياسين نسيها أو إنها لا تعني له شيئاً ذا قيمة أو مغزى لأن مجموع أربعة آلاف سنة ق.م. وألفي سنة بعد الميلاد يساوي ستة آلاف وليست خمسة آلاف - تلك القصص التي أبدعتها وصاغتها التجربة الأولى للعقل البشري والمتمثلة بالأساطير الملحمية لشعوب سومر وبابل وآشور. ص29).

ربما يكون الأمل قد خامر القارئ بأن  الكاتب ربما سيخفف من غلوائه واحتدامه لغة ومضامين، على اعتبار أن ظاهرة العنف وكأية ظاهرة تاريخية تخضع لشروطها الداخلية الخاصة وللظروف البيئية المحيطة بها، ربما تكون في بداياتها وقبل خمسة آلاف سنة أخف وطأة وأقل شدة نوعية مما ستكون عليه حالها بعد خمسين قرناً، ولكن هيهات! إن الكاتب سيحبط هذا الأمل وسيحاول، أن يثبت لنا أن السمكة كما يقال متعفنة من رأسها! وأن ظاهرة العنف الدموي العراقي وطباع الغدر والتقلب والتشفي واللؤم والحقد والشماتة والخيانة.. الخ قد ولدت وقبل خمسة آلاف سنة مكتملة، ناضجة، ومنظمة، شأنها في ذلك شأن أي مطلق خارق غير قابل للمحايثة والحوار النقدي والاستيعاب العقلي كأية خرافة تقليدية. نعم، لقد نجح الكاتب في استيلاد طنطل اسمه "العنف الدموي العراق" ولكنه سيبقى طنطلا لا يعني أحدا سوى والده "المؤلف"!

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2103 الجمعة  27 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم