قضايا وآراء

المشروع التركي الأطلسي لإزالة الرافدين من خلال سجال تلفزيوني (4-5) / علاء اللامي*

ثمة دراسة مكثفة وموثقة بقلم كاتب هذه الأسطر، نشرتها اللجنة في "الكتاب الأحمر". هنا، قراءة تحليلية واستعراض لأهم محاور وفقرات هذه الدراسة.

تبدأ الدراسة بملاحظة الاهتمام الواسع الذي أبدته  وسائل الإعلام الناطقة باللغة العربية بهذه القضية،  التي أعطيت اسما خادعا هو  "أزمة المياه في الشرق الأوسط". معتبرة هذا الاهتمام، و رغم أنه جاء متأخرا أكثر من عشر سنوات آنذاك، أي 27 عاما عن وقتنا الحاضر، ساد خلالها تعتيم إعلامي محسوب بدقة، يعكس خطورة الطور الذي بلغه المشروع الأطلسي التركي الهادف إلى إزالة نهري دجلة والفرات وتصحير العراق وأجزاء شاسعة من سورية وإلغاء الكيان العراقي الذي أقض ويقض مضاجع المخططين الاستراتيجيين الغربيين منذ بدايات القرن الحالي.

 ومن الأمثلة البارزة على هذا الاهتمام الذي تتوقف عنده الدراسة، البرنامج التلفزيوني الذي بثته فضائية "أم بي سي" خلال شهر نيسان/ إبريل 1996. وقد استضاف فيه المذيع المرموق، نضال قبلان، جميع الأطراف الرسمية ذات الصلة بالموضوع، وهم حسب توالي المشاركة : المهندس ماجد داود من سورية، والبروفسيور يوكسيل إينان، أستاذ القانون الدولي في جامعة غازي بأنقرة، والدكتور توماس نف، رئيس شبكة المعلومات الأميركية الخاصة بالمياه في الشرق الأوسط والأستاذ في جامعة بنسلفانيا، وأخيرا، يبدو أن القائمين على تلك الفضائية  تفطنوا إلى أن هذه القضية تهم بلدا آخر اسمه العراق، فسمحوا لمندوب نظام صدام إلى الجامعة العربية نبيل نجم، بالمشاركة الهاتفية، لا التلفزيونية كزملائه. وما لبث الاتصال به أن انقطع قبل أن ينتهي البرنامج.

وفي أحد الهوامش تسجل الدراسة أنّ (مقدم البرنامج قد تحسس خطورة الموضوع وقال بإمكانية تخصيص حلقة أخرى من البرنامج حول الموضوع نفسه وما زلنا ننتظر، ويبدو أننا سننتظر طويلا".

إن الحقائق والمعطيات التي كُشِفَ عنها النقاب في هذا البرنامج، تبعث على القلق العميق، وربما تثير لدى البعض شعورا بأن الأوان قد  فات فعلا على إطلاق حملة مضادة للمشروع التركي الأطلسي ومجابهة الكارثة المحدقة بالعراق و سورية. و ما يعزز هذا الشعور الصمت الذي أدمنته جميع فصائل المعارضة العراقية على اختلاف مشاربها، وكأن أمر الرافدين العظيمين جغرافيا وتاريخيا، واللذين على شواطئهما نشأ الكيان العراقي منذ أكثر من خمسين قرنا، كأن هذا الأمر لا يدخل ضمن نطاق اهتمام هذه المعارضات. وفي هامش آخر تخبرنا الدراسة (حتى يوم كتابة هذه الأسطر، 30 نيسان أبريل 1996، لم يبلغنا أنّ طرفا عراقيا، من أطراف المعارضة العراقية، قد اتخذ موقفا، سلبا أو إيجابا، من كارثة تنشيف الرافدين  أو أصدر بيانا على أقل تقدير، الأمر الذي امتنع إعلام نظام صدام حسين عن فعله أيضا.. أ هي محض مصادفة؟).

 رغم ذلك تعتقد الدراسة بأن بصيصاً من الأمل يبقى معقودا على من تسميهم "الوطنيين والشرفاء" في قواعد أحزاب تلك المعارضة، عسى أنْ يضغط هؤلاء على قياداتهم من أجل الاتفاق على ميثاق شرف يهدف إلى إنقاذ الرافدين وبلاد الرافدين، تتعهد فيه هذه الفصائل بالحفاظ على وجود العراق واستمرار تدفق المياه في رافديه باستعمال كافة الوسائل المشروعة ومنها القوة المسلحة لدفاع عن النفس. إن تعهدا كهذا، كما ترى الدراسة، ليس بُدْعَة يقول بها بعض "المارقين" على القانون الدولي الأميركي، كما انها ليست صادرة عن تصورات سياسية متطرفة، فقد سبق للرئيس المصري السادات، ومن بعده مبارك أن هددا أثيوبيا باستعمال القوة المسلحة لتدمير أي سد يقام على النيل، فتم تأجيل المشروع الخاص بالنيل مؤقتا إثر ذلك. أما موقف نظام  صدام في العراق فليس أقل أو أكثر شجاعة من موقف معارضيه إنما يسمح له وضعه في السلطة بالعزف المستمر، ودون كلل على أوتار حسن الجوار والعلاقات الأخوية مع النظام التركي.

تبدأ الدراسة بتقديم لمحة تاريخية سريعة تسجل فيها ما بات في عداد البديهيات حول وجود  العراق الملتحم تاريخيا وجغرافيا بالشام،  والمقترن والمشروط بوجود النهرين السابقين على وجوده الكياني "الجغراسياسي". ومن هذه الحقيقة اشتق اسمه القديم "ميزوبوتاميا" أي بلاد ما بين النهرين. ويرجع اسم الفرات إلى الفراتيين الأوائل، حسب تخريج العلامة طه باقر، والفراتيون الأوائل قوم سكنوا العراق قبل السومريين، وأقاموا فيه مَدَنية زراعية متقدمة، إلا أنهم لم يتوصلوا إلى الكتابة. كان هذا قبل أن تحل القبائل التركية القادمة من آسيا الوسطى في إقليم " أرض الروم" بأكثر من ثلاثة آلاف سنة.

وثمة آراء أخرى تنسب اسم الفرات إلى لغات الحضارات الأولى فهو في السومرية "بورانونو- بالباء البابلية القريبة من الفاء والشبيهة بالاتينية (P)"، وفي الآشورية "بوراتم/ بوراتن " وفي الآرامية، الجدة الأقرب للغة العربية هو "فروت"  بفارق بيسط هو حرف العلة مع الاسم العربي " فرات" . ويقرر ياقوت الحموي، الرومي الأصل، في كتابة معجم البلدان أن مخرج الفرات من أرمينيا  ومنه يدخل إلى أرض الروم، وهذا تعيين دقيق لمنبعه. فالفرات ينبع من بحيرة "وان" الداخلة في إقليم أرمينيا الجنوبية الذي تحتله تركيا. ويخرج الفرات من إقليم أرمينيا ليدخل أرض الروم " أرضروم"، ثم يدخل الفرات بلاد الشام ويجري في شريط قريب أو محاذي للحدود العراقية .

تاريخيا أيضا، كان العراق هو المبادر إلى استغلال مياه النهر استغلالا عقلانيا من خلال بناء السدود وشق شبكات إروائية ضخمة منذ العصر العباسي. وفي 1913 أقيم سد "الهندية" على نهر الفرات لتحويل مياه النهر إلى شبكة القنوات القديمة والتي شقت أصلا في العصور الإسلامية، وتم تحديثها. و فقد السد المذكور أية أهمية إروائية حاليا بسبب حبس مياه النهر خلف السدود التركية وتوقفت محطة " القادسية" على نهر الفرات في العراق عن العمل، وخرجت أكثر من 40% من الأراضي العراقية من نطاق الاستغلال الزراعي. أما سد "الثورة" في سورية والذي كان يزودها بحوالي 70% من حاجتها الى الطاقة الكهربائية ويحتوي على ثمان محطات للتوليد فقد توقفت منها سبع محطات عن العمل بسبب ضآلة الدفق المائي الذي تسمح به تركيا، علما بان "لجنة القانون الدولي" التي اجتمعت عام 1983 لدراسة مبادئ هلسنكي أقرَّت مبدأ يقول "بمراعاة الحقوق التاريخية لدول الحوض التي سبق وأن أقامت منشآتها الاقتصادية والاجتماعية اعتمادا على حصصها المائية".

الأبعاد القانونية والحقوقية: رغم أن الدراسة تسجل الطابع الاستعماري و الإمبريالي، المعادي للشعوب، لجميع الهيئات والمؤسسات الدولية التي أنشأتها الدول الغربية المنتصرة في الحربين العالميتين، كعصبة الأمم عقب الحرب الأولى، وهيئة الأمم المتحدة وفروعها بعد الثانية، وذلك لمعاقبة الأطراف المهزومة، ولكنها تدعو إلى الإلمام بهذا الجانب القانوني ومعرفة آليات عمله وتفاصيل ركائزة الحقوقية ضرورة لابد منها وجبهة لا ينبغي تركها عزلاء أمام خبراء ومنظري ومتخصصي الغرب أو للمتحذلقين من سياسيينا ومثقفينا التابعين والمبهورين باللبرالية الغربية المغمسة بدماء الشعوب!

تعود الدراسة الى الندوة التلفزيونية لتنقل لنا بعضا من أهم ما ورد فيها، ومن ذلك  ما قاله المهندس السوري ماجد داود الذي أكد وجود  13  نصا قانونيا من اتفاقيات وبروتوكولات، تتعرض لقضية مياه نهري دجلة والفرات بين سورية وتركيا.  من أهم هذه الاتفاقيات " معاهدة لوزان 1923 " والتي أنشأ الغربُ بموجبها الدولةَ التركيةَ القائمةَ اليوم، ونصت مادتها التاسعة على " إذا تم تنفيذ مشاريع مائية في البلدان الحديثة -التي قامت بعد الحرب وهي العراق وسوريا وتركيا- فلا بد لهذه الأطراف أن تتفق فيما بينها على حلِّ يرضي الجميع وفي حال عدم الاتفاق يصار إلى التحكيم).

 وفي ردِّه قال البروفيسور التركي يوكسيل إينان، والذي كان محتدما ومتعجرفا، دأب في كل مرة يمنح فيها فرصة الحديث، على اتهام البرنامج ومقدمه بالانحياز ضد تركيا وبعدم الدقة، قال البروفيسور أن الاتفاقيات المشار إليها ليست بحوزته، و ليس من حق المهندس السوري تفسيرها بهذا الشكل. ثم، وكأنه يكشف سرا خطيرا، قال إن بعض لأحياء دمشق تشرب من ماء الفرات بموجب معاهدة لوزان 1923 حتى اليوم. ولخص مطلب تركيا بالقول : يجب على دولتي سورية والعراق أن تعترفا بوحدة حوض دجلة والفرات قبل البدء بأي شيء.

إن البروفيسور التركي حين يطالب باعتبار الفرات ودجلة حوضا واحدا يتصرف كنشال مبتدئ. فهو يريد أن يجمع مياه دجلة والفرات معا في حوض واحد رغم إنهما لا يشكلان حوضا واحدا جغرافيا وحضاريا إلا في العراق أي بلاد ما بين النهرين، ثم يقسم المجموع بالطريقة التي تناسبه، وبهذا سيخسر العراق مياه دجلة ومعه مياه روافده لأن تركيا ستأخذ حصة منها أو قد تحتسبها تعويضا عن مياه الفرات الذي سيخسره العراق تماما .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2170 الثلاثاء 03/ 07 / 2012)


في المثقف اليوم