قضايا وآراء

شط العرب في معاهدة أرضروم وما بعدها / علاء اللامي

نشرت على صفحات العالم " العدد 656"، لمعاهدة "أرضروم" التي عقدت بين السلطات العثمانية والإيرانية سنة 1847، بتدخل بريطاني وروسي، حيث تمَّ تشكيل لجنة تضم الأتراك ومندوب إيراني مطلق الصلاحيات، وبعد أربعة أعوام من المفاوضات تمَّ التوقيع على المعاهدة.  و ( طبقا للمادة الثانية  منها فإن الحكومة العثمانية، تعهدت رسميا أن تتنازل عن مدينة وميناء المحمرة "خرم شهر"، جزيرة عبدان، ومرفأ جزيرة عبدان، وكذلك الأراضي التي هي على يسار "شرق" ضفة شط العرب، والتي هي تحت ملكية العشائر المعترف بأنهم تابعين أو خاضعين لإيران. السفن الإيرانية لها الحق في الملاحة في شط العرب من البحر ولغاية الحدود التي تلتقي معا لكلا الطرفين. وفي المقابل، فإن الحكومة الإيرانية تنازلت عن كل أدعاء أو مطالبة بإقليم ومدينة السليمانية). ولكنَّ بنود هذه المعاهدة لم تطبق، وأعاقت الخلافات بين الحكومتين الإيرانية والتركية تشكيل اللجنة التنفيذية، وقد تمَّ توقيع اتفاق آخر للحفاظ على الأمر الواقع السابق للمعاهدة فقط، بانتظار التوقيع على اتفاق نهائي لضبط الحدود بين البلدين، وهو ما لم يتم حتى سنة 1911، حينها تم توقيع بروتوكول طهران، وإنشاء هيئة تركية إيرانية لترسيم الحدود ورفع أي خلاف ينشأ إلى محكمة لاهاي.     

وحين كادت المفاوضات تنهار، تدخلت بريطانيا وروسيا وصاغتا ما سمي " بروتوكول القسطنطينية في 16 تشرين الثاني 1913 لتخطيط الحدود. وبموجب البروتوكول الجديد، تم تعريف " النهاية الجنوبية للحدود" كالآتي (الحدود تتبع خط المياه المتوسط لقناة تشيين Chaiyin Canal،  وإلى أعلى النقطة التي تعيد التحام الأخيرة مع شط العرب عند مصب نهر نزيلة. ومن هذه النقطة فإنَّ الحدود تتبع شط العرب إلى البحر تاركة تحت السيادة العثمانية النهر وجميع الجزر فيه مع خضوع ذلك لعدة شروط والاستثناءات الآتية) تتعلق تلك الشروط والاستثناءات بمجموعة من الجزر وميناء المحمرة. 

و تمَّ تعريف حدود الميناء بـ "الميناء الحديث، والمرفأ عند المحمرة"، عن طريق تخطيط أو رسم  الحدود التي ينبغي لها ان تتابع "التالوك" عند نقطة التقاء شط العرب مع قناة تشيين، إلى أسفل نقطة مقابل (طويجات)، حيث ينبغي لها أن تعيد الاتصال مع مستوى الماء المنخفض على الضفة الشرقية. وعلى الرغم من كلِّ هذه التنازلات التي قدمتها تركيا العثمانية باسم العراق، والتي خسر هذا الأخير بموجبها مناطق شاسعة من جنوبه، تمثل اليوم الخزين النفطي والغازي الوحيد لإيران، كانت – هذه المناطق - على الدوام ومنذ العصر العباسي، جزء من العراق كعبادان التي يعتبرها المثل الشعبي العراقي نهاية حدود أرض السواد والقائل "وما كو وراء عبادان قرية "، والأحواز والمحمرة وقد استشهد بهذا المثل المفكر الراحل هادي العلوي في دراسة له تطرق فيها الى جغرافية أرض السواد، ولكن إيران ظلت تماطل وتناور وتريد الحصول على المزيد ولم يعترف بتسوية الحدود ولا هي رفضتها ورفعت الخلاف إلى محكمة لاهاي وهذه هي عقلية الدبلوماسية الإيرانية والتي تدعى في أيامنا "دبلوماسية نسج السجاد"، والتي تعتمد المناورات والحيل والنفس الطويل حتى تعصر الخصم عصراً وتحصل منه على كل ما تريد. فعلى الرغم من أنَّ السفير الإيراني قام بتوقيع البرتوكول دون تحفظ، إلا أنَّ ذلك لم يكن هدف أو نية الحكومة الإيرانية، وقد اشتكى لاحقاً  وزير الخارجية الإيرانية لوزير الحكومة البريطانية في طهران في 26 كانون أول 1913 قائلاً (إنَّ الحكومة الإيرانية قد وافقت - فقط - على قبول تسوية الحدود التي تم التوصل اليها في القسطنطينية، بشرط أنْ تكون سيادة أيران وحقوق الملاحة في شط العرب محافظَاً عليها. ولأن ذلك لم يتم بسبب الصياغة السيئة للتعليمات التلغرافية المرسلة للسفير الإيراني). بمعنى أنهم رفضوا تنفيذ ما وقعوا عليه دون تحفظات بسبب "الصياغة السيئة للتعليمات التلغرافية" المرسلة إلى سفيرهم، أما الهدف الحقيقي فهو المطالبة بالسيادة الكاملة على شط العرب والحصول على حقوق الملاحة فيه!

لقد دأب الإيرانيون على التصريح، بأن بروتوكول القسطنطينية لم يكن ملزما لهم، لأنه لم تتم المصادقة عليه، سواء من قبل الحكومة الإيرانية طبقاً للعرف الدولي، أو من قبل المجلس، والذي يستوجبه الدستور الإيراني.

كانت السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى مباشرة، تتميز بنزاعات حدودية متكررة بين إيران ومملكة العراق الجديدة. غير أنَّ هذه النزاعات لم تؤثر على حدود شط العرب لأنَّ الحكومة الإيرانية لم يكن لها سوى سيطرة مباشرة ضعيفة  في عربستان حيث شيوخ المحمرة، وملك العراق العربي لديه علاقات قوية مع بريطانيا وقريبة من حكومتها وتمتع بحكم ذاتي فعلي. وبعد ذلك تصاعدت حدة الاستفزازات الإيرانية  في شط العرب، وأصبح مسؤولو الجمارك الإيرانيون والشرطة يُسيِّرون دوريات في النهر، "ويعود ذلك" جزئيا كنتيجة للترتيبات غير الرسمية بين الإيرانيين المحليين والسلطات العراقية، أما الجزء الآخر فهو يعود إلى تحدي صريح للحكومة العراقية. وفي سنة 1935 قررت الحكومة العراقية رفع الخلاف إلى عصبة الأمم ولكن محضر الجلسة لم يكن حاسما لصالح العراق، بل قرر المحافظة على الوضع القائم (Status quo ).

في سنة 1936، زار وزير الخارجية العراقي نوري السعيد طهران وقابل الشاه. وقد اقترح هذا الأخير أنَّ إيران ( ينبغي لها أن تعترف بالحدود الموجودة في شط العرب مقابل المرفأ الذي يواجه "عبدان" (ب) ، كما ينبغي أن يستنبط خطة أو يتم رسمها لتنظيم الملاحة في شط العرب يشمل التفاصيل الملاحية في هذا المجرى المائي.

لخصت إيران إجابتها وأوصلتها في  كانون ثاني عام 1937 عبرت فيها عن الرغبة في التوصل إلى اتفاق يتضمن الاعتراف  ببروتوكول عام 1913، وفي ترسيم الحدود لعام 1914، شريطة أن يتم التنازل عن امتداد للماء مقابل عبدان، بطول اربعة أميال، وامتدادا  "إلى منتصف شط العرب أو إلى "تالوك". وأنْ يبقى شط العرب مفتوحا للسفن التجارية لجميع البلدان، وللسفن الحربية العراقية والإيرانية. وأن يتعهد كلا الطرفين بالتوصل إلى اتفاق يتعلق بتنظيم الملاحة، "وإنشاء" مجلس تنظيم الملاحة "في شط العرب". إنَّ هذه الملاحظات قدمت أساس المعاهدة التي تم التوصل اليها لاحقا بين البلدين في الرابع من تموز عام 1937 . وأنَّ شروط المعاهدة تختلف عن تلك التي تمَّ وضعها في المذكرة الرسمية الإيرانية فقط، في حدود المرفأ في عبدان، حيث تمت الإشارة رسمياً ولأول مرة و نصاً بأنْ تكون إلى "التالوك" أي أعمق خط يمر في وسط النهر كررت المعاهدة  القول بحق كلا الطرفين باستخدام النهر في جميع مجراه.

-تمضي الوثيقة البريطانية قائلة،  إنَّ معاهدة عام 1937 ، يبدو قد تم من خلالها تسوية مسألة الحدود بشكل نهائي وحاسم. وبالتنازل لإيران عن مرفأ أبعد من عبدان، وبالتأكيد على حق إيران في الملاحة في جميع النهر، فإنه يكون قد ذهب بعيداً نحو إزاحة العوائق العملية والتي كانت سابقا سببا للنزاع. وكما يبدو فمنذ ذلك الحين، كانت إيران مستعدة لقبول خط الحدود الأخير كما تمَّ رسمه في المعاهدة.

لكنَّ مسألة تنظيم الملاحة بقيت مسألة غير محلولة. وبسبب عدم الصمود أمام الجزء الخامس من المعاهدة، لم يتم تحقيق أي تقدم باتجاه التوصل إلى اتفاق لتنظيم الملاحة. من جهتهم فإنَّ العراقيين، وبالاعتماد على الجزء الثاني من ملحق المعاهدة، واصلوا تحمل مسؤوليتهم لغاية هذا اليوم، بأنْ يكونوا مسؤولين من خلال الوكالة لإدارة ميناء البصرة عن جميع الأمور المتعلقة بتنظيم الملاحة و بالملاحة نفسها في شط العرب بما في ذلك الأجزاء الواقعة تحت السيادة الإيرانية.

ورغم كل التنازلات التي قدمها الطرف العراقي في أرضه ومياهه، فإن الوثيقة البريطانية تلقي باللوم – الجزئي - عليه فتقول ( وهكذا فإنَّ إخفاق الأطراف في التفاوض حول أتفاق يمكن عزوه جزئياً إلى إعاقة العراقيين، والذين هم بشكل عام راضين عن الأمر الواقع المؤقت (Provisional status quo)،  لكن السبب الأخر أيضاً هو إصرار حكومة البريطانية على شكل ما من المشاركة في السيطرة على شط العرب).

في الفقرة الأخيرة، السادسة عشرة، من هذه الوثيقة يستنتج محررها الآتي (يبدوا أنّ هنالك القليل من المبررات التاريخية للادعاءات الإيرانية حول السيادة على نصف شط العرب. وأنَّ جميع الدلائل تشير إلى أنه، وحتى لغاية أواسط القرن التاسع عشر فإن الشط كان نهرا تركيا. ولم تكن ذلك حتى عقدت "معاهدة أرضروم" التي أكدت أنَّ إيران اكتسبت حقاً شرعياً في النهر. يبدو من السياق أنَّ الترجمة الصحيحة لهذه العبارة هي "ولم تعد كذلك حتى عقدت "معاهدة أرضروم" التي أكدت أنَّ إيران اكتسبت حقا شرعيا في النهر". ونعود إلى نص الاستنتاج لنقرأ  (ومنذ ذلك الحين، استخدمت موقعها كطرف يتمتع بالسيادة على الضفة اليسرى"الشرقية" للشط، ثم لتحصل في عام 1914 على سيادة على جزء أبعد من المحمرة، ومن ثم بعد ذلك أي في عام 1937 أخذت تنازلاً شبيهاً أبعد من عبدان. وكانت الكارثة الكبرى حين تنازل صدام حسين عن نصف شط العرب وضفته الشرقية بالكامل ومعها امتيازات أخرى بموجب اتفاقية الجزائر سالفة الذكر. لقد ضغط الإيرانيون من أجل التعجيل بترسيم اتفاقية الجزائر  وسارعوا إلى تسجيلها في الأمم المتحدة، ثم، وخلال حرب الثماني سنوات مزق صدام المعاهدة وسحب اعترافه بها، و مع نهاية الحرب، عاد صدام واعترف بها فكانت آخر طعنة يوجهها هذا الدكتاتور للسيادة العراقية على هذا النهر العراقي البهي مستكملا ما كان قد بدأ به نوري السعيد.


*كاتب عراقي

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2221 الاربعاء 19/ 09 / 2012)


 

في المثقف اليوم