قضايا وآراء

قراءة في أوراق لجنة هادي العلوي للدفاع عن الرافدين (1) / علاء اللامي

هادي العلوي، صحبة قرينته الراحلة السيدة نبيهة العبيدي وعدد قليل من رفاقه وتلامذته، شرَّف القدرُ كاتبَ هذه السطور أنْ يكون واحدا منهم، عن تأسيس "لجنة الدفاع عن الرافدين". وقد استمر نشاط اللجنة بضع سنوات، في محاولة لاختراق الصمت والتعتيم الإعلامي العراقي "الحاكم والمعارِض" والعربي والإقليمي. وهكذا استمرت تركيا، مدعومة من الحلف الأطلسي التي تشكل عموده الفقري من حيث نسبة القوة البشرية المقاتلة "الجنود والضباط" في بناء سدودها العملاقة ومشاريعها المائية والكهرومائية والزراعية في نسق متسارع دون رادع ذاتي أو خارجي!  واليوم،  انتهينا، نحن العراقيين، الى الواقع المأساوي المعروف والذي بلغ درجة اندثار روافد و رواضع تصب أو تأخذ من النهرين، وبدأت هجرة واسعة من الأرياف الى المدن، وكادت الزراعة تتلاشى وحدثت صدامات مسلحة بين العشائر والقبائل العراقية بسبب التنافس والصراعات على المياه في مناطق متعددة من العراق وخصوصا في الجنوب والفرات الأوسط وباتت المنظمات الدولية تحذر من اندثار الرافدين العظيمين ذاتهما بعد عقدين من السنوات.

 

رحل العلوي قبل احتلال العراق، وتراجعت فاعلية لجنته الى نشاطات محدودة ومتباعدة قبل أن تمسي في ذمة التاريخ، ولكن تراثها بقي حيا متألقا ورياديا. ولأن تجربة هذه اللجنة أضحت ملكا للتاريخ و بالتالي لجميع الناس، ولأنها تستبطن أفكارا ومعلومات وحيثيات حية ثمينة، وبأمل أن تكون مفيدة للعراقيين الذين بدأوا يفيقون من سباتهم تحت ضربات مطرقة الواقع القاهر وليس بفعل صحوة ضمائر مفاجئة، حيث دجلة والفرات يتلاشيان بالتدريج، ويندرجون في صفوف المدافعين عن الرافدين، ولأن معركة الذود عن الرافدين لم تنه تماما بعد، نقدم هنا قراءة تعريفية وتحليلية نستعرض فيها بعضا من أوراق هذه اللجنة الرائدة.

 

 سنتناول في هذه القراءة عدد من الوثائق التي تشمل بيانات و مناشدات وتحذيرات و دراسات أصدرتها اللجنة وتم جمعها في ما بعد في كتيب يحمل عنوان "الكتاب الأحمر" طبع ونشر بإشراف الراحل ووزع على نطاق واسع في الجهات الشرقية " الفراتية" من سوريا خصوصا، ولكنه قوبل بكثير من التردد والتشكيك واللامبالاة بل وحتى بالهزء والسخرية من قبل من كانوا يعرفون بقيادات و عناصر المعارضة العراقية لنظام صدام حسين، ومنهم أغلب "المثقفين" الذي انتقلوا بعد الغزو إلى العمل في مؤسسات "بريمر" الثقافية. كما سنستفيد أيضا في هذه القراءات من محتويات بعض  مراسلات اللجنة وأعضائها الداخلية الخاصة و ما يسمح به الوضع العام ويجيزه أصحاب الشأن.

 

في نص نشرته اللجنة كفاتحة لكتيب "الكتاب الأحمر/ حول المؤامرة الإمبريالية ضد دجلة والفرات" سنة 1995 وموقع باسم "عريف لجنة الدفاع عن الرافدين " هادي العلوي، يعود بنا المؤسس الى خلفيات وإرهاصات الموضوع فيكتب (مع وصول النظام الحالي،  بقيادة الثنائي البكر/ صدام و "نبوة" ميشيل عفلق، بدأت المخططات الاستعمارية ضد العراق طريقاً لاحباً إلى العمل في عدة اتجاهات. وكانت البداية في شرعنة "الإرهاب" الحكومي الذي سمم علاقات الناس بالسلطة وعلاقاتهم ببعضهم. وحين جاءت الفورة النفطية طُبقت خطة " لتخليج" المجتمع العراقي تهدف إلى إيقاع الخلل بمنظومة قيمه الأخلاقية وزعزعة تقاليده الحميدة بأفقها المشاعي الموروث من عصور الجاهلية وما قبلها). يتهم العلوي ما يسميه  "النظام الملُهَم بالديماغوجية العفلقية"  بعزل العراق عن محيطه العربي. وقد نفذوا في هذا الاتجاه مشروعا عجزت عنه حكومة نوري السعيد، وكان مطروحا عليها كأحد مشروعات مجلس الإعمار، وهو مدُّ أنابيب النفط عبر تركيا بدلا من سوريا. ويرجع المشروع إلى حلف الأطلسي، ويهدف إلى السيطرة على انتاج حقول كركوك. وفي معرض حديثه عن محاولات نظام البعث عزل العراق، يروي العلوي أنه تحدث ذات مرة مع صديقه سليم طه التكريتي، وهو سياسي مخضرم وواسع الاطلاع فيقول (فأكد لي – التكريتي- المغزى التآمري له، وكونه موجها لعزل العراق عن المنطقة العربية، بوضع النسبة الأعلى من انتاجه النفطي في عهدة حلف الأطلسي وتركيا. وعندما قلت لسليم إن البعثيين  قتلوا ألوف العراقيين بتهمة معاداة الوحدة العربية قال: إن حزبهم إنما تأسس هنا لمحاربة الوحدة العربية وعزل العراق عن سوريا بوجه خاص. وسوف ترى المزيد من هذه الخطوات فيما بعد. وكان ذلك  مع نهاية السبعينات من القرن المنصرم).

 

بعد حرب الكويت، أخذت المخططات الإمبريالية ضد العراق مداها الكامل كما يقول العلوي (حيث استسلم صدام لشروط وقف إطلاق النار التي أملاها عليه الأميركان. وتمت الصفقة بينه وبين المعتدين الأمريكان على وقت القتال بشروط كلها مجحفة ومذلّة للعراق. وقد سلَّم بها كلها لأنها سلمت له البقاء في السلطة).

 

ويعتبر العلوي العراق، و منذ صفقة وقف إطلاق النار عام 1991، أسيراً في يد الأميركان، تطبق عليه سياسة كيسنجر الذي دعا مع بدء أزمة الكويت إلى عدم التركيز على صدام، بل على تدمير العراق في عدة قطاعات متكاملة يتصدرها:

1- الحصار الغذائي والدوائي لإحداث شلل بنيوي في كيان الشعب العراقي وتكثير المعوقين فيه.

 2- منع التنمية وإبقاء العراق في حالة تخلف تجعله يعتمد في معيشته على الاستيراد.

3- تنشيف دجلة والفرات.

 ويعتمد هذا المخطط على حساب عملي وميسور ويجري العمل فيه حاليا بوتيرة متسارعة. ويستند الغربيون في الجملة إلى عنصرين في تنفيذه: ضمان التمويل للمشاريع التركية. وقد دفعت السعودية والكويت حتى الآن "12" اثني عشر مليار دولار. والعنصر الثاني هو وجود صدام ضمن صفقة وقف النار. وهو شرط مثالي لمواصلة المخطط الكيسنجري.

 

ويمكن ان نتوقع إذا بقي صدام في السلطة عشر سنوات أخرى أن ينشف الفرات نهائيا أو يصبح جدولا صغيرا، وملوَّثا، في هذه الحالة، لأن الماء القليل لا يقاوم التلوث وهذه حقيقة معروف في كيمياء الماء. ويعني هذا زوال نصف العراق من الوجود "الجغرافي الآهل". وسيحدث نزوح جماعي من وادي الفرات إلى وادي دجلة).

 

وعن الهدف من تشكيل اللجنة يكتب العلوي (لقد تشكلت لجنتنا لإثارة الاهتمام بهذه القضية والتنبيه إلى الخطر المحدق بالكيان العراق، وأصدرت بيانات ومناشدات وتحذيرات وقد تفاوتت الاستجابة لجهودها فقال بعضهم إن دجلة يكفينا والأتراك يريدون الفرات فقط وهذا نفس منطق صدام حين أعطى الضفة الشرقية لشط العرب إلى إيران لأن الضفة الغربية تكفينا.

 

ويعلق العلوي على دعوات البعض لاعتبار شط العرب نهرا دوليا بالرفض القاطع معللا ذلك بكون (شط العرب يتكون في القرنة داخل العراق، ويصب في المياه الإقليمية العراقية من الخليج. و لا يمر بإقليم أجنبي وإنما استولت إيران عليه بموجب اتفاق الجزائر سنة 1975. إن الانسياق في هذا المنطق سيجعل مثقفينا هؤلاء يوافقون بالتدريج على تدويل أجزاء أخرى من العراق قد يشمل اليابسة بعد استكمال تدويل الأنهار، وهذا نوع من الخيانة الوطنية جديد علينا)

وعن ردود الأفعال على تأسيس اللجنة يخبرنا العلوي بالتالي ( تضامنَ بعضُ الكتاب مع مطالب لجنتنا لكنهم اكتفوا بالرجوع إلى القانون الدولي ليحكم في هذه المسألة. والقضية خارجة عن نطاق هذا النطاق لأنها قضية عدوان. ولم تجد نداءاتنا آذان صاغية لدى أطراف المعارضة العراقية، وهي دولية في جملتها الساحقة. لكن قيادة الحزب الشيوعي تفهمت الوضع أفضل من غيرها وقد تضامنت مع اللجنة وتبنت فكرة الملصق الذي أصدرناه بهذا الخصوص. ونشرت طريق الشعب مقالة هامة حول المخطط التركي أرفقتها بصورة الملصق. كما تضامنت معنا جريدة "الغد الديموقراطي" فنشرت ملخصا للبيان وعلقت عليه مؤيدة ما جاء فيه.

 

إن مبادرة الحزب الشيوعي والتجمع الديموقراطي في هذا الاتجاه تدل على أن المسؤولية الوطنية تبقى في حدود معسكر اليسار العراقي. ونحن نأخذ على الحزب رغم ذلك عدم تجاوبه مع المناشدة التي طالبناه فيها إصدار تعهد باستعمال القوة لإبطال المخطط المعادي، وما زلنا نأمل صدور تعهد كهذا. يختم العلوي مداخلته التعريفية بالقول ( نحن على أية حال لسنا من دعاة الحروب ولو أننا نكره كلمة "سلام" لأنها اليوم لاذعة حارة تشبه شجرة أهل النار طلعها كأنه رؤوس الشياطين وثمارها زقوم... وموقفنا يتلخص في هذه الأبيات للحسين بن الضحاك :

 فلما اضطرني المكروه ..... واشتد بي الأمرُ

 تناولتكَ من شري ........ بما ليس له قدرُ

 فحركت جناحَ الذلِّ ..... لما مسك الضُرُّ

 إذا لم يصلحِ الخيرُ امرءاً..... أصلحهُ الشرُّ

 

وفي الحالة المعاكسة سنطبق الآية القرآنية "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، وهذا حين يكون الجنوح إلى السلم جنوحا إلى إحقاق الحق وإيقاف المخططات المعادية.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2136 الاربعاء  30 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم