قضايا وآراء

الفاتحون العرب المسلمون يصابون بـ"داء العنف العراقي" (8-9) / علاء اللامي

بين الكيان السياسي التاريخي وبين الآخر الجغرافي "الخام". أكثر من هذا، فهو يعتبر أي تجلٍ تاريخي للكيانية السياسية المحددة بزمنها، يعتبرها أبدا أو سرمدا غير قابل للتحديد والمحايثة، فالعراق في أيام عبد السلام عارف، في بصره وبصيرته، هو نفسه العراق أيام هارون الرشيد. وهو نفسه أيام حاكم صغير في لكش قبل عشرات القرون، وقد سردنا أمثلة عديدة على نظرته تلك. أما الأكثر غرابة فهو إن الكاتب، ولإعطاء حكمه المسبق والتشنيعي بحق العراق تبريراً أو غطاء تاريخا، يلجأ أحياناً إلى "قصقصة" الكيانية الجغرافية مع الاحتفاظ بمظهر الكيانية التاريخية ليحصد الكثير من الأمثلة على العنف الدموي "العراقي"، وهاكم مثالاً واحداً من جملة أمثلة أتخم بها كتابه ( ففي معركة "أليس" وهي إحدى المعارك التي قادها خالد بن الوليد ".." كانت قوات الفرس تقاتل بشدة وضراوة ومعها عدد من القبائل العربية الموالية، وكانت حاقدة وموتورة لأن خالداً كان قد سبق له أن قتل بعض أبنائها في صدامات سابقة ".." ويبدو أن خالد بن الوليد وجيشه قد تعرض إلى مأزق شديد جعله يقسم على نفسه يميناً إلى الله أن يجري نهر الفرات بدماء أفراد الجيش المعادي ".." ثم جاء الفَرَج ومالت الكفة لصالح المسلمين ".." فأقبلت الخيول بهم أفواجاً يساقون سوقاً وقد أوكل بهم رجالاً يضربون أعناقهم في النهر) وبعد أن ينتهي الكاتب من وصف مشاهد القتل يعلق بالقول (كانت تلك المطحنة البشرية هي ما أسفرت عنها معركة واحدة من بين المعارك الضارية التي جرت من أجل فتح العراق. ولننظر الآن إلى ما فعله خالد بن الوليد ذاته في مدينة دمشق خلال فتح الشام بعد أن حاصرها مدة ستة أشهر..) وتتمة القصة متوقعة فقد كتب خالد بن الوليد عهداً بالأمان لأهل دمشق سمح لمن أراد منهم الالتحاق بالروم أن يفعل فخرج منهم موكب ضخم (وقد مرَّ ذلك الموكب الغني بكنوزه و موجوداته الثمينة ونسائه الجميلات أمام مرأى الجيش الإسلامي المحارب القادم من الصحراء الذي اصطف أفراده يراقبون بانضباط تام ما يجري أمامهم ملتزمين بأوامر وتعليمات خالد الصارمة ".." إن القائد العسكري واحد ـ والكلام هنا لباقر ياسين ـ لكن الفارق كبير جداً بين هاتين الواقعتين بين ما جرى في العراق وما جرى في الشام، حتى لكأن خالد بن الوليد في الشام هو شخص آخر غير خالد بن الوليد في العراق. ص88).

قد يذهب الظن بالقارئ أن باقر ياسين ربما يُعرِّضُ بالحالة النفسية والعقلية للقائد خالد بن الوليد كما يشير إلى ذلك قوله (حتى لكأن خالد بن الوليد في الشام هو شخص آخر غير خالد بن الوليد في العراق) فالقصة، وتعليقات الكاتب، تصب في مصب احتمال إصابة خالد بالفصام "الشيزوفرينيا"، ولكن قصد الكاتب مختلف. فهو إنما أراد إدانة أهل العراق مقارنة بأهل الشام المسالمين الذي صالحوا العرب المسلمين فسمحوا للراغبين منهم بمغادرة الشام والالتحاق بالروم. ترى أي اجتراء مريب على الحقائق التاريخية فعله المؤلف هنا تحديدا! سنحاول تفنيد هذا المونتاج الانتقائي الذي صنعه ياسين تفنيداً تاريخياً وسنعود فيما بعد لموضوع الكيانيات.

ـ في إقليم الشام كما في العراق، حدثت مواجهات دموية رهيبة بين "قوة فتية طازجة" كما وصفها المؤرخ يوسف سامي اليوسف هي الجيش العربي تحت رايات التوحيد الإسلامي وبين إمبراطوريتين عريقتين ومنخورتين بالفساد والظلم هما  الفارسية والرومانية. وإذا كان المؤلف يشهر بوجوه العراقيين "عار الدماء" التي سالت في معركة (أليس)، لا لسبب إلا لأنها جرت على أرض ذلك الإقليم، فثمة ما يقابل ذلك في معارك فتح إقليم الشام وهي موقعة قنسرين. وخلاصتها أن أبا عبيدة أرسل خالد بن الوليد ذاته بعد فتح حمص إلى قنسرين وتواجه مع جيش الروم بقيادة "ميناس" وهَزمَ العربُ الرومَ وقتلوا "ميناس" وجميع جنوده وأما أهل المدينة فقد أرسلوا إلى خالد وقالوا إنهم عرب ويريدون الصلح وإنهم ( إنما حشروا ولم يكن من رأيهم الحرب) بعبارة الطبري، (ولكن خالد ما كان رجع عن رأيه وسار حتى نزل قنسرين فتحصنوا منه وطالبوه بأن يصالحهم بشروط صلح حمص فأبى خالد بن الوليد إلا على إخراب المدينة فأخربها واتطأت حمص وقنسرين. ص99 مج 3 تاريخ الطبري أحداث 15هـ)

ـ  في إقليم العراق كما في إقليم الشام تصالح السكان في بعض المناطق وكانوا في غالبيتهم عرباً أو من بقايا الأقوام السامية مع الفاتحين والمحررين العرب المسلمين، أو أنهم رحلوا إلى أماكن أخرى في الإقليم. ولم يكن ذلك حكراً على الشام ومن أمثلة الإجلاء والترحيل السلمي في العراق  ما ورد بعد الصفحة عينها التي وردت فيها أخبار وتفاصيل موقعة "أليس" حيث يخبرنا الطبري بأن مدينة  (إمغشيا) في العراق فتحت دون قتال بعد موقعة "أليس" وقد دخلها خالد وجيشه وجلا أهلها وتفرقوا في "السواد" وهو واحد من أسماء إقليم العراق آنذاك.

ـ  هناك أيضاً، خبر عن صلح مع أهل الحيرة (في إقليم العراق) يذكره الطبري ( وقد كتب أهل الحيرة عن خالد كتاباً: إنا قد أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالد العبد الصالح والمسلمين عباد الله الصالحين على أن يمنعونا "يحمونا" وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم. ص574 مج 2 أحداث 12) وثمة كتاب مشابه بين خالد وصلوبا بن نسطونا صالحهُ فيه على بلدتيْ "بانقيا" و "بسما" وضمن له ما عليها وعلى أرضها من شاطئ الفرات جميعاً. ص570 م.س)

ما الذي يتبقى إذن من المقارنة التمييزية التي قام بها الكاتب؟ لا شيء طبعاً سوى الإنشاء الهجائي والأحكام المسبقة. وبالمناسبة فالكاتب يشرح لقارئه أن (اسم مدينة "كربلاء" مشتق من الكرب والبلاء دلالة على كم وكيف العنف الدموي العراقي أما جلولاء فقد سميت هكذا لكثرة الجثث الآدمية التي جللت وجه الأرض ص91). إن الكاتب الذي يأخذ بتفسيرات الروزخونية والبسطاء من الملالي و رجال دين يعلن من حيث لا يدري أنه لا يختلف عنهم منهجياً. فالمعروف لدى المتخصصين أن مدينتي كربلاء وجلولاء لم يسميا بهذين الاسمين بعد المعارك التي حدثت على أرضهما، بل هما مدينتان قديمتان جداً، واسماهما من الأسماء الآرامية القليلة التي ظلت حية. وقد ذكر المفكر الراحل هادي العلوي بأن كلمة "كربلا " والتي تزاد همزة غالباً، مؤلفة من كلمتين آراميتين هما (كرب) أي قُرب و(أيلا) أي الله، ومثلها بابل (باب أيل وتعني باب الله) وكذلك أربيل أو (أربع أيل) أي الألهة الأربعة ولم يبلغني رأيه رحمه الله  بجلولاء الذي اعتقد أنه يجري مجرى ما تقدم من أسماء وقد تكون بمعنى "جلَّ  الله" بمعنى تعالى وسما .

نعود إلى موضوعة الكيانية ملخصين: إن الكاتب يلغي الدلالات، هذا إذا افترضنا أنه يعلم أصلاً بهذا الموضوع، تارة ويخلط في أخرى بين الكيان السياسي التاريخي الحاضر وذاك المنتهي تاريخياً ويوحد في ثالثة بينهما، فعراق عبد السلام عارف في نظره هو نفسه بلاد آكاد  وملكها سرجون. ثم إنه يخلط بين الكيان السياسي التاريخي وتعبيره الحقوقي والقانوني (الدولة) وبين الكيان الجغرافي ولا يميز أو ينتبه لكون الثاني لحظة من تاريخ الثانية فالدولة العباسية هي نفسها بلاد الرافدين عنده وهي نفسها الجمهورية العراقية القائمة اليوم. وأحيانا يتحول الكيان الجغرافي على يد الكاتب إلى سبب تاريخي وحيد وخالق خرافي للحدث التاريخي والظاهرة التاريخية وبهذا الكيف والكم المعينين لا بغيرهما، فخالد بن الوليد وحروب الفتح والتحرير على جغرافية اسمها العراق ليس هو خالداً وليست هي الحرب نفسها في جغرافية مجاورة هي الشام.

إن الكاتب بخلطه بين التاريخ والجغرافية وبجهله لديالتكتيك العلاقة بينهما يخرب الاثنين معاً ولا يخرج سوى بأوهام صيغت بإنشاء هجائي مقذع يمت بصلة قوية للرائج من أحكام و(نظريات المقاهي والحانات) والشائعات الشعبية أكثر مما يمت بصلة للعلم.

وأخيرا فالكاتب يفصل عن عمد الكيانية السياسية الواحدة أو تلك التي في طور التوحد والتحقق، ومثالها هنا الدولة العربية الإسلامية الآخذة بالتكون والنشوء في فترة حروب الفتح والتحرير العربي الإسلامي، فهو يشطر أو يفصل بين العراق وبين الشام مع أنهما جزآن في صيرورة تاريخية واحدة. ولتسهيل عملية الفصل القسري السابقة، يلجأ الكاتب إلى عملية مشابهة ولكن على صعيد الكيانية الجغرافية في تلك الفترة التاريخية دون سواها، وهوفي كلتا الحالتين، للأسف، يَعْتَسِفُ العلم ويزيف الحقائق التاريخية والجغرافية.

 

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2122 الاربعاءء 16 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم