قضايا وآراء

الأعمار والأرزاق الأنسانية .. هل هي محددة بفلسفة الدين؟ / عبد الجبار العبيدي

وهنا ألغينا العلاج والصحة وتربية النفس على الصحيح ، وأستسلمنا للقدر المكتوب دون تحقيق. بهذه العقليات والتصورات الأعتقادية البالية علينا ان نعيش دون رأي من مصير.

علينا ان نفهم ان ليس كلمة  (كتب عليكم) جاءت محددة بوقت معلوم ،لأنها حين ورودها تأتي بمعنى مجموعة الشروط الموضوعية التي اذا أجتمعت بعضها مع بعض تخرج منها ظاهرة موضوعية معينة.وهكذا ترد كتب الموت والاعمار والاعمال في القرآن محددة بشروط موضوعية وليست بشروط أفتراضية ملزمة.فالنصر او الهزيمة ،الموت او الحياة،الغنى او الفقر لا يمكن ان يكون مكتوبا سلفا بل يأتي بشروط موضوعية في خدمة الانسان وليست مقدرة في التنفيذ.

يقول الحق : (ما كان لنفسٍ ان تموت الا بأذن الله كتاباً مؤجلا ...آل عمران145). لكن في الصلاة تأتي: (ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا،النساء103). عليك ان تلاحظ الفرق بين الآيتين في المعنى والتحديد؟

ففي الاولى جاءت بقانون القدرالرباني، اما في الثانية فقد جاءت برسالة ، والرسالة قضاء أنساني وليست بقدر لأنها اختيارية  لكنها جبرية التنفيذ. لذا فالموت لن يحصل الا اذا تجمعت شروطه الموضوعية ،وهذه الشروط يمكن ان تؤجل الى وقت اخر اذا راعى الانسان شروط الصحة والاعتناء بالنفس. والطب المتقدم اليوم يلعب الدورالفعال بصحة الانسان ،ولهذا خفت الوفيات اليوم في الدول المتقدمة لمراعاتهم مراقبة صحة مواطنيهم دون أنقطاع ووضعت القوانين والخدمات الطبية لهم دون تمييز، حتى ان الدول المتقدمة تعتبر وزارات التربية والتعليم والصحة  والبيئة هي الوزارات السيادية في الوطن،  بعكس ما نعتقد نحن اليوم ان وزارات الدفاع والداخلية والامن هي الوزارات السيادية لأرتباط عقولنا بقانون القوة والسيطرة على المواطنين. من هنا ارتفع متوسط الاعمار عندهم ،لذا قال الحق عن الموت  :( كتابا مؤجلا) ، بينما قال عن الصلاة : (كتاباً موقوتاً).

لقد آن الآوان للمسلمين ان يفهوا ان الأعمار غير ثابتة، وعلى الحكومات والاطباء والمراكز الصحية والتربوية  ان تتحمل مسؤلياتها  تجاه حياة الناس وتعليمهم ونشر المعرفة والعناية التامة بمواطنيها،فالهدف ليس جمع الاسلحة وشراء ادوات الدمار والمشروعات غير النافعة، بل تخصيص الميزانيات للتربية والصحة كما في اليابان اليوم التي تعيش بلا جيش قوي لكنها من ارقى الدول في الصحة والبيئة والتعليم.

من هنا ندرك لماذا كانت عقوبة القاتل هي القتل، لمساهمته بأنقاص عمر القتيل. يقول الحق : ( ...من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا). ورغم ان الشهادة كانت واجبة على المسلمين في بداية الدعوة الاسلامية لكن الرسول (ص) لم يأمر احدا من اتباعه بأن يذهب في مهمة أنتحارية لقتل نفسه والأخرين،وهذا أمر محرم في الأنتحار لقوله تعالى :(  ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما،النساء29). فأين لنا اليوم من المتزمتين الاسلاميين (القاعديين) المسخرين لقتل النفس الأنسانية بدون ذنب جنته املا في جنة المتقين كما يعتقدون خطئاً.

ويقول الحق :( قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا،التوبة 51). هنا تظهر الشروط الموضوعية بأحلى صورها فلا حدث الا بها مجتمعة، كالموت بمرض يستحيل علاجه، والهزيمة بعامل التقصير وعدم الأيمان بالذي تقاتل من أجله ،لذا هزم جيش العراق في المعركة لا لكونه كان  ضعيفا، لكن لكون ان القائد كان مهزوما في قلبه واردتة، ففضل نفسه على الوطن،فلو لم ينهزم القائد لما أنهزم الجيش والوطن ،هنا تأتي مرتبة الخيانة والجبن في النفس والعقيدة وليس في الهزيمة نفسها،فهل هذه الهزيمة مكتوبة عليه سلفاً.

ان المؤمن قد ينتصر وقد ينهزم ،لكن الهزيمة لن تحتل قلبه ونفسه لأيمانه بالعقيدة والوطن،فقد أنتصر محمد (ص) في بدر وانهزم في اُحد،لكنه عاود الأنتصار مرة اخرى حتى تحقق النصر الأخير، وبهذا يقول الحق :( لكيلا تأسواعلى ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختالٍ فخور الحديد 23). انها فلسفة القرآن اليقين،فأين لنا منها اليوم؟ ان الذين يفلسفون التغيير المدمر بالتحرير، والاجل بالوقت المعلوم، والهزيمة والنصر، بالتكهن الموقوت عليهم ان يثبتوا الدليل . سنبقى في عقولنا المتخلفة تضحك علينا ثعالب السياسيين .

الأرزاق :

اما الارزاق : يقول الحق: (وفي السماء رزقكم وما توعدون،الذاريات 22). ويقول: (....نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخرياً ورحمت ربك خير مما يجمعون،الزخرف32).

ان الجهل بالتفسير عند فقهاء المسلمين جعلهم يعتقدون ان الارزاق مقسمة على الناس و محددة سلفاً ،فاذا فهمنا ذلك علينا ان لانقرأ ولا نكتب ولا نعمل  ونحن بأنتظار رحمة رب العالمين تنزل علينا من السماء دون تفريق؟ ألهذه الدرجة كانوا اغبياء جهلة بالدين؟ اذا فهمنا المعنى للآية بالجمع فهي صحيح لأن الله هو الرازق الكريم وان الخيرات لا تأتي الا من خيرات الطبيعة وكل وعود الله تأتي من السماء  ، لكن اذا فهمناها بالمفرد فالآية تعطينا قواعد التنظيم الاجتماعي المتحضر بأن الناس تمارس الأعمال المختلفة في الزراعة والتجارة والوظيفة ولكل منهم رزق معين غير متساوي مع الاخر، فهي ارزاق مجالات الحياة ولا غيرها (قسمنا بينهم معيشتهم.هنا جاء مفهوم التسخير(ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) فالذي يزرع مسخر، والمعلم مسخر والتاجر مسخر ،وكل واحدمنهم ينتج  ويكون مسخرا للاخر .هنا ترى المجتمعات المتحضرة كلها تعيش وفق هذه النظرية،فالأية الكريمة ليس لها علاقة بالتحديد المسبق للرزق فهو الطبيعة وخيراتها والانسان، لان عمل الانسان مقسم الى مهن بين الناس وهي تعتبر قانونا بالضرورة يحكم بينهم، ألم يكن هذا صحيح؟

ان الله جعل الارزاق محكومة بالتقوى والاعتدال والاستقامة  وليس بالغش والسرقة والمال الحرام والاعتداء على اموال المواطنين، ومن يتبعها يسهل له رزقه، لكن هذا التسهيل لا يكون الا من خلال الشروط الموضوعية  التي يعيشها الانسان ومدى تطبيقة لها.فليس ممكنا ان يساوي الله الجميع الا اذا كانون كلهم تقاة ملتزمين بوصايا السماء ومن هنا جاء النص (ومن يتقِ الله يجعل له مخرجا). ولقد ثبت بالدليل ان ما من مالٍ حرام دامَ لصاحبه ،وما من غشٍ انتفع منه،وما من قاتل الا وظهر ،وكلهم في الحياة  تكرههم حتى ثيابهم والناس أجمعين ،وماذا يبقى للأنسان اذا أستذلت كرامته وأهينت عزته ،المال،فلو نفع المال الحرام لنفع الفراعنة وصدام والقذافي وكل دكتاتوريات التاريخ . أنها الحكمة ،وهي حكمة رب العالمين.

لن تقوم لنا وللمسلمين من قائمة الا اذا انتزعنا التفسير من ايدي المفسرين وحولناه الى التاويل للعلماء المتخصصين مجتمعين كما في آلاية (7) من سورة آل عمران.لاأن القرآن فرق بين الحق والباطل والحلال والحرام،أي أعطى قوانين الوجود ،ولكن أين من ضرب كل شيء عرض الحائط من اجل الوجود؟ فهل سنبقى نحرث في البحر  ولا ثمر أم ماذا ؟.

د.عبد الجبار العبيدي

في المثقف اليوم