قضايا وآراء

(وتكلمت الحياة) رواية للاديبة علياء الانصاري (1) / علي جابر الفتلاوي

الاستاذة علياء الانصاري غنية عن التعريف فهي مثال المرأة العراقية الواعية المثقفة والنشطة خاصة في مجال حقوق المرأة  وهي مؤسس ومدير منظمة بنت الرافدين في بابل، الاخت ام زهراء علياء الانصاري، امرأة متألقة في مجالات عديدة، نتمنى لها التوفيق والسداد .

وصلت لي نسخة من روايتها الجديدة (وتكلمت الحياة) كهدية من الروائية القديرة الاخت علياء الانصاري، نشكرها على ذلك الشكر الجزيل، قرأت الرواية، تأثرت باحداثها، وشعرت ان الروائية خبيرة بسبر اغوارنفسية المرأة، للتعبير عما يدور في خاطرها من مشاعر واحاسيس، رأيت من الفائدة المداخلة وتسليط الضوء على بعض الجوانب المشرقة في الرواية، لتعم الفائدة من جهة، ولشعوري بأن الرواية جديرة بالتقدير والتقييم من وجهة نظري الشخصية، لذا ارجو المسامحة والمعذرة ان وقعت في خطأ غير مقصود،او لم اعطِ للرواية استحقاقها من التقييم، الرواية فيها نفحات روحية مؤثرة، كما انها تسلط الضوء على مفاصل مهمة من حياة المرأة العراقية، الرواية تعرض بشكل شيق وجميل ومؤثر حياة امرأة عراقية ابتداء من عائلتها التي ربيت في كنفها، الى عائلة زوجها، وعلاقات الاخرين بهذه المرأة المستسلمة لقدرها، مثل كل النساء العراقيات الاخريات .

الروائية المبدعة علياء الانصاري لم تتخلَ عن دورها كنشطة في مجال حقوق المرأة حتى وهي تكتب الرواية، فهي نشطة ايضا من خلال سرد احداث الرواية، فقد كانت بارعة وقديرة لدرجة انها تولد في نفس القارئ المشاعر والاحاسيس التي تتفاعل تماما مع احداث الرواية، وتنقلك الى عالم الرواية وتشعر كأنك تعيش مع الحدث، وهذا مؤشر على براعة الاديبة علياء الانصاري، وتدفعك الروائية باتجاه مناصرة حقوق المرأة، والانتصار لحركة التغيير للمفاهيم الخاطئة التي يحملها المجتمع عن المرأة العراقية، وفي رأيي ان هذا الهدف هو احدى الرسائل التي تريد الاستاذة علياء الانصاري ايصالها الى القراء الكرام، فهي تمارس التغيير من خلال الكتابة، ومن يقرأ الرواية لابد وان يتأثر ويراجع نفسه من اجل الاتجاه نحو المفاهيم الصحيحة حول المرأة، وهذا هو قمة الوفاء للدور الذي تقوم به الاخت ام زهراء كناشطة في مجال حقوق المرأة، لكن الملفت للانتباه ان الاديبة ام زهراء تنظر للامور نظرة واقعية، ولا تعيش في احلام الرومانسية بخصوص نظرتها لتغيير واقع المرأة نحو الافضل، فهي لا تحمّل الرجل كامل المسؤولية في النظرة المتخلفة تجاه المرأة، بل المرأة نفسها تتحمل جزءا من المسؤولية،عندما تستسلم لواقعها المزري والظالم ولا تعبّر عن رفضها لهذا الواقع حتى ولو بكلمة استنكار او احتجاج بل تلجأ الى الصمت والصمت فقط،وكذلك حينما تتصرف امرأة مع امرأة اخرى بطريقة متخلفة، حيث المرأة الاخرى تقمع وتصادر رأي وارادة المرأة المستسلمة او الصامتة، بل تصل احيانا لدرجة الحقد الاعمى حتى لوكانت اختها او امها اوقريبتها  بدافع الحسد والانانية او الجهل، وهذا ما حصل في احداث الرواية  وانا اعتبر ان النظرة المتخلفة تجاه المرأة سواء كانت من الرجل الى المرأة،اومن المرأة نفسها الى المرأة الاخرى، او من المرأة نفسها الى ذاتها، هو نتاج المجتع الذي نعيش فيه  ونعيش في ظل اجواء ثقافته ومفاهيمه المتخلفة عن المرأة .

الرواية (وتكلمت الحياة) تتكون من اربعة اقسام او مفاصل وكل قسم او مفصل له دلالاته وله رمزيته، الاول والثاني العنوان والاهداء، والثالث متن الرواية او احداثها التي نعيش  اجواءها من خلال اشخاص الرواية، اذ كل يتكلم عما في صدره ويتصرف بمقدار ما يعتقد انه صحيح، وبعض التصرفات تأتي لا عن قناعة بصحتها، بل تأتي بسبب الجهل او كنتيجة للحقد بسبب النفوس المريضة، اما القسم الرابع من الرواية فهو الخاتمة  .

نتكلم في هذه الحلقة عن العنوان والاهداء والخاتمة، هذه الاقسام الثلاثة تعود لمؤلف الرواية، اقصد انها ليست جزءا من شخصيات الرواية، فعندما نتكلم عن هذه الاقسام الثلاثة انما نتحدث مع المؤلف مباشرة، اما اشخاص الرواية انما هم نماذج اجتماعية موجودة في الواقع او هي قريبة من الواقع، ومهمة المؤلف تشخيص هذه النماذج وسبر اغوارها وتشخيص محاسنها ومساوئها، لطرحها بطريقة فنية بارعة الى المتلقي لغرض المتعة والفائدة واخذ العبرة، وهذه هي مهمة الادب والفن، وهنا تبرز مقدرة الاديب والفنان في رسم هذه الصور الاجتماعية التي تشد المتلقي اليها .

نبدأ من العنوان (وتكلمت الحياة) هو كناية عن كلام جميلة بطلة الرواية، اثناء  المسافة الزمنية المحصورة بين فراق جميلة للحياة، وبين نزولها الى القبر، خلال محطات هذه الفترة الزمنية التي تبدأ من البيت بعد ان تقضي فيه بضع ساعات وهي مسجاة في غرفتها التي احبتها كثيرا، ثم اثناء التشييع وهي محمولة في التابوت  لتنقل الى المغتسل لغرض التغسيل ولبس الكفن، والمحطة الاخيرة الانتقال الى المقبرة للنزول الى القبر  ومفارقة الدنيا بشكل نهائي ودائم، اثناء طقوس الموت هذه  تبدأ جميلة تستذكر حياتها في الدنيا والالام التي تعرضت لها، وتستذكر حالها الذي ضحت فيه بحريتها وشخصيتها وتطلعاتها، واستسلمت للصمت، وتدين واقعها الذي صادر رأيها وحريتها وامانيها،وتدين الاشخاص الذين كانوا مصدر عذاباتها وقهرها وذوبان شخصيتها .

 الروائية علياء الانصاري اعتبرت كلام جميلة بعد الموت هو كلام الحياة، وهي محقة في ذلك، ففي الحياة الدنيا تتكلم جميلة، لكن كلامها لم يكن كلام الحياة، بل كلام الذل والاستسلام والرضوخ للواقع رغم قساوته، هذا ما استوحيه انا من العنوان، واذا كانت استيحاءاتي غير متطابقة مع استيحاءات الكاتبة فاطلب العذر منها، لاني مقتنع انه ليس بالضرورة ان تتطابق استيحاءات الكاتب مع ما يستوحيه المتلقي . ارى العنوان (وتكلمت الحياة) عنوان معبر احسن تعبير عن هدف الرواية النهائي، وهو ان تتكلم بطلة الرواية جميلة عما يجيش في نفسها من مشاعر واحاسيس صادقة، عجزت ان تصرح بها وهي على قيد الحياة، التعبير عن هذه الاحاسيس في لحظات ما بعد الموت موقف ادانة كبير للواقع المأساوي الذي تعاني منه المرأة العراقية، وتجسيد لرسالة الكاتبة كنشطة في مجال حقوق المرأة بالمختصر العنوان يفصح عما كان من المفروض ان يكون، في رأيي اختيار عنوان (وتكلمت الحياة) اختيار موفق .

والان ننتقل الى الاهداء:

(الى صمتي المقدس الذي تمكن من الصمود بوجه صخب الحياة ..

والى كل الذين يجيدون الاصغاء لهمس هذا الصمت .. )

ارى ان الاهداء صرخة ادانة من الاستاذة علياء الانصاري صاحبة الرسالة الانسانية في مجال حقوق المرأة  لواقع مفروض، ولابد ان ننسب هذه الصرخة للسيدة علياء الانصاري،لان الاهداء انما يكون من المؤلف ولا علاقة لشخصيات الرواية به، فلا يمكن ان ننسب الاهداء الى شخصية من  شخصيات الرواية، بل هو كلام الروائية الاستاذة علياء، هذه الصرخة استوحيها من خلال كلمات الاهداء التي ترسم فيها واقعا مفروضا على المرأة، وسبق ان نوهت ان المتلقي حر في استيحاءاته من الاثر الادبي او الفني  واحيانا يختلف الاستيحاء بأختلاف الزمان والمكان .

الاهداء بشكل عام تعبير عن واقع المرأة العراقية المفروض عليها بحكم البيئة والتقاليد الاجتماعية، فالمرأة ان ارادت العيش بسلام، لابد وان تعيش طائعة مستسلمة صامتة، كما عاشت جميلة بطلة الرواية وخضعت رغما عنها لارادة العائلة (امها) في احرج موقف تعرضت له، وخضعت لارادة الزوج رعد وخضعت للتقاليد والبروتوكولات الاجتماعية، هكذا تعيش نساؤنا في مجتمعنا  اسيرة التقاليد الاجتماعية، التي يكتسب البعض منها صفة القداسة لتغليفها بالدين يتخيل البعض من الرجال ان هذه التقاليد مقدسة لأن الدين امر بها، المجتمع يصادرحقوق المرأة الانسان بذرائع شتى، الرجال والمجتمع يريدون من المرأة  ان تصمت وتقول نعم في كل الاحوال، والّا فهي امرأة نشاز او ناشز، الله تعالى يريد من المرأة ان تكون طائعة مستسلمة،هكذا يقول الرجال، لكن حاشا لله تعالى ان يريد للمرأة الانسان ان تكون آلة عمياء بيد الرجل، محنطةً لعقلها وفكرها وعواطفها وامانيها وانسانيتها .

 الاهداء ينبض بكلمات ترتبط الواحدة بالاخرى في نسيج خاص يوحي بالصورة المشوهة للمرأة، الروائية القديرة الاخت ام زهراء اعتبرت صمت المرأة مقدسا، انا استوحي من الكلمات المعنى السلبي للقداسة، صمت المرأة وعدم قدرتها للتعبير عن نفسها من اجل هدف اخر، وهو ان تعيش بسلام مع محيطها، فهي تصمت من اجل سلامتها، كي تعيش بعيدة عن المشاكل، تبيع حريتها وكرامتها وتطلعاتها واحيانا عفتها، من اجل ان تعيش مع الاخرين بسلام، هذا الصمت الذي يؤمن لها ان تعيش بسلام حتى وان كانت بعيدة عن السعادة، هو مقدس بالنسبة لها  لانه يؤّمن لها العيش من دون مشاكل مع الاخرين .

  وهو مقدس ايضا بالنسبة للاخرين، فصمت البنت عند اهلها هو مقدس بالنسبة اليهم عندما تستسلم لارادتهم، ولا تبدي رأيها في شئ حتى وان كان متعلقا بمستقبلها كأختيار الزوج مثلا، وهو مقدس ايضا عند الزوج في حالة ان تكون صامتة لاي تصرف يقوم به زوجها، حتى اقامة العلاقات العاطفية مع الاخريات، والّا فهي ناشز، وغير مطيعة لزوجها، وفي كثير من المواقف التي تُصادر فيها حرية المرأة انما تصادر باسم الدين، والدين من هذه التصرفات التي تصادر رأي وحرية وكرامة المرأة براء لان ديننا دين الانسانية، دين الانسان سواء كان رجلا او امرأة .

في رأيي وصف الصمت بانه مقدس، هو تعبير عن رفض الروائية علياء الانصاري لهذا الصمت من جهتيه، وادانة له، من جهة ان تفرضه المرأة على نفسها دفعا للمشاكل، ومن جهة فرضه من الاخرين على المرأة تلبية لرغباتهم،وبما انه صمت اذن لا يوجد صخب، بل يوجد همس وهذا الهمس هو المطلوب من الاخرين، لانه يعجبهم ويلبي رغباتهم، ضاربين برغبات المرأة الصامتة عرض الحائط .

ارى الاهداء جيد وموفق، وفيه رمزية وأيحاءات ذات فائدة للمرأة والرجل والمجتمع.

ولنا الان وقفة قصيرة مع الخاتمة، الخاتمة بدأت بكلام هو جزء من احداث الرواية وهذا امر لم توفق فيه الكاتبة حسب رأيي، لان كلام الخاتمة اقصد خاتمة أي كتاب يعود الكلام فيه للمؤلف أي لاختيار المؤلف فهو كما يختار العنوان والاهداء ويختار كلام المقدمة ان وجدت يختار كذلك كلام الخاتمة،وهنا الاخت ام زهراءجعلت كلام الخاتمة جزءا من احداث الرواية اذ تقول (عندما اقبلوا ليزوروا قبرها ضمن مراسم الاربعين التي تعارف عليها الناس جزءا من طقوس الموت ...) هذا الكلام يجب ان ينسب لاحدى شخصيات الرواية، وليس للسيدة الكاتبة،انها جعلت نفسها بهذا الكلام أحدى شخصيات الرواية، وهذا في رأيي لا يجوز، نعم يمكن ان تتكلم الكاتبة بكلام لكن غير هذا الذي هو جزء من احداث الرواية، انها جعلت كلمة (الخاتمة) كأنها شخصية من شخصيات الرواية، مثل شخصية جميلة او رعد او مصطفى او صفية او الحفار ...  الخ، بالامكان نسبة هذا الكلام الى الحفار مثلا، ونجعل الحفار كعنوان بديل للخاتمة، امام الاديبة البارعة سبيلين للتصحيح حسب رأيي، اما ان تبدل كلمة الخاتمة باحد اسماء شخصيات الرواية المناسبة لكلام الخاتمة، او ان تبقي كلمة الخاتمة، وتبدل كلامها بحيث يشعر المتلقي ان المؤلفة هي التي تتكلم وليس شخصية من شخصيات الرواية اسمها (الخاتمة)، نعم جعلت الخاتمة وكأنها شخصية من شخصيات الرواية الرائعة، انبّه ايضا الى وجود بعض الاخطاء الاملائية والنحوية التي يمكن تلافيها وفي تقديري انها جاءت سهوا او بسبب الطبع .

اخيرا اشكرالاخت الاديبة المبدعة والقديرة ام زهراء علياء الانصاري على جهودها لخدمة المرأة اولا ولخدمة الحركة الادبية الصاعدة في العراق ثانيا، واتمنى لها المزيد من الابداع  لتتحفنا برواياتها الرائعة والمؤثرة والمفيدة، والى ان نلتقي مرة اخرى في الحلقة الثانية لنعيش مع شخصيات الرواية نودعكم بالسلامة، ونتمنى للاخت الاديبة القديرة علياء الانصاري النجاح والتوفيق والسداد مرة اخرى،

 

    علي جابر الفتلاوي 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2105 الأحد  29 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم