قضايا وآراء

الدولة المدنية في المجتمعات القبلية / مهدي الصافي

ولكن تبقى مسألة بناء الدولة المدنية مرتبطة ارتباطا وثيقا بطبيعة المجتمع والبيئات المتنوعة المتداخلة فيه،

اي بمعنى أخر يمكن لنا أن نجد مجتمعا مدنيا متطور في ظل الأنظمة الدكتاتورية (النموذج الاندنوسي سوهارتو- المصري حسني مبارك-والتجربة السورية الأسد، التونسية زين العابدين بن علي، لخ.)، ومن هنا يصبح التعريف المدني للدولة أكثر شمولية من تعريف الأنظمة السياسية القائمة على تلك الأسس (الأسس الدكتاتورية أو الديمقراطية)،

ولذلك تمر بعض الدول العربية في مراحل متذبذبة من بنائها الفكري القومي والوطني، فتارة هي تطمح إلى تصاعد ثقافة التمدن، وتارة أخرى تعود فتتقوقع وتنكمش لترجع إلى الحواضن البدائية الساندة لها (المجتمعات القبلية والعشائرية أو حتى العائلية)،

صحيح إن هواجس وذكريات الحروب والفتن الإقليمية والمحلية تلقي بضلالها على المشهد الاجتماعي الهش (وبالأخص ذكريات الدولة العثمانية، والحروب الإسرائيلية العربية)، مما تسترعي ديمومة بقاء السلاح في أيدي القبائل العربية (وخصوصا مع انعدام الثقة الكاملة بقدرة الجيوش على حماية البلد من التدخلات الخارجية، واستمراره في إشعال فتيل حرب الشوارع مع الأعداء)،

وهناك تجارب كثيرة  بينت قدرة  القبائل والجماعات والمليشيات المسلحة على مواجهة الاحتلال الأجنبي مع غياب جيش الدولة،

 (المنظمات والحركات الفلسطينية المقاومة-حركات المقاومة اللبنانية-حركات المقاومة  العراقية الوطنية وليس المقصود الصدامية او الإرهابية، الفصائل المدنية المساندة للرئيس السوري، الخ.)،

كل هذه الفصائل أو الجماعات المسلحة اجتمعت أما تحت غطاء الطائفة، أو القومية،  أو الوطنية وهي اضعف الإيمان، لان هذه الدول التي لم تستطع ان تبني  لها نظاما مدنيا مؤسساتيا، فشلت في حماية حدود بلدانها أو حتى إبداء شيء من المقاومة تجاه الجيوش الغازية (كما حصل في احتلال العراق عام 2003)،

فترجع المهمات الأخلاقية كما كانت في السابق إلى دورها في إحياء النزعات القبلية والعشائرية في مواجهات غير متكافئة مع التدخلات الخارجية، والسبب كما قلنا هو عدم بناء الدولة وفق رؤيا وطنية شاملة،

بل على العكس كان هناك دوما شكل من أشكال الاستئثار بالحكم والثروة الوطنية، من قبل أفراد وجماعات، ولعل في أحيان كثيرة بواسطة قبائل منتفعة معينة من قبل الاحتلال نفسه في سدة الحكم.

الحضارة المدنية الكونية الحالية تفصح عن نهج سياسي إمبراطوري جديد، لايهتم بالاحتلال الميداني للدولة، بل يكبلها بالاتفاقات والعقود والشروط الدولية عبر مؤسسات دولية قانونية (البنك الدولي-وصندوق النقد-مجموعة ألثمان الكبار الاقتصادية-منظمة التجارة العالمية، الخ.)،

وهناك بالطبع إخطبوط الشركات الاستثمارية الامبريالية العالمية العابرة للسيادات الوطنية.

إذن على الأقل في الوقت الحاضر لم تعد المخاوف من بقاء الاحتلال جاثما على صدر أبناء أي دولة عربية قائما (وقد خرج الاحتلال الأمريكي من العراق بإرادته كما دخلها كذلك، فقد رسخ مفهوم الاستثمار ودخلت شركاته للاستثمار النفطي، وتطمينات وزارة النفط العراقية بزيادة الإنتاج دائمة ومستمرة في هذا الخصوص )،

حتى يمكن ان نقول إن سلاح القبائل والعشائر العراقية لازال مفيدا لمواجهة خطر الاعتداءات الخارجية، ومعروف إن سلاح القبائل والعشائر يرفع  (عندما تنتهي فترة الصراع مع العدو الخارجي)

أما لمواجهة الدولة أو للعراك فيما بينها،

 (وقد استخدمته بعض العشائر في عمليات الغزو والسلب والنهب وقطع الطرق أيام الحصار الاقتصادي)،

فقد انتهت الحجج والأعذار التي يمكن إن تتقبلها الدولة أو اي مواطن عادي حول إمكانية ترك خطر سلاح العشائر مكدس في مضارب العشيرة،

 (يذكر إن احد الشيوخ المجانين هدد عشيرة أخرى في احدى النزاعات العشائرية بأنه يمتلك صواريخ كيماوية لضربهم في حال الاقتراب من حدوده)،

لأنها وقود الفتن الطائفية والعرقية والاجتماعية، يمكن لاي دولة مجاورة تريد السوء بالعراق وأهله،  ان تحرك هؤلاء لتخريب الوطن والعبث بأمنه واستقراره.

لعب السياسيين العراقيين منذ البداية بهذه الورقة المحروقة إثناء إجراء لعبة الانتخابات الشبه الديمقراطية (لماذا لعبة :لأنها فرضت على المشهد السياسي العراقي من قبل الاحتلال،  شخصيات وأحزاب وكتل سياسية لايعرفهم الشعب، بقوائم انتخابية مغلقة ومن ثم شبه مفتوحة-وكذلك جرت بدون قانون الأحزاب-وبدون قوانين شروط الدعاية الانتخابية، ومصادر التمويل الخاصة بها)،

فمنهم من شكل مجالس للإسناد أو التجمعات العشائرية (وهذا لايعني فقط مجالس الإسناد المشكلة من قبل الحكومة التي كانت باتفاق الجميع، ولكن أيضا المجالس العشائرية المدعومة من قادة القوائم الانتخابية الكبيرة) لكي يضمن أكثر عدد من الأصوات لقائمته أو زيادة في الأصوات التفضيلية

 (بحيث كل مكون يطرح قائمة طويلة بأسماء المرشحين لمحافظة معينة تتجاوز الثلاثين اسما، بينما المطلوب التنافس فقط على عشرة مقاعد أو أكثر قليلا، بغية زيادة عدد أصوات القائمة)،

في حين كانت هناك فرصة تاريخية لإنقاذ العراق وشعبه من خطر التراجع الاجتماعي الكبير، والقضاء جزئيا على كل أشكال وأنماط الحياة والسيطرة القبلية النازحة نحو المدن، لبناء دولة المؤسسات المدنية الحديثة، من خلال إجراء انتخابات حرة نزيهة بقائمة مفتوحة (متعددة الدوائر)،

وبالتالي يستطيع المواطن ان ينتخب من يراه مناسبا لخدمة محلته أو قضاءه أو مدينته، بينما الانتخابات التي جرت ركزت الأسلوب القبلي والعشائري لإدارة الدولة،

فصار ابن شيخ العشيرة ( مع تجاهل وجود أشخاص متنورين في هذه العشيرة)  عضوا في البرلمان أو مجالس المحافظات، ممثلين للعديد من المدن، أليس غريبا في دولة مثل العراق يكون أحيانا أكثر من نصف

 أعضاء مجالس محافظاتها ومحافظيها من أبناء القرى والأرياف،  (وذلك بالطبع ليس عيبا اجتماعيا إن كان طبيعيا)،

 ولكن حال القرى والأرياف عندنا لا يرقى لكي يكون أبناءها البسطاء قادة لمدن مخربة تحتاج إلى الإصلاح الجذري وفي مختلف المجالات وعلى كل الأصعدة،

 (هذا فضلا عن تقديم ولائهم القبلي والعشائري على ولاء الوطن وواجبات المهنة، حتى قيل إن عدد من أعضاء احد مجالس المحافظات طالب بتغيير مركز المدينة إلى القضاء الذي يسكنون فيه،  لأنهم أكثر من أعضاء المركز)،

والكل يرى حال محافظاتنا الحالية، وأسلوب إدارتها المتخلف، وقد نقل لي احد الموظفين في احدى المحافظات بان الموظفين يطلقون على كادر محافظتهم بحكومة القرية، لكثرة الموظفين القادمين من خارج المدينة!

 (عندما سأل أعضاء مجلس احدى المحافظات قائدا للشرطة لماذا لاترتب مديريتك وتضبط سلوك أفرادها، قال لا أستطيع أن أعاقب أو أتكلم مع ضابط  أو حتى شرطي بسيط لانه يهددني بعشيرته)

إن التاريخ لن يغفر خطأ تدمير أسس المجتمع المدني في العراق، فلازالت هناك قواعد اجتماعية مشتتة لكنها مؤمنة بالحياة المدنية العصرية، ترغب بإيقاف عملية استمرار تقسيم الولاءات الاجتماعية والدينية لزعزعة وعيها الوطنية، وتتمنى على الحكومة والأحزاب والشخصيات الوطنية  إن تعمل على منع أو ايقاف الزحف الريفي والتراث القبلي للمدن،

عبر حملة اعمارية وثقافية واقتصادية شاملة تكون قابلة لتطوير أبناء القرى والأرياف، لتفكيك الولاء القبلي والعشائري (الولاء المسيس أو المستغل حكوميا أو حزبيا)  الذي يهدد البناء المدني للدولة الحديثة،

لتصبح هذه المناطق بمستوى المدن العصرية، لتقليل الفوارق الاجتماعية والثقافية بين الريف والمدينة، وقد أثبتت التجارب الغربية نجاح تلك الخطط الحضارية الرائعة،

التي أدخلت النظام الإداري والتعليمي والثقافي والتكنولوجي إلى جميع المناطق الريفية (فصار الريف عندهم أكثر تطورا من العديد من المدن والعواصم الشرقية أو العربية، بل يمكن للمرء ان يقول لا ريف في دول الغرب، بل هي مدن عصرية)،

ففي العراق تجد إن الأعراف العشائرية والقبلية سائدة في فض النزاعات والمشاكل الاجتماعية التي تحصل في المدن، وهذه كارثة اجتماعية يجب ان يتصدى لها المثقفين من السياسيين وأصحاب الفكر الاجتماعي الحديث

 (مع إن بعض الأنظمة الغربية لديها قوانين متعلقة بفض النزاعات والمشاكل الاجتماعية المستمرة عندنا، كمسألة التعويضات لدية المقتول أو المعاق أو الشخص المتضرر لأي سبب كان،  كل تلك الإشكالات تكفل بحلها الضمان والتأمين  الحكومي أو الخاص، حتى في مسألة الاعتقال الخطأ من قبل أجهزة الشرطة، أو الموت الخطأ في المستشفيات، هناك تعويضات حكومية تكفل للجميع حقوقه دون الرجوع إلى الصدامات الشخصية أو العائلية)،

لأنها تجعل سلطة رابعة متداخلة مع اعرق واهم سلطة سيادية مقدسة لأي بلد، إلا وهي سلطة القضاء

فكل شخص أو سياسي يساند عودة السيطرة القبلية للمدن، أو يدعم تدخلهم في العمل السياسي، فهو مراهن خاسر يبحث عن مقومات البقاء على حساب تقويض بناء الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة،

وفي عرف الثقافة السياسية يعد خارجا على الأعراف المدنية، التي يجب إن تبعد التدخلات الدينية والقبلية والاثنية وحتى الشخصية عن مجال عملها السياسي ......................

المشكلة الأخرى التي تعاني منها بلداننا المتخلفة سياسيا، هو التحالف الثلاثي الخطر بين رجال السياسة والدين والقبيلة، لان السلطتين الدينية والقبلية سلطتين تعارضان المبادئ الأساسية لإقامة أي مجتمع مدني متحضر، فبالنسبة للتدخلات الدينية في السياسة لدينا تعريفان لهما،

الأول الذي يذهب إلى تبني طرحه العديد من دعاة المجتمع المدني أو الدولة المدنية،   بأن تبتعد التشريعات الدستورية المدنية عن أي إشارة إلى شروط توافقها مع التشريعات الدينية المقدسة، لأنها من وجهة نظرهم تعيق انطلاق القوانين الوضعية المتناغمة مع روح العصر الجديد أو الحديث، وهذا أمر يطول نقاشه ونرفض بعض أدبياته،

أما الطرح الأخر فيقصد بفصل الدين عن السياسة، إبعاد رجال الدين عن التدخل في الحياة السياسية العامة، بحيث تكون هناك شروط ومواد واضحة في دستور الدولة لاتسمح بسن أي تشريع يتعارض مع الشريعة الإسلامية،  (وهذه جوانب تحتاج إلى توضيحات مفصلة ليس مجالها ألان)،

فكيف إن تلاعب السياسيين بهذه الأوراق (القبلية والدينية)  بغية الوصول إلى كرسي الحكم، وخصوصا إن القبائل العربية أو العراقية (وحتى الكردية والتركمانية والأقليات الأخرى) لديها روابط قوية مع مرجعياتها الدينية أو الاجتماعية والسياسية،

وهذه الانقسامات الاجتماعية لايمكنها ان تبني مجتمع مدني يؤمن بالحقوق والحريات الفكرية والثقافية والدينية للإفراد والأقليات الأخرى،

بل الكل يعمل لمصالحه الفئوية والحزبية والاثنية أو العرقية، دون الاكتراث لما تعنيه هذه التوجهات الاجتماعية الانعزالية المغلقة، التي لن تكون أساس متين لاستمرار تقدم المجتمعات، وتطور بناء دولة المؤسسات، لأنها دائمة الاصطدام بتلك المعوقات الاجتماعية المرسخة أو المدعومة سياسيا .

السياسي الوطني الشجاع هو الذي يستغل هذه الفوضى العارمة في العراق الجديد، لكي يضع بمساندة الطبقات الاجتماعية المدنية المثقفة أسس الدولة المدنية، من خلال التشجيع على تغيير صورة التوجهات السياسية السابقة، عبر مواصلة الجهود لتشريع قانون الأحزاب، وقانون الانتخابات المفتوحة للدوائر المتعددة

 (كل مدينة أو قضاء لها مرشح من نفس المنطقة بشرط إن يكون من سكنتها لفترات طويلة)، والسماح لوسائل الإعلام المختلفة بتجاوز الحدود التقليدية المعيقة لعملهم، مع توفير كافة المستلزمات والضروريات القانونية والقضائية والعملية المتعلقة بتسهيل مهمة الوصول إلى المعلومة، وحمايتهم من الاعتداءات المتكررة عليهم من قبل حمايات المسئولين (وحمايتهم من كواتم الصوت)،

تشريع قانون منع تسليح العشائر وسحبه منهم، مع العمل على إدخال عدد من  أبناء تلك القبائل العراقية في مختلف الأجهزة الأمنية بما فيها وزارة الدفاع، تشكيل لجان خاصة لتوسيع وتطوير القرى والأرياف

 (عبر شق الطرق السريعة والواسعة فيها-إيصال خطوط شبكات السكك الحديدية إلى مناطقهم-وبناء المؤسسات والمراكز الحكومة التعليمية والصحية والثقافية الفرعية هناك- تعزيز أجهزة الشرطة وسلطة القضاء لديهم- الخ.)

إنها مهمة وطنية خالصة لإنقاذ العراق من الانهيار الاجتماعي والسياسي، من العيب إن تترك الكفاءات العراقية خارج الوطن، ويجلب مزوري الشهادات من المستنقعات الرديئة إلى حواضر السياسة المدنية، ليستكملوا مع الفاسدين مهمة تدمير هذا البلد ونهب ثرواته، لأنهم لايعرفون حجم المسؤولية التي يتصدون لها،

إنها مسؤولية عظيمة، لبناء وطن وأمة ومجتمع، ودولة تحتضن الجميع، ولاتحتاج إلى عكاز القبائل، أو سلاحهم وأهازيجهم الراقصة !

 

مهدي الصافي

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2170 الثلاثاء 03/ 07 / 2012)

في المثقف اليوم