قضايا وآراء

الدولة والمثقف / مهدي الصافي

البعض يذهب إلى العصور الوسطى الحديثة، فيقف عند المدارس الفلسفية والصوفية الخارجة عن إجماع الملل والنحل والفرق الإسلامية المخالفة، التي مورست ضدها عملية الإقصاء والتشهير والقذف  (بالزندقة والتكفير)، فهم يعتبرون في حينه إنهم أكثر انفتاحا من المدارس التقليدية الجامدة، هذه النظرة التي روج لها الكاتب العربي الراحل محمد اركون (وحتى مدرسة ادوارد سعيد الفكرية، والمدارس الاستشراقية)  وآخرين، أريد منها إن تكون شماعة الأحمال لمجمل الأخطاء والتراجعات والانهيارات والانتكاسات العربية الموروثة،

ولكن الحقيقة إن نظرتهم ترمي إلى مايسمى بتفكيك النصوص الدينية المقدسة، والتلاعب بالثوابت والحقائق الإسلامية المختلفة تماما عن التجربة الأوربية المتحررة من القيود الكنسية، وهذه هي احدى أهم الأخطاء التي ورثناها عن المدارس العربية المؤمنة بتجربة الحداثة الغربية (الفرنسية تحديدا وبعد حملة نابليون بونابرت على مصر)، حيث بقيت عقولنا وأفكارنا مشدودة دائما إلى الأعلى إلى دول الشمال،

وبعد أكثر من قرن تقريبا لازال اغلب المثقفين العرب يستشهدون برموز الثقافة الغربية (المهملة أصلا في بلدانهم، التي تحولت إلى موروث أكاديمي معزول عن مجتمعاتهم الالكترونية) في اغلب كتاباتهم وخطاباتهم التنويرية، في عصر بات كل شيء يتحرك ويتعامل به الكترونيا، وتحميل تجارب أنظمتنا المستبدة السابقة كل أسباب الإخفاقات الاجتماعية والثقافية والدينية،

في حين إن الحكام وأحيانا الجهات المعارضة لهم لايختلفون في تصرفاتهم مع العامة من الشعب،  عندما تتغير الأدوار والأماكن والمناصب وحتى الكراسي، فالأسباب اكبر من أن تحدد وتشخص بعلل بسيطة جاهزة (مع إنها فعلا تكون احد أركان الأسباب الرئيسية المسببة لهذا الخمول أو الضمور العربي على مسرح التأثير والتفاعل الإقليمي والدولي، لكنه ليس الوحيد)، ولنا دليل بسيط على ذلك، إن أكثر من عشرين دولة عربية نصفها أو أكثر تتمتع بموارد طبيعية كبيرة، تقف عاجزة وحائرة أمام التأثير الإقليمي (بين تركيا وإيران)، تتخبط في قراراتها وخططها وبرامجها السياسية الموجهة للتحديات الإقليمية المتربصة بالجميع، فتارة تعمل على التصعيد الطائفي بغية إيقاف مايطلق عليه بالمد الشيعي (الهلال الشيعي)،

وتارة أخرى تمارس دورا كارثيا في دعم الأنظمة الاستبدادية الشقيقة (كما دعمت نظام صدام، وبعده أرادت أن تدعم أنظمة أخرى في تونس ومصر ولكنها فشلت)، ولكن أن تساهم بعض الدول (ومنها دول الخليج) في تكسير بوابة الشام المتصدية للمد والخطر الصهيوني في المنطقة، فهذا أمر يصعب فهمه وتقبله (بينما دفعت من قبل المليارات من الدولارات في حماية البوابة الشرقية إبان حرب الخليج الأولى مع الجارة إيران الواقفة فعلا مع القضايا العربية المصيرية رغم بعض الاعتراضات والمواقف المرفوضة من قبل بعض الدول العربية)،

إذن نحن امة مهزومة، مخربة سياسيا وثقافيا واجتماعيا (وحتى تربويا واقتصاديا)، وقد زاد من الانهيار والانحدار نحو الهاوية، المخاوف والحذر الشديد من ظهور وصعود  البدائل المخيفة للأنظمة العربية السابقة، وهي بدائل مصنوعة ومركبة بطريقة تشبه تركيبة حركة طالبان الأفغانية، في حركات المد السلفي المهادن والمتعاون مع الأنظمة الخليجية الداعمة والحاضنة لها،

وهذه مرحلة خطرة يراد منها أن تكرر التجربة الوهابية المسيطرة على الشارع السعودي الرسمي (الذي يفتي بعض فقهائهم بالدعاء ضد حركات المقاومة العربية المتصدية للاحتلال الإسرائيلي كما في لبنان، معتبرة إن خطر الشيعة اكبر من خطر الدولة الإسرائيلية، مع إن النهج والمذهب الوهابي يعد من اكبر فرق الخوارج الخارجة على المذاهب الإسلامية المعتبرة الخمسة، المذهب ألاثني عشر الجعفري، ومذاهب أبناء الجماعة الأربعة الحنابلة، المالكية،  الحنفية،  الشافعية) .

المراد من هذه المقدمة هو الدخول إلى ساحة الأنظمة العربية الحديثة العهد بالتجربة الديمقراطية (وهي نظام مستورد بالكامل يجب إن تفهم مبادئه وقيمه وشروطه، ويعمل بتركيبته السياسية القاضية بالفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية)، هو إتباع نموذج الدولة المثقفة، اي الدولة التي يجب أن تفصل بين مؤسستين ثقافيتين مختلفتين جوهريا، أو يمكن القول جذريا، هي المؤسسات الثقافية الاستهلاكية (الصحافة والإعلام اليومي الرسمي والخاص، المقصود بالاستهلاكية أي إنها معنية بمواصلة الحدث اليومي المتغير، وهي بالطبع مهنة ووظيفة لها أهميتها وضروراتها الحياتية، لكنها تبقى أسيرة للتوجهات السياسية والشخصية، عدا المستقلة منها)،

والمؤسسة الثقافية الوطنية الاجتماعية المدنية، هي المؤسسات الغير معنية بالأحداث والمتغيرات والتوجهات السياسية، هي المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية والاجتماعية،

وهنا يجب أن نتوقف عند هذه المؤسسات المستقلة الشبه مدنية (لأنها تبقى مدعومة ماديا ومعنويا من قبل خزينة الدولة)، لأنها تعتبر الحصن الواقي للمجتمع من الانهيار، فمراجعة سريعة لأحداث الربيع العربي وانهيارات الأنظمة المستبدة

 (التي كانت تربط كل أركان الدولة ومؤسساتها بهرم السلطة، إن سقط يسقط الهرم كله)، أظهرت إن اغلب الدول العربية (عدى مصر تقريبا مع إن الأمور ظلت بيد المجلس العسكري، ولكن تمتلك الدولة بعض المؤسسات المستقلة جزئيا عن النظام)، عبارة عن دول ورقية لاتقوا على الثبات بوجه الزلازل الثورية أو المتغيرات والانقلابات السياسية، وكأنها صورة مستنسخة عن ابجدية الثورات ونتائجها الصعبة، كالثورة الفرنسية 1789، التي شوهت بعض الأحداث الغوغائية المرافقة لها، نموذجها الثوري الفريد في وقته، الذي غير مجرى التاريخ الاوربي برمته)

وقد لاحظ الجميع التجربة العراقية، فيكاد يكون هذا البلد خال من أي مؤسسة حكومية مدنية أو عسكرية سليمة من التشويه الصدامي السابق، وهكذا كان الوضع في ليبيا واليمن وحتى تونس ومصر، ويمكن المرور بالتجربة السورية الحالية، لنجد ان سوريا العلمانية المنفتحة على الثقافة الغربية منذ زمن، تعاني اليوم من صراعات داخلية مريرة، بين السلطات الرسمية

 ( المؤيدة من غالبية الشعب الذي تقبل فكرة حكم العائلة المتوارث، لأسباب اقتصادية وقومية تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، حتى إن الرئيس بشار كان قد صلى أكثر من مرة على طريقة أهل السنة وتزوج منهم، وقد استطاعت طريقة الرئيس حافظ الأسد في إدارته للدولة أن تغير الكثير من ثقافة المجتمع الطائفي، وبين التيارات السلفية الاخوانية المدعومة خليجيا لتدمير بلاد الشام برمتها، وعلينا إن نتذكر جند السماء أو الشام الذين واجههم الجيش اللبناني في النهر البارد)، كل هذه الأمور تدعو الدول المعنية بالشأن الأمني الداخلي والاستقرار الاجتماعي،

 (من دول الربيع العربي أو التي تقف عند أطرافه)،

من أن تترك طريق الثقافة الاجتماعية والتربوية والتعليمية،  سالكة ودون تعقيد لجميع التيارات والمدارس الثقافية والأدبية والفكرية (الغير مسيسة أو موجهة توجيها خاصا، اي السماح للإصدارات المستقلة، الكتب والقصص والبرامج المتعلقة بالحياة وجوانبها المختلفة والمتشعبة)، أن تمارس دورها في التثقيف وفتح مدارس الأخلاق الاجتماعية الرصينة،

من خلال إحياء المراكز الثقافية (الغير ربحية والمكفولة حكوميا من الناحية المادية فقط)، وتنفيذ مشاريع المكتبات العامة والمدرسية، فهذه الخطوات التي كتبنا عنها كثيرا وضلت مهملة، هي من تديم عملية الثقافة الاجتماعية، وتمد جسور التواصل بين المثقف وبقية فئات المجتمع،

صعب جدا ان يعبر طلبة المراحل الابتدائية أو المتوسطة دون ان تتعلم فكرة استعارة وقراءة الكتب (فما رأيك بمن يتخطى  المراحل الثانوية أو الجامعية)،

إضافة إلى حاجة الإكثار من جوائز الإبداع المركزية أو المحلية  المتعلقة بكل الموروثات والنتاجات والكتابات والإصدارات العراقية والعربية والعالمية (كما يحصل في عدد قليل من الدول العربية أو الاقتداء بالنموذج  الغربي في مثل هذه التجارب)،

ففي الجهة الأخرى من البحر المتوسط الأبيض نجد إن الكاتب لا يهتم كثيرا لتوزيع كتابه، لان المؤسسات الحكومية والمدنية معتادة على شراء كل ماهو جديد (ولك إن تعرف حجم الفائدة التي تعين الكاتب على تكملة مشواره الحرفي عندما تحاول الآلاف من المدارس شراء كتابه، وكذلك الصحف والمجلات اليومية أو الدورية)،

هل يعقل إن العرب في دول المهجر يحصلون على الكتب والإصدارات الحديثة والجديدة، وكذلك الصحف والمجلات العربية بشكل مستمر بينما يتعذر الحصول عليها مجانا في معظم البلدان العربية؟

قليلا من الأموال التي تذهب هدرا في كل موازنة حكومية جديدة يمكن تخصيصها لأهم مرفق اجتماعي حيوي، تلك المؤسسات التي تقع عليها وقبل أية مؤسسة أو هيئة أخرى مسؤولية توعية الأجيال وتثقيفهم وحتى حمايتهم، وعليكم أن تنظروا إلى التجربة الغربية الدائمة الرجوع إلى مراكز الفكر الأساسي

 (حتى وان كان خارج دائرة القرار الرسمي-فما تجربة هنري كيسنجر إلا دليل على أهمية التخطيط الاستراتيجي في عملية بناء القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الأخلاقي من وجهة نظرهم)، فهل ينصف الربيع العربي ورجال الديمقراطيات الحديثة المثقف والمجتمع، أم هي دورة ثانية وثالثة وعاشرة من دورات العرب الفاشلة.

 

مهدي الصافي

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2104 السبت  28 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم