قضايا وآراء

السياسة والتاريخ والمستقبل .. اشتباك / رحيم الساعدي

وتهتم فئات الحكام بأنواعها المتعددة المتنوعة كثيرا بالغد والمستقبل ؛ لأن مصايرهم ترتبط بذلك المستقبل، وهذا على خلاف ما يتوقعه المرء، لأن البحث عن المستقبليات كان يتوجب ان يكون شأنا للفلاسفة والمفكرين، لا الحكام فقط وإن حصل أن الحكام أرادوا معرفة المستقبل فان عليهم الرجوع للمفكرين كما يحصل اليوم الا انهم اتجهوا الى المنجمين لأن هؤلاء يقدمون نتائج واضحة ومميزة وقطعية ولأنهم عمليون لا يتكلمون كثيرا كما يفعل الفلاسفة بالإضافة الى أنهم لا يتمردون وبالإمكان تطويعهم ليصبحوا جزء من حاشية الحكام، وهذا ما لم يحصل بشكل مباشر مع الفلاسفة، نعم كان الحكام يستحوذون على الفلاسفة ولكن من أجل تقوية صورتهم المعنوية أو جمع العدد الأكبر من المفكرين وهي أشبه بالديكور الخاص بالممالك والدول، ولم ينتبه الحكام على ملكات استنباط الفكر المستقبلي لدى الفلاسفة، بل ان الفلاسفة لم يغامروا بعلم جديد يستشرف القادم من الأحداث خصوصا في السياسة، أي لم يشرعوا بما له إمكانية السيطرة على الغد لخوفهم ربما من ردة الفعل الديني التي تعد هذه الأفعال تدخلا في القضاء والقدر أو لعدم امتلاك الوسائل المساعدة لفهم المستقبل أو لانشغالهم بعلوم أكثر جاذبية وعملية كما في الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، الا أن هذا الطوق انفك جزئيا مع تطور الفكر السياسي وتطور السلطان والملك وكان منهم الكثير من الفلاسفة و إخوان الصفا وصاحب الأحكام السلطانية الماوردي بالإضافة الى جهد ابن خلدون .

وضع ابن خلدون قواعد الطريقة التاريخية وهو يرى أن الأغلاط التي وقع بها السابقون ترجع الى أسباب أهمها التصديق لكل ما يرى دون فحص و جهلهم بطبائع العمران وأحوال الناس بالإضافة الى عدم ربط الحوادث بعضها ببعض كارتباط العلة بالمعلول وقياس الماضي بالحاضر ومراعاة البيئة واختلاف تأثيرها باختلاف الأقاليم والحالة الاقتصادية والوراثية ([1]).

وهي قواعد احترازية تعمل على قياس التاريخ لأخذ العبرة للمستقبل، والعمل على وفق آلية رصد مستقبل الدولة وتجنب الإخفاقات، فالبناء الذي اعتمده ابن خلدون (الذي استند على أفكار إخوان الصفا )([2]) بالنسبة الى العمران وفلسفة التاريخ وتلافي أخطاء الدول والحضارات هو بناء أريد منه التنظير لمستقبل الدولة بالاعتماد على فلسفة التاريخ وسقوط الدول .

ان فلسفة التاريخ عند ابن خلدون انما تتناول محاور فضل علم التاريخ، طبيعة العمران، العمران البشري واختلاف أحواله و الاعتدال والانحراف في الأقاليم بالإضافة إلى حقيقة النبوة والكهانة والرؤية ومعرفة الطبيعة النفسية للأمم والملوك و نظريات الحكم ....الخ. ([3])، وهي أفكار تقترب بشكل كبير من الهدف الرئيس الذي تقوم عليه الدراسات المستقبلية اليوم فهي تتناول البيئة وسير العمل السياسي وجمع المعلومات وقياسها وتحليلها للتغلب على العوائق المستقبلية، بالإضافة الى وضع الفروض المحتملة للسيطرة على الأحداث .

والدراسات المستقبلية والسياسية اليوم لا تهمل المعلومة التاريخية أو فلسفة التاريخ لأن للأخير سمة اكتشاف الماضي وتحليله أما العلم المستقبلي فسمته اكتشاف المستقبل وتحليله، ومع ان المستقبل يعتمد الفرض والتخمين الدقيق أحيانا الا ان التطور التكنولوجي ساعد على أن تكون النتائج مثمرة .

الا أننا لا نعد الجهد الذي قام به المشتغلون بفلسفة التاريخ الإسلامية أو ما قام به فلاسفة السياسة الإسلاميون بالجهد أو الدراسة المستقبلية مع انها تعمل على صياغة نظريات أو آراء تتضمن أبعادا لها علاقة بالمستقبل وتعديل المسار المتعلق بالجانبين العملي والنظري سواء الفكري، الاجتماعي، التربوي أم السياسي والعقائدي، والسبب يكمن في عدم وجود غاية منشودة وتكثيف فكري وعلمي من قبل الفلاسفة الإسلاميين ليخص به المستقبل، كما انه لا يوجد مصطلح متداول يخص الفكر المستقبلي، ومع هذا فالأفكار التي بحثت تنم على وجود اهتمام ضمني يراد منه تعديل بعض النتائج السياسية بشكل خاص ولهذا فالأحكام السلطانية التي يضعها بعض المشتغلين بالفكر السلطاني أو الفكر الملكي – المنظرين للتعامل مع السلطان أو الملوك – تتبنى آراء باحثين إسلاميين يتبنون آراء استباقية تخص الحكم والسلطان والدولة يؤمنون بانها الحل المقترح لأزمة ما، وهذا ما يعد استشرافا للقضايا السياسية .

ولا يخفى أن فلسفة التاريخ أو العمران التي نهض بها فلاسفة الإسلام قد خطت أسسا تعد غاية في الأهمية، فالقواعد التي ثبتت تفسر الخطوات المستقبلية الدائمة التي تسير عليها الدول والحضارات كما أن تمايلات الدولة ترتبط بشكل أو آخر بالطبيعة الإنسانية والسلوك الخاص والعام (العصبية الإنسانية – والعصبية العامة) ومع انه تنظير بني على أساس غرائزي، انفعالي و توجيهي، أي ان ابن خلدون أراد القول، بان على من أراد بناء الدولة والحضارة عليه الاستناد على هذه الأفكار التي أراها ناجحة ومنها العصبية، الا انه بشكله العام يؤسس للتحذير من الغد والاستعداد له ويحاول رسم خريطة لكشف ملامحه .



[1] - د.قدري حافظ طوقان ، مقام العقل عند العرب ،دار القدس، بيروت ، ص190.

[2] - حول هذا الموضوع انظر د.محمود إسماعيل ،نهاية أسطورة (نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل إخوان الصفا)،دار قباء ،القاهرة ، انظر ص59-162 لنماذج من النصوص التي اقتبسها ابن خلدون من إخوان الصفا.

[3] - حول آراء ابن خلدون راجع د.مصطفى الشكعة ،الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ، ونظرياته ،الدار المصرية اللبنانية ،ط3،1413هـ-1992م .

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2117 الجمعة  11 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم