قضايا وآراء

بحث علمي أوروبي يدحض خرافة العنف الدموي العراقي بالأرقام (9-9) / علاء اللامي

سبق لنا أن أشرنا إلى العالمين المتخصصين في علم النفس المجتمعي والجماعي اللذين قاما به وهما الزوجان إيفو و روزا فايرابند لما لهذا البحث من أهمية نظرية وعملية خاصة. ولكننا قبل ذلك، سنودع كتاب "تاريخ العنف الدموي في العراق" بملاحظة ذات علاقة بالمنهجية البحثية التي اعتمدت فيه. إن مؤلف هذا الكتاب في سعيه لترسيخ أوهامه كبديهيات يقوم أحياناً بتوظيف الباحثين الآخرين لأداء مهامه وانشغالاته الخاصة، فعلى الصفحة 46 يقتنص الكاتب ملاحظة وردت في كتاب الأستاذ ثروة عكاشة (سومر وبابل وآشور) ليوظفها توظيفاً عجيباً لخدمة منهجية (اللامنهجية) التي يعتمدها فقد كتب عكاشة (إن الآشوريين كانوا أسبق شعوب المنطقة في الحصول على معدن الحديد فعاشوا عصر الحديد بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى وكان هذا مما قـَسّى قلوبهم وجعلهم جفاة غلاظ الأكباد فاتجهت كل إرادتهم لتحقيق الانتصارات بكل وسيلة). إن ثروت عكاشة، وكباحث يحترم كلماته ومنهجيته يضع يده هنا على مغزى عميق وعلى علاقة سببية لها دلالاتها بين اكتشاف الحديد والأسلحة الحديدية التي صنعها واستعملها الآشوريون وبين طابع القسوة التي تفرد بها تاريخهم الحربي، هذا الطابع أو المظهر لما أسميناه كيف العنف والذي يختلف عن عموم التراث الحربي السامي هو الذي جعل باحثاً مرموقاً في التاريخ هو يوسف سامي اليوسف يشكك في أن الآشوريين ساميون أصلاً، ولكن لا عكاشة ولا اليوسف كانت لهما الخفة أو الطيش التنظيري الذي يجعلهما يعتبران الآشوريين، وهم الشعب الذي انقرض حضارياً، وتبقت منه أقلية سكانية تنتسب إليه، عراقيين، لا بل هم شعب العراق وعلى سن و رمح، كما يفعل المؤلف. إن هذا الأخير يعلق على ملاحظة ثروت عكاشة بفرح وكأنه عثر على كنـز ثمين بالقول ( وإذا أردنا أن لا نهرب من الحقيقة فإن الوصف الآنف الذكر الذي اشتمل عليه النص السابق إنما هو في أحد جوانبه وأشكاله وصف لميزات الشعب العراقي لأن الآشوريين كانوا هم الشعب العراقي في الألف الثاني قبل الميلاد وما بعده.. ص47) ولن نقول نحن شيئاً بل نقترح على القارئ أن يتأمل المعاني المهينة واللاعلمية والهاجية التي تنطوي عليها عبارة (وما بعده) التي قد تتاخم في الامتداد الزمني المفتوح يوم القيامة!

 

إن ما قد يبدو مضحكاً للإنسان العادي وغير المتخصص بعلم معين هو كذلك فعلاً بالمنظار العلمي. فالعراق ليس اسماً فقط يدل على كيان سياسي وتاريخي قائم و متكرس في هذا اللحظة، إنه أيضاً الكيان الجغرافي المحدد الذي يدل عليه ويحتويه. وفي جدل العلاقات بين الكيان الجغرافي والآخر السياسي والحضاري التاريخ ثمة الكثير مما ينبغي فهمه وإدراكه.

 

إن العراق الحالي (الكيانية السياسية التاريخية التي ندعوها العراق ) هو في الوقت نفسه الإقليم الجغرافي الذي يمتد بين الموصل شمالاً وعبادان جنوباً و هذه هي حدود أقليم العراق عند الجغرافيين العرب المسلمين ضمن الإمبراطورية العباسية.

 

أما في العصور القديمة فقد كانت حدود "بلاد الرافدين" الجنوبية تشمل الخليج العربي كله، و الشمالية تمتد إلى هضبة الأناضول وكانت مدينة (قرقميش) شمال الحدود السورية بعدة كيلومترات وتحت السيادة التركية، كانت هذه المدينة رافدانية ويرد اسمها في الكثير من المدونات والخرائط البابلية. ولكنه ليس الإمبراطورية الآشورية التي ضمنت بين حدودها في عصر من العصور بلاد الشام ومصر كما إنه ليس الإمبراطورية العباسية مترامية الأطراف بين الأطلسي غرباً وأسوار الصين شرقاً.

 

أما في العصور القديمة التي يصول ويجول في مادتها التاريخية صاحب (تاريخ العنف الدموي في العراق) فقد كانت هناك ثلاثة أقاليم جغرافية لثلاث دول.و بعبارة أخرى، ثلاثة كيانات سياسية على ثلاثة أقليم جغرافية وهي سومر جنوباً وبابل في الوسط وآشور شمالاً. وقد تمكنت الكيانية الثانية وكذلك الثالثة من الامتداد على عموم ما نسميه وادي الرافدين في فترات تاريخية معينة، ونتج عن هذا الامتداد أو التوحيد كيان سياسي تاريخي واحد ذو سمات امبراطورية. ثم كفَّت (بلاد الرافدين) عن الفعل التاريخي المستقل وأمست إقليماً محتلاً من قبل الفرس الساسانيين حتى حروب الفتح والتحرير العربية الإسلامية فعادت إلى دورها في الفعل والعطاء الحضاري بعد أقل من قرن مليء بالاضطرابات هو عمر الدولة الأموية والتي كان العراق في عهدها مجرد إقليم محتل لا يكاد جيش أموي مكلف بضبطه يغادره إلا ليعود إليه من جديد حتى تم تدمير الدولة الأموية وبضربة جاءت تحديداً من العراق المتحالف مع خراسان تحت راية العباسيين. إن ما نقدمه هنا ليس إلا مفاتيح أولية نحاول من خلالها تبسيط جدلية الكيانيات لكي نفهم وعلى نحو أعمق الظاهرة موضوع البحث. وسننهي بحثنا هذا بما توصلت إليه الدراسة العلمية التي ألمعنا إليها في بداية هذا النص حول ظاهرة العنف في عدد من بلدان العالم من بينها العراق :

أقدم الثنائي (إيفو وروزا فايرابند) على إجراء دراسة تطبيقية شبه (مَسْحيـّة/ إحصائية من منظار علم النفس المجتمعي في دراستهما المعنونة "السلوك العدواني للدول 1948 – 1962 "، المنشورة ضمن كتاب سيكولوجية العدوان ص219، وعلى أساس نظرية (الإحباط – العدوان) التي سلفت الإشارة إليها حيث العدوان كما يقول دولارد هو دائماً نتيجة الإحباط. إن أول شيء فعله الثنائي (فايرابند) هو جمع المعطيات السياسية والتغيرات البيئية المتعلقة بعدم الاستقرار السياسي وسلوكيات الصراع الداخلي لأربع وثمانين أمة (دولة) وعلى امتداد خمس عشرة سنة ومن تلك الأمم (الدول) العراق.

لقد جمعت كميات هائلة من المعلومات والمعطيات واستخدم سُلَّم خاص من ثمانية مؤشرات هي:

 

-الناتج الوطني العام.

 -الاستهلاك الحروري.

 -توفر أو عدم توفر الهواتف .

 - عدد الأطباء قياسا إلى أعداد محدد من السكان .

-استهلاك الصحف .

-أجهزة المذياع .

 -نوع ومستوى التعلم .

 - مستوى التحضر .

 

 وتمت دراسة خمسة آلاف حادثة عنفية، ثم، تم احتساب علامات الاستقرار على ضوء تلك المعطيات لتحلل وتصنف على أساس سُلَّم من ست درجات كنتائج بحثية وبعد ذلك درس العالمان (فايرابند) العلاقة بين الإحباط المنظومي ودرجة الاستقرار السياسي ليتم الخلوص فيما بعد إلى تصور مستوى العلاقة بين الحداثة والاستقرار.

مهما كان رأينا بدقة هذا النوع من الدراسات ومهما كانت تحفظاتنا، وهي كثيرة في الواقع، على خطوات البحث الإجرائية ومنطلقاتها النظرية لا بد لنا أن نسجل لهذا الجهد العلمي الجديد قدرته التحليلية وحياده العلمي ورصانته فيما يتعلق بالحيثيات والتفاصيل وبالنتائج والتعميمات التي انتهى إليها.

  وقبل الاطلاع على بعض نتائج تلك الدراسة نذكر بأن العراق في السنوات بين 1955 و1966 الداخلة في مدة الدراسة البحثية عاش فترة من الأحداث الجسام منها ثورة 14 تموز 1958 التي أخرجت العراق مؤقتاً من دائرة النفوذ والاستعباد البريطاني ومن ثم انقلاب 8 شباط 1963 الذي قام به القوميون والبعثيون وأحداث سياسية أخرى، ومع ذلك يخبرنا سلم الثنائي (فايرابند) المؤلف من ست درجات والذي خلاصته هي :

كلما زاد عدد النقاط المسجلة مقابل الحاجات غير الملباة في البلد موضوع الدراسة ارتفع الاحباط المنظومي وكثرت حوادث العنف واقترب هذا البلد من حالة ـ لا استقرار ـ أكثر.

 يخبرنا العالمان " إيفو وروزا فايرابند " إن العراق آنذاك وبحوزته (579) كان:

 

.............................

1ـ أكثر استقرارا سياسياً من مجموعة كبيرة من الدول منها: لبنان (581) والهند (599) والأرجنتين (995) تركيا (584) هنغاريا (652) كولومبيا (581) ودول أخرى عديدة.

 

2ـ أقرب كثيراً من دول متقدمة ومستقرة ويخلو حاضرها السياسي من ظاهرة العنف مثل فرنسا (499) واليابان (453) إيطاليا (433) بلجيكا(432).

 أما في دراسة علاقة الإحباط المنظومي ودرجة الاستقرار فإن العراق:

1ـ يعتبر ضمن قائمة الدول ذات الإحباط المنظومي العالي .

 2ـ تضم تلك القائمة إلى جانب العراق البلدان التالية : إيران وإيطاليا واليابان وتركيا وسورية والهند ومصر واليونان.. الخ.

يطول الكلام لو شئنا ذكر جميع أو معظم النتائج والدلالات التي انتهى إليها عالما النفس (فايرابند) في هذه الدراسة التطبيقية والتي تصلح لتكون آخر حفنة تراب تهال على قبر "خرافة العنف الدموي العراق" التي تكف مع كل هذه الشواهد عن أن تكون رأياً أو نظرية وتنكشف عن كونها ـ للأسف ـ حمام شتائم وأحكام مسبقة مهينة. ورغم كل ما تقدم فكاتب هذه السطور وقد قال رأيه في هذا الكتاب يكرر مرة أخرى رفضه لكل أنواع القمع الفكري وكمِّ الأفواه على اعتبار مبدئي يؤمن به عميقاً هو: إن الخلافات والتناقضات الفكرية والنظرية تحسم ويتم التعامل معها بالأسلوب الفكري والنظري فقط وليس عن طريق القمع والتكفير والإرهاب الفكري وغير الفكري كما إنه لا يدعو إلى منع الكتاب موضوع نقدنا من التداول والصدور. لقد ألَّف باقر ياسين وأصدر كتابه (تاريخ العنف الدموي في العراق) وعليه أن يتحمل المسؤولية الفكرية والأخلاقية الكاملة عن ممارسة حقه التأليفي بهذا الشكل وهذه الطريقة وتقبل النقد والتقويم.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2126 الأحد  20 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم