قضايا وآراء

الأساس القانوني لمقاضاة تركيا وإيران دفاعاً عن الرافدين قبل زوالهما / علاء اللامي

وجزئيا بواسطة المشاريع الإيرانية لقطع وتحويل روافد نهر دجلة، ومع تمادي الجانب التركي و تنصله عمليا من اتفاقية سنة 1947 مع العراق، و رفضه التوقيع على أية معاهدة أو اتفاقية جديدة أو بديلة تتضمن تقسيما عادلا ومتفقا عليه لمياه النهرين، بات من العاجل والمصيري أن يبادر الحكم العراقي، رغم تحفظاتنا على طبيعته السياسية، وتحالفاته الخارجية، إلى تدويل هذا الملف و رفعه إلى الأمم المتحدة وإلى محكمة العدل الدولية وإلى المحكمة الجنائية الدولية. يمكن للعراق أيضا، أن يطالب الهيئة الأممية بالإشراف المباشر والعملي على هذا الملف المهم، من خلال إرسال بعثة فنية رسمية دائمة إلى العراق لمتابعة التطورات الخطيرة على الأرض والتي تنبئ عن بلوغ حالة الكارثة الوطنية الشاملة. نقول إن الأمر بات من العاجل والمصيري، لأن حالة النهرين والجغرافيا العراقية بشكل عام، وباعتراف منظمات دولية ومستقلة، دخلت  مرحلة الخطر الشديد. فالمنظمة الدولية للأبحاث، أكدت في تقرير لها صدر بمناسبة اليوم العالمي للمياه قبل بضعة أشهر، أنّ "جفاف نهر دجلة وتلاشيه بالكامل سيحل في العام 2040، فالنهر يفقد سنوياً ما يعادل 33 مليار متر مكعب من مياهه، بسبب السياسة المائية التركية الحالية، بالتالي فإنّ العراق، في حال عدم تمكنه من إبرام اتفاقات دولية تضمن حصصه المائية بشكل كامل، مقبل على كارثة حقيقية". إضافة الى تقارير أخرى نسبت الى اليونسكو واليونسيف وغيرهما تؤكد المغزى المأساوي ذاته.

 إن تدويل قضية الرافدين لا ينبغي أن يقتصر على رفع هذا الملف الى الأمم المتحدة وتوثيق مفرادت الحالة المأساوية الراهنة على الأرض، بل تنبغي دراسة إمكانية مقاضاة تركيا بوصفها المتسبب الأكبر في الكارثة  لدى  محكمة العدل الدولية، فهل هذا ممكن؟

 من المتوقع أن تركيا، سترفض المثول أمام هذه المحكمة الدولية لأنها سبق وأن رفضت التوقيع على الاتفاقية التي أشرفت عليها الأمم لمتحدة في التسعينات من القرن الماضي والتي تدعى "اتفاقية الأنهار غير الملاحية" حول تقاسم المياه،  والتي تعتمدها محكمة العدل الدولية كمرجعية قانونية لها ضمن ما تعتمد من مرجعيات أخرى. والواقع فإن النظام الأساسي للمحكمة يشترط لتحقيق ما يسمى "اختصاص الإلزام الأساسي" اعتماد أحد الأساليب التي نصت عليها المادتين 36 و 37 للتعبير عن إرادة الدولة باللجوء إلى المحكمة من أجل منازعاتها القانونية بواحد من الأساليب الثلاثة التالية: الاتفاقات الخاصة، أو التعهد المسبق، أو التصريح الاختياري. وهذه الأساليب لا تجدي نفعا هنا، فتركيا و إيران سترفضان المثول أمام المحكمة لمعرفتهما المسبقة بأنهما مدانتان.

وعلى افتراض رفض تركيا و ربما إيران الموافقة على التقاضي أمام محكمة العدل الدولية بموجب اختصاص المحكمة الإلزامي، فإن الأمر لا يعتبر منتهيا، إذْ ثمة ما يسمى الاختصاص الاستشاري لمحكمة العدل الدولي وبموجبه تختص محكمة العدل الدولية، إضافة إلى اختصاصها القضائي، باختصاص استشاري عبر إصدار آراء استشارية حول المسائل القانونية التي تحيلها إليها الهيئات المفوَّضة بمثل هذه الإحالة بموجب المادة " 96 " من ميثاق الأمم المتحدة وهي الجمعية العامة أو مجلس الأمن أو الوكالات المتخصصة المرتبطة بها. وبموجب هذا الخيار، وبعد أن يرفع العراق دعوى ضد تركيا أو إيران أو كليهما، تتذاكر المحكمة في جلسة سريّة ثم تصدر رأيها في جلسة علنية بعد إخطار الأمين العام وممثلي الأمم المتحدة وسائر الدول والمؤسسات الدولية ذات العلاقة المباشرة بالمسألة المطروحة على بساط البحث. ولها أن تطلب إلى بعض هذه المراجع المعلومات التي تلزمها في إبداء رأيها. والحقيقة، فلن يكون رأيها أو حكمها ملزماً إذا لم يرد نص صريح على ذلك، أما من الناحية الأدبية والمعنوية فإن لهذا الرأي دائماً وزنه الدولي الذي يفرض على المرجع الذي استفتى المحكمة بنوع خاص وعلى كل الدول المعنية بالأمر ضرورة مراعاته.

إضافة إلى ذلك، يسمح النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، في حال رفضت الدول المدعى عليها الإذعان للحكم أو الرأي الاستشاري، للطرف المدعي، وهو العراق، بالتوجه إلى مجلس الأمن الدولي واستصدار قرار منه يزيل الضرر الذي ألحقه به الطرف الرافض لحكم  محكمة العدل الدولية، وسيكون العراق عندها مزودا بحكم أو رأي استشاري دولي ناجز يسهل له مهمته كثيرا ويضيق الخناق على الطرف المعتدي. هذا بخصوص خيار محكمة العدل الدولية، فماذا بخصوص المحكمة الجنائية الدولية وماذا عن صلاحياتها وشروطها؟

تأسست المحكمة الجنائية الدولية سنة 2002 كأول محكمة شكلت على أساس ميثاق روما العالمي، و بلغ عدد الدول الموقعة على قانون إنشاء المحكمة 105 دول حتى تشرين الثاني نوفمبر 2007، وقد وقعت 41 دولة أخرى على قانون روما لكنها لم تصادق عليه بعد.

إنها محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والاعتداء، وهي تختلف عن محكمة العدل الدولية لأنها لا تشترط وجود موافقة مسبقة من قبل الطرف المدعى عليه، بل يكفي أن ترفع جهة في الدولة المدعية، فردا أو منظمة مدنية، أو محكمة محلية فيها الدعوى إلى المحكمة الجنائية الدولية. ومن الطبيعي أن تدخل جريمة تجفيف نهري دجلة والفرات وما سيترتب عليها من أضرار فادحة وإبادة للبشر والحيوان والنبات ضمن باب جرائم الاعتداء التي يتحمل مسؤوليتها الأفراد الحاكمين وأصحاب القرار في الحكومتين التركية والإيرانية. إن جريمة الاعتداء الواردة في القانون الأساسي للمحكمة غير محددة بدقة ولهذا فهي يمكن أن تشمل تشكيلة واسعة من نماذج الاعتداءات كقطع المياه عن دول المصب بواسطة السدود العملاقة أو تهديد سلامة الشعوب خصوصا وأن جميع السدود التركية مشيدة في مناطق زلزالية نشيطة وأن انهيار أي منها يهدد بتدمير أغلب مدن إقليم كردستان العراق مثلما أكدت دراسات وتقارير عديدة .

إن موقف النظام الحاكم في العراق، والذي أقيم خلال فترة الاحتلال، من  التوقيع على ميثاق روما والذي قد لا يفيد دولة أخرى مثلما يفيد العراق هو غريب ومستنكَر حقا. فالعراق، في عهد حكومة الاحتلال الأولى برئاسة إياد علاوي، كان قد وقع فعلا على ميثاق روما لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية ولكنه سحب توقيعه بعد أيام قليلة. بهذا الشأن، يكتب الباحث العراقي في الشؤون القانونية، د. أكرم عبد الرزاق المشهداني ما يلي " لم يكد يمض على صدور قرار حكومة السيد أياد علاوي بضعة أيام، حتى أعلنت تراجعها عن قرار الانضمام إلى اتفاقية روما بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية نتيجة ضغوط لم يعلن رسميا عن مصدرها لكنها معلومة من قبل من يعرفون موقف الولايات المتحدة من اتفاقية إنشاء المحكمة المذكورة).

ونرجح أن السبب الأول هو الضغط الأمريكي والإسرائيلي على حكومة علاوي سيَّما وإن الدولتين، أمريكا وإسرائيل، كانتا قد سحبتا توقيعيهما  على ذلك الميثاق، وليس من "المنطقي" أن تتمرد حكومة تابعة لأمريكا على أميركا. اما السبب الثاني فنرجح أنه يتعلق بتورط علاوي وأركان حكومته آنذاك في قمع وتدمير  مدينتي الفلوجة والنجف خلال انتفاضات سنوات الاحتلال الأولى، وبمخاوفه من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية  بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

بالعودة إلى تعريف المحكمة الجنائية الدولية نجد انها تعمل على استكمال عمل الأجهزة القضائية الموجودة، فهي لا تستطيع أن تقوم بدورها القضائي ما لم تبدِ المحاكم الوطنية رغبتها في ذلك أو تعلن إنها غير قادرة على التحقيق. ويشترط الخبير القانوني الدولي "فانسون شيتا " لعمل المحكمة أن تستلم طلبا رسميا، إما من قبل بلد عضو في ميثاق روما، أو من قبل مجلس الأمن الدولي، أو بمبادرة من المدعي العام للمحكمة إذا توفرت الشروط والدلائل التي تثبت حدوث الجرائم المراد النظر فيها.

وبمراجعة النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، نتعرف على مفهوم ومصطلح جريمة الإبادة الجماعية، فهي تعني عددا من الأفعال إذا ارتكبت بقصد إهلاك جماعة قومية أو ثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، إهلاكا كلياً أو جزئياً. 

ويمكن بالتأكيد اعتبار جريمة تجفيف الرافدين وتصحير العراق وتدمير الزراعة وإحداث مجاعة فيه ضمن مشمولات البند الثالث، والقائل "إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية بقصد إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً". كما يمكن اعتبارها ضمن مشمولات البند العاشر من الأفعال التي يشملها مفهوم ومصطلح "الجرائم ضد الإنسانية" أيضا، ويقول النص الحرفي لهذا البند " الأفعال اللا إنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمداً في معاناة شديدة أو أي آذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية".

أما سحب العراق لتوقيعه على ميثاق روما في عهد حكومة علاوي فهو ليست مشكلة كبيرة، و يمكن، بل وينبغي للحكومة العراقية الحالية ان تبادر فورا ودون إبطاء إلى التوقيع على الميثاق المذكور، وتطرحه على البرلمان للمصادقة عليه بشكل عاجل، إذ أن عملية التوقيع أو سحب التوقيع على الميثاق أمران مفتوحان. إضافة إلى ذلك فالعراق يمكنه رفع دعوى عن طريق دولة أخرى عضو آخر في ميثاق روما دفاعا عن أنهاره وعن وجوده الكياني وشعبه ويمكنه أيضا التسلح بحجة قانونية مؤثرة هي تنصل تركيا من اتفاقية 1947 "لحسن الجوار" مع العراق التي تشترط عليها التشاور المسبق معه وتزويده بكل المعلومات عن مشاريعه المائية كالسدود الأمر الذي توقفت عن فعله منذ السبعينات.

إن الوقت ينفذ بسرعة ولا مجال لتفادي الكارثة إنْ وقعت خلال عقدين من السنوات وصارت بلاد الرافدين بلا رافدين!

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2106 الأثنين  30 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم