تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

الكوزمولوجيا والفيزياء الفلكية والبحث عن مكونات الكون المرئي / جواد بشارة

في لا وعيه بين تأثير هذا المجال العلمي وتبعاته الخطيرة على البنى السياسية والعسكرية في العالم ويتناسى أو يغفل عن دور الفيزياء المعاصرة في تحقيق المنجزات العلمية والتكنولوجية المعاصرة مثل نظام تحديد العناوين والرصد بواسطة الأقمار الصناعية GPS والقنوات التلفزيونية الفضائية والانترنيت والهاتف المحمول والحاسوب المتطور، أي في المجالات الصناعية والتكنولوجية. بيد أن الغالبية العظمى من الناس ما تزال غارقة في نمط التفكير والعقلية التقليدية التي لا تتقبل بسهولة الأفكار الجديدة المبنية على الحقائق والاكتشافات العلمية التي تنجزها العلوم الطبيعية اليوم، لا سيما في البلدان التي يهيمن عليها نمط التفكير الديني  الثيولوجي والأفكار الفلسفية الكلاسيكية والتقاليد والأعراف الاجتماعية  والتفكير الجمعي المحلي. والحال أن الفيزياء المعاصر تتعاطى مع مفاهيم جوهرية مثل فكرة الواقع وحقيقة الزمان والمكان، مما يمكن أن يقودنا إلى مواجهة بين أفقين متمايزين، التقليدي المتشبث بالماضي، من جهة، والمعاصر المتطلع إلى المستقبل، من جهة أخرى.

أعتقد أن أفضل طريقة لمعالجة مشاكل  الفيزياء المعاصرة، وعلى رأسها الفيزياء الفلكية والكوزمولوجيا، تتمثل في عرض تاريخ المسالك التي اتخذتها النظريات الفيزيائية، وأهمها نظرية النسبية لآينشتين ونظرية الكم أو الكوانتا، التي وضع اساسها بلانك في السنة الأولى من القرن المنصرم، القرن العشرين. ومن الجدير بالقول أن ميكانيك الكم أو الكوانتا ، رغم كونه لايمثل سوى جزء صغير جداً من العلم الحديث،  هو الذي أنتج التغيرات الأكثر عمقاً وجوهرية، وبفضله تطورت الفيزياء النووية بشقيها المدني والعسكري استناداً إلى تجهيزات ومعدات مختبرية غاية في الدقة والتعقيد والكلفة، تتطلبها الأبحاث في مجال الفيزياء النووية  والفلكية. بيد أن العلماء لايستطيعون مخاطبة الجمهور العريض بلغة العلم الجافة المليئة بالمعادلات الرياضية والتخاطب بالمصطلحات  والمفاهيم العلمية البحتة، فهم مرغمون على التبسيط والتحدث بلغة مفهومة يستوعبها العامة تتناول مداركهم للحياة والواقع المتخمة بالمعتقدات الروحية والدينية الغيبية والباحثة عن الأصل والعلة الأولى.

الأمر الذي بات جلياً اليوم هو أن الكون المرئي بدا أكثر غرابة وغموضاً أكثر فأكثر كلما تقدم العلم في مجال علم الكونيات وكشف حقائق جديدة تستدعي مراجعة جوهرية كاملة لتصوراتنا ومفاهيمنا عن الكون. خاصة فيما يتعلق بالمادة السوداء matière noire والطاقة المعتمة énergie sombre حيث ماتزال ماهية كل منهما مجهولة رغم دورهما الجوهري في عمل الكون وصيرورته واستمراره في البقاء. فالمادة المجهولة في الكون تشكل نسبة 85% بالمائة من مكونات مجرتنا درب التبانة على سبيل المثال وهي نفس النسبة تقريباً في باقي مجرات الكون المرئي أي أن المادة المرئية تمثل 15% من مكونات كوننا المرئي. كرست عالم الفلك الأمريكية فيرا روبن Vera Rubin حياتها لمراقبة مجرة آندروميدا Andromède الأقرب إلى مجرتنا درب التبانة La Voie lactée  بعد أن قدمت أطروحتها للدكتوراه عن توزع المجرات في الكون المرئي سنة 1955 وماتزال إلى يومنا هذا وهي في عمر 83 عاماً من أجل تفسير ظاهرة شخصتها عبر سنوات طويلة من الرصد والمشاهدة والتصوير منذ سنة 1967 إلى يومنا هذا حيث لاحظت هذه العالمة أن مجرة آندروميدا لا تتنقل وفق ما يفرضه قانون الجاذبية أو الثقالة la loi de la gravitation فالمنطق يقول لنا أن السرعة التي تدور فيها النجوم حول مركز مجرة ما يتناقص حسب  المسافة التي تفصلها عن المركز كما  هو الحال مع كواكب نظامنا الشمسي لأن قوة الجاذبية أو الثقالة بين جسمين تنقص كلما ازدادت المسافة بينهما. بعبارة أخرى إن تجمع النجوم الكثيف في مركز مجرة ما يمارس قوة ثقالة أضعف على النجوم البعيدة المتواجدة في أطراف المجرة مما يعني أن سرعات تلك النجوم يجب أن تكون أبطأ من سرعات النجوم القريبة من المركز. والحال أن ما شاهدته ورصدته فيرا روبن في مجرة آندروميدا مختلف عن هذه البديهية النظرية، فالنجوم الواقعة في أقصى أطراف مجرة آندروميدا تدور بسرعات هائلة لا تقل سرعة عن النجوم الواقعة في مركز المجرة كما لو أنها تخضع لقوة ثقالية أخرى . ولتوضيح سر هذا اللغز استخدمت العالم الأمريكية المذكورة جهزاً متطوراً صممه زميلها العالم كنت فورد Kent Ford وهو سبكترومتر spectromètre فائق الحساسية والدقة قادر على تحليل كافة مناطق المجرة وبدفة لا متناهية وذلك من خلال تكثيف الإشعاعات الضوئية الكترونياً مهما كانت ضعيفة. ومن ثم يقوم الجهاز بتفكيك تلك الإشعاعات الضوئية إلى طيف لوني spectre de couleurs يسمح بحساب وقياس سرعات النجوم أياً كان موقعها حيث كلما ابتعد النجم عنا مالت أشعته إلى اللون الأحمر أكثر فأكثر. وبفضل المعطيات التي تجمعت لدى العلماء توصلوا إلى حساب الكتلة الضرورية اللازمة لمجموعة امن النجوم لنشر هذه القوة الجاذبة الهائلة force d’attraction وجاءت النتائج مذهلة ومحيرة وغير متوقعة إذ صار يتوجب على مجرة آندروميدا أن تحتوي على عشرة اضعاف ما لديها من مادة أكثر مما أظهرته الصورة المسجلة من جراء الرصد والمشاهدة ، من هنا اقترح بعض العلماء فرضية وجود مادة غامضة ومجهولة وغير مرئية تخرج عن نطاق الرصد والمراقبة هي التي تشكل 85% من محتويات مجرة آندروميدا وقد سميت هذه الأخيرة بالمادة السوداء matière noire  أو المادة الداكنة أو المعتمة matière sombre ويقابلها بالانجليزية Dark matter وهناك من يسميها المادة الخفية أو غير المرئية matière invisible. وإلى جانب لغز المادة السوداء جاء لغز غامض آخر طرح تحدياً إضافياً على علماء الفيزياء وأرغمهم على مراجعة نظرياتهم. ففي سنة 1998 اكتشف فريقان من العلماء حقيقة علمية هزت أركان المسلمات العلمية السائدة حتى ذلك التاريخ. من خلال دراسة انفجار النجوم البعيدة، ومشروع دراسة الانفجار السعاري السوبر نوفا Supernova Cosmology Project الذي قادده عالم الكونيات ساول بيرلموترSaul Perlmutter، وبحث العالم آدام رايس Adam Riess حول السوبر نوفا High-Z Supernovae Search Team ، تم الاستنتاج العلمي القائل بأن أن تمدد وتوسع الكون l’expansion de l’univers تسارع accélérée خلال الخمسة مليارات الأخيرة من عمره الكون المرئي، وهو الاكتشاف الذي أدى إلى منح العالمين الأمريكين المذكورين جائزة نوبل في الفيزياء سنة 2011. إن هذا التنامي المفاجيء للكون أرغم العلماء على  إعادة النظر بش|أن ما يعرفوه عن مكوناته. فلا يمكن تفسير مثل هذا التسارع إلا بإدخال عامل جديد nouveau facteur لم يكن معروفاً من قبل وهو عبارة عن قوة غامضة force mystérieuse أعطاها العلماء إسم الطاقة السوداء أو المعتمة  énergie noire ou sombre وبالانجليزية Dark energy  وهي لاتقل غموضاً عن قرينتها  المادة السوداء في طبيعة ماهيتها، واعتبروها المسؤولة الأولى عن التمدد والتوسع المذهل للكون المرئي حتى لو كانوا مايزالون يجهلون أين تختفي هذه الطاقة الغامضة ومن أين جاءت حيث ثبت بالحسابات النظرية أن هذه الطاقة تمثل ثلاثة أرباع الطاقة الموجودة في الكون وإن الربع الأخير موجود على شكل مادة وفق معادلة آينشتين الشهيرة الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربع سرعة الضوء C2 E=M إذ أن المادة ليست سوى شكل من أشكال الطاقة  ويبقى لغز المادة السوداء والطاقة السوداء قائماً إلى أجل غير مسمى ويأتي بعده اللغز الأهم في الكون المرئي ألا وهو لغز الزمان الذي عالجناه في دراسة مستقلة .

لو عدنا لنسبية آينشتين من حقنا أن نتساءل ماذا تخفي معادلة آينشتين الشهيرة C2 E=M؟ من المعروف الجسيمات particules élémentaires الأولية ولدت من الطاقة الأصلية البدئية  énergie des origines وبالتالي فإن العكس ممكن أيضاً أي أن تولد الطاقة من الجسيمات الأولية، أي يمكن للمادة أن تصبح طاقة، حسب إكتشاف آينشتينEinstein  بأن الكتلة ليست سوى شكل جامد للطاقة وقد ترجم ذلك رياضياً بالمعادلة الشهيرة أعلاه. ويعتبر ما قدمه أينشتين أهم اكتشاف علمي في القرن العشرين بعد جعد عسير على معادلات نظرية النسبية théorie de la relativité . وقد توصل آينشتين إلى حقيقة علمية تمثلت بتثبيت سرعة الضوء بـ 299 792 458 متر في الثانية أو 300000 كلم في الثانية تقريباً وهي سرعة ثابتة في مكان ولا يمكن لأي جسم أن يسير بسرعة أسرع من سرعة الضوء. هذا يعني أن لكل جسم كتلة M يعبر عنها بالكيلوات kilos يناسبه كمية من الطاقة E يعبر عنها بالجول jouls  أي وحدة قياس الطاقة، ولمعرفة كمية هذه الطاقة الناجمة تضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء C وهذا يعني أن المادة ليست سوى شكل من أشكال الطاقة المكثفة جداً. وفي سنة 1933 توصل عالمان فرنسيان إلى تطبيقات عملية ـ مختبرية لهذه المعادلة الرياضية أثناء انكبابهما على تجارب على الفوتونات ذات الطاقة العالية، في مجال إشعاعات غاما rayons gamma، إرين كوري Irène Curie وفردريك جوليو Frédéric Joliot حيث شاهدا كيف يتحول فوتون ذو طاقة قحة إلى زوجين من الجسيمات المادية أي إلكترون وإلكترون مضاد أو بوزيترون électron – positron يبتعدان أحدهما عن الآخر بسرعة عالية. وهو الأمر الذي حدث مباشرة بعد الانفجار العظيم Big Bang حيث ولدت من الإشعاعات الأولية الأصلية الجسيمات المادية الأولية التأسيسية للكون المرئي من مجرات ونجوم وكواكب.

سبق لعالم فرنسي آخر ولكن في القرن الثامن عشر وهو العالم الكيميائي أنطوان دو لافوازيه Antoine de Lavoisier أن صاغ ما بات فيما بعد بديهية علمية لاشيء يفنى ولا شيء يستحدث أو يخلق من العدم بل كل شيء يتحول من شكل إلى آخر " rien ne se perd, rien ne se crée, tout se transforme ، وبناءاً على ذلك فإن الطاقة والمادة في الكون وجهين لعملة واحدة أو شكلين مختلفين لنفس المقدار الفيزيائي . وفي القرن العشرين أصبح من الممكن نسبياً استغلال مصدر الطاقة. وفي سنة 1942، وعلى إثر اكتشاف طريقة الانشطار أو الانفلاق النووي fission nucléaire، حيث تم إنشاء أول مفاعل نووي حيث يتم قصف نوى أو نويات اليورانيوم الثقيل noyaux d’uranium lourd بنيوترونات وفلقها إلى نويات أو نوى أخف. وإن الكتل المجمعة أوالمضافة إلى بعضها البعض والناجمة تلك النوى أو النويات الجديدة هي أخف بقليل من كتل النوى أو النويات الأصلية . وإن الكتلة المفقودة المحررة على شكل طاقة أثناء عملية الفلق أو الانشطار النووي هي التي سيسترجعها أو يستغلها العلماء فيما بعد لغايات مدنية وعسكرية. في بعض المفاعلات النووية يتم السيطرة على عملية الانشطار النووي هذه لكنها في القنبلة النووية تتم الظاهرة بصيغة تفجيرية هائلة. وهناك ما هو أقوى من الانشطار النووي fission ألا وهو الاندماج النووي fusion nucléaire الذي يسمح بالحصول على كمية هائلة من الطاقة وهي العملية التي تتيح للنجوم أن تتألق وتضيء لمليارات السنين  وهي التي تمنح الطاقة للقنبلة الهيدروجينية التي صنعت في سنوات الخمسينات. وباختصار يمكننا القول أنه في قطعة سكر  من ثلاثة غرامات يوجد مقدار من الطاقة يكفي لإضاءة مدينة كبرى لمدة يومين أو أكثر. ويأمل العلماء أن يتمكنوا من تطوير مفاعلات للدمج النووي  وخزن الطاقة الناجمة أو المتولدة للقضاء على أزمة الطاقة التي تواجه البشرية اليوم. 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2118 السبت  12 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم