قضايا وآراء

الأباضية ونظرية الأعتدال ..؟ / عبد الجبار العبيدي

واراد ان يكون موضوعه علمياً متجرداً،لان العاطفة تشمل الباحث نفسه ايضاً، فكيف الحال اذا كان البحث فكرياً وعاطفياً في آن واحد . فأنه من العسير جداً على الباحث المتجرد ان يصل الى نتائج يعترف بها الكثيرون، ويظن أنه قد توصل الى حقائق علمية ثابتة. وهذا ما اشعر به عند بحثي عن الاباضية كفرقة اسلامية بدأت كحركة بسيطة حول خلاف او نزاع في موقعة حربية، وبعد ذلك تعقدت وتطورت وأصبحت ذات أفكار لها شأنها في حياة الانسان المسلم من العلماء المؤلفين والشعراء البارزين الذين تركوا لنا مكتبة واسعة في الفكر الاسلامي والادب العربي .

 

من هنا تظهر اهمية دراسة حركة الفرقة الاباضية وامثالها من الدراسات،بل يتجلى لنا من خلال دراستنا مراجعة المؤلفات التي سبقتنا في مثل هذا الموضوع حيث تظهر لنا الكثير من الاختلافات في الراي حول هذه الفرقة،حركة تاريخية وموضوعاً ثقافياً وظاهرة اجتماعية لها كبير العلاقة والاتصال بالسياسة أيضا.ومن هنا ولكثرة الاختلافات سواءً كانت صادرة من المذاهب المعترف بها او الفِرق التي لازالت واندثر قسم منها وبقي البعض الاخر،أنها من أهم وسائل الهدم والتخريب للعقيدة الاسلامية وهذا غير صحيح ويحتاج الى تدقيق واعادة نظر، لان كل موضوع صادر من العقل ويتميز بالعمق والشمول لابد وان يكون عرضة لاختلاف أراء المعتنقين او المنتمين الى هذا الدين الاسلامي الحنيف ومبادئه روحاً وشكلاً بعد ان فرقته الفِرق. ولذا كان من بين الطوائف المختلفة طائفة تنزع الى الاجتهاد وتدعو اليه ولكن بشروط ليست يسيرة ينبغي ان يتصف بها المجتهد قبل اتخاذ طريق من الطرق والوسائل التي تنتمي الى الاصل الام في الديانة الاسلامية .ولذلك يمكننا اعتبار تلك الاختلافات الاجتهادية القيمة التي تعتمد على المنطق وتستمد واقعها من التجرد والنزاهة،انها لا ضير ولا خوف منها على الاسلام،وأنما هي ثراء ينمي العقيدة الاسلامية ويجدد فيها الروح والفكر عبر الزمان.

 

ونحن في الوقت الذي نعترف بأن هناك من النزعات والاتجاهات التي طرأت على الاسلام كدين،وأتخذت طريقاً منحرفاً عن أصوله الجذرية .فأنه يصدق عليها للاية الكريمة (اما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض،الرعد 17). ولذلك فقد زالت بعض تلك التيارات أو النزعات بأصحابها مثل الكيسانية والمسلمية والازارقة وغيرها من النزعات الاخرى.

 

الاباضية والاعتدال

ولعل من اول اسباب بقاء الاباضية الى القرن الحادي والعشرين - قرن الحضارة الفكرية المتقدمة – على الارجح هو الاعتدال الذي تميزت به هذه الفرقة عن باقي الفرق الاخرى، كالازارقة والنجدات مثلاًوالتي أتخذت من العنف وسيلة لتحقيق أهدافها كما في القاعدة اليوم،وربما يظن أو يتوهم بعضنا بأن الاعتدال مرحلة سهلة الوصول اليها أو يسيرة التحقيق،لان الاعتدال كما نعرف هو من الصعوبة بمكان في حياتنا الفردية تطبيقه،حيث تسيطر على الانسان مجموعة من النزعات والانفعالات الكامنة أوالقوية فتأخذ بيده نحو الانحراف او الخروج عن مرحلة الاعتدال،والذي يدلنا غلى قيمة هذه المرحلة وصعوبة التحلي بها هو ما جاء على لسان أفلاطون في محاورته لطلابه حين سأله احدهم عن (السعادة) فأجابه بكل هدوء واستقرار وبصوت دقيق وهادىء من أعماق فكره: (السعادة يا بني هي الاعتدال في كل شيء).

 

والى هذا المعنى السامي اشار القرآن الكريم في محكم آياته بقوله تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا،الاسراء أية 29). اذ لم يقصد هنا في غل اليد وبسطها الجانب المالي والاقتصادي فحسب وانما يشمل جميع مطالب الحياة وآفاقها البعيدة والقريبة.

 

ويجدر بنا ان ننبه السامع والقارىء الى ان الاية الكريمة قد وردت بصيغة النهي وليست كما وردت بالصيغة التي جاءتنا من افلاطون فقد كانت صيغة خبرية تحتمل الخطأ والصواب اذ بين الصيغتين فرق لا يخفى على السامعين او القراء.

 

ان ظاهرة بقاء فرقة الاباضية ومواكبتها لمختلف العصور الاسلامية منذ النشأة الاولى وحتى الان دليل واضح على طواعية فكر هذه الفرقة ومدى فائدتها للانسان المعتنق لها وتحقيق متطلباته الحياتية.

 

الاباضية وما سمي خطئاً بفرق الخوارج ....

وثمة حقيقة هامة نود طرحها للمناقشة الا وهي: لماذا تلاشت سائر الفرق التي سميت بالخوارج خطئاً سواءًعلى المسرح السياسي او الوجود الجماهيري منذ قرابة نهاية القرن الثالث الهجري،بينما ظلت الاباضية وعمرت سواءً في شكل كيانات مستقلة نافحت عن وجودها رغم ضراوة الصراع مع الحكومات الاسلامية المتعاقبة،بل ان السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه –في هذا الصدد- هو لماذا ظل المذهب الاباضي الى اليوم مذهباً لجمهور لا بأس به من المسلمين سواءً في المغرب أو في عُمان.

 

ان هذا السؤال لا ينطلق من فراغ خاصة اذا علمنا ان أهل سلطنة عُمان ما زالوا لحد الساعة اباضية،كما ان المذهب الاباضي لا يزال له أتباغه في شرق أفريقيا.

فأذا ما عدنا الى المغرب المعاصر نلاحظ ان جماعات من الاباضية لا تزال تعيش في كيانات اجتماعية - لا سياسية - سواءً في وادي الميزاب بالجزائر او في جبل نفوسة في ليبيا وجزيرة جربه في تونس.

ثم وهو الاهم ان سائر هذه الجماعات تشكل مجتمعات منغلقة على نفسها او ان شئت جيوبا وسط بحر من اهل السُنة والجماعة.كما انها تنفرد بتقاليدها الخاصة وأنماط حياتها المميزة التي تشكل منها تجمعات تجارية بالدرجة الاولى تأسيسا على ان المذهب الاباضي في جوهر فقهه يحض على الاشتغال بالتجارة فضلا عن النمط الثقافي المتميز الذي ينهل ما شاء من تراث الاباضية الفكري والروحي الثري.

 

والاخطر من ذلك ان هذه الجماعات تتميز فيما بينها بالوحدة في المشرق والمغرب على السواء بوشائج متينة من العلاقات الثقافية بالذات.وحسبنا ان نردد ما سبق ولاحظه (المؤرخ ما سكراي والمؤرخ سمث) من ان هذه الجماعات الاباضية المعاصرةلا تُطلع احدا من غير معتنقي مذهبها على تراث السلف الصالح من الفقهاء الاباضية،وحينما ألتقيت بسفير سلطنة عُمان في دولة الكويت عام 1986 سألته هذا السؤال،لماذالانكماشية في المذهب، فأجاب هذا هو مذهبنا ونحن مسئولون عن تطويره والاحتفاظ بمبادئه خشية تلويثه بمبادىء الاخرين . والاخطر من كل ذلك ان هذه الجماعات لا تزال تعانق حلما سياسيا طوباويا وهو ان العالم الاسلامي سوف يتوحد لا محالةعلى يد امام آباضي ليملىء الارض عدلا بعد ان ملئت ظلماً وجوراً، وهنا يلتقون مع فرق اسلامية اخرى في نظرية (المخلص المنتظر) - مع الفارق في التطبيق- وهذه صفة اعتقادية حقيقية مطبقة عندهم الان فلا يوجد في دولة عُمان من هو تحت العوز المادي والظلم القانوني،ومن وجهة نظر الكاتب انهم يمثلون الواقع تطبيقا .

 

وللحركة الاباضية دعامتين رئيسيتين هما: الأولى، الجانب الفكري المعتدل المتميز عن فرق التطرف الاخرى والذي ضمن لهم البقاء والاستمرار، والثانية،التجربة التاريخية الغنية التي امتازت بها عن سائر الفرق الاخرى.

 

ان فكر الاعتدال عندهم فكر عقيديا خالصا تمثل بعدم تكفير المخالفين،كما انهم يحرمون دماء المسلمين وسبي ذراريهم وغنيمة اموالهم،واعتبروا دور مخالفيهم دار توحيد الا معسكر السلطان فأنه دار بغي.وآجازوا مناكحة خصومهم وموارثتهم وغنيمة اموالهم من السلاح والكراع عند الحرب وحرموا قتلهم وسبيهم في السر غيلة الا بعد نصب القتال واقامة الحجة كما تعتقد السلفية الوهابية .وقالوا في مرتكبي الكبائر انهم موحدون وان كفروا كفر النعمة لا كفر الملة.

 

هذا الفكر المعتدل الذي تقرر في فكرهم ومعتقدهم وحياتهم جعلهم افضل من الفرق الاخرى التي لازمها التطرف في عقائدها مما جعلهم من اكثر الفرق الاسلامية محبة وتقربا من الاخرين حتى حسبهم المؤرخ (ميلر) هم اشتراكيو الاسلام،لما لاحظ فيهم من صدق العقيدة قولا وتطبيقاً.كما تميزوا بالتريث الحذر من اية ثورة لا تخدمهم اوقل تخلق لهم المشاكل مع الاخرين.ان فكرهم قل نظيره عند الفرق الاسلامية الاخرى من حيث التعقل والحكمة. لذا فأن دولتهم بنيت على العقل والحكمة في عُمان الحالية التي تعتبر اليوم درة تاج الخليج من حيث الأمن والاستقرار.

 

من هنا نلاحظ انهم لم يحققوا استقرارا سياسيا حسب بل نموا تجاريا كبيرا مبنيا على الصدق في القول والامانة في التصرف ولقد ساعدتها الجفراقية على تحقيق هذا الهدف .،أنهم رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه بعد ان تعاملت معهم اثناء وجودي في جامعات الخليج العربي .

في الختام اني اطمح لدراسة مفصلة في المستقبل لهذه الجماعة الرائعة فكرا وعملا علنا نجد طريقا ندمج فيه بقية الفرق الاسلامية التي لازال التخاصم والتباعد يحتل النصيب الاكبر من فكرها دون سند.

 

ويبقى االاعتدال صفة الاباضية على مرالزمن والى اليوم وهو عامل مهم من عوامل تقدمها السياسي والحضاري االتي تنفرد به دون الفرق الاخرى.

اما تهمة الخوارج التي الصقت بهم جزافا،فأن التسمية اصلا تسمية استشراقية لم تذكرها كتب التاريخ،لكن الذين خرجوا على الامام علي (ع) بعد صفين وقبل النهروان:هم كانوا من اخلص انصار الامام والمدافعين عن قضيته خصوصا وانهم يمثلون قطاعا متدينا،اذ ان معظمهم كانوا من القراءالذين عرفوا بالزهد والتبتل،وكانوا يرون مشروعية خلافة الامام علي باعتباره قد بويع بالخلافة بالفعل الذي اكتسب الشرعية،لكنهم خرجوا عليه حين قبل التحكيم مع معاوية فغادروا معسكره والتحقوا بموقع يقال له حروراء،لذا عرفوا باسم (الحرورية) على اعتبار انه قد فرط في حقه،لكن المصادر المعادية لهم من سنية اموية وشيعية علوية تحاول ان تحملهم مسئولية ارغام علي على التحكيم اولا،والتنصل من نتائجه ثانيا.

 

لكن الحقيقة لا هذا ولا ذاك،أنما الذي دفعهم على محاربته هو سوء فهمهم للحاكمية الالهية المطلقة ومغالاتهم في التفسير،حين رفعوا شعار (لا حكم الا لله) وقد تحولت الى حاكمية مطلقة في التصرف والمحاسبة والحكم لله دون النظر الى ادوات التطبيق والتنفيذ فانهم لم يكونوا على خلاف سياسي مع الامام علي (ع)ولكن خلافهم حول المبادىء وطريقة تنفيذها. لقد استجاب الامام لهم في بداية الحوار حين قال لهم : (نعم لا حكم الا لله ولكن من ينفذ ارادة الله في الارض)،فاصروا ونفذوا الخروج مما دعى الى عزلهم اولا ثم محاربتهم،وعندما انتصر عليهم وقتل منه الكثير وانسحب الامام الى الكوفة ندم الأمام على مقاتلتهم وكان في طريق العودة يردد الاية الكريمة(عسى الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم مودة والله قدير والله غفور رحيم،الممتحنة آية 7).

 

وعندي انه لولا الضغط والالحاح والظروف الصعبة التي احاطت بالامام بعد التحكيم لما اقدم على محاربتهم.وتعزيزا لهذا الرأي نلحظ اشارة في نهج البلاغة ج1 ص 144 طبعة بيروت،يقول فيها الامام علي(ع) لا تقاتلوا الخوارج -لايقصد الخوارج بالمعنى الديني لكن بالمعنى السياسي- فمن طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأدركه، ويقصد هنا معاوية بن ابي سفيان .

 

وخلاصة الرأي ان الاباضية ليسوا بخوارج وان التسمية عموما كانت خطئأً تلاقفته اقلام بعض المستشرقين الذين لم يدركوا المعنى العميق للنص في خطبة الامام علي (ع) . وسيبقى الامام والاباضية من رواد الاعتدال في الاسلام ابداً. ونقول اما آن الاوان اليوم لنشر الفكر الاباضي بين أصحاب الفرق الاخرى علهم يتخلصوا مما لحق بهم من نظرة سلبية نحو الاخرين،والتخلص من التطرف الديني والمذهبي .

والاباضية هي الفرقة الاسلامية المتميزة في تحقيق حقوق الناس دون تمييز،ومن يتابع المجتمع العماني اليوم يلمس ان العدالة الاجتماعية قد تحققت فيه ولا يمكن لمجتمع اخر ان يحقق ما حقق المجتمع العماني قياسا في التطبيق،هذا بالأضافة الى أنهم تخلصوا مما لحق بهم من افكار العنف او ما نسميه بفكر الارهاب اليوم الذي يتبناه التطرف،ليلتجئوا للحوار بدلا من السيف وهذه هي شروط الاستقرار في المجتمع الاسلامي الموحد .

 

للأباضية معنىً اخر في التاريخ أختبر بشكل حقيقي عظمة هذه الفرقة الاسلامية، وقوة هذه البلاد، تمثل في وحدتها امام التحديات المختلفة التي مرت وتمربها منطقة الخليج العربي بخاصة والعالم العربي بعامة،وانها منطقة تقع على مفترق الطرق البحرية المتنازع عليها بين ايران والدول النفطية ودول القوى العالمية.

 

ان كل هذه القوة والصمود في سلطنةعُمان الجميلة ناتج من ان أهالي عُمان ظلوا أوفياء لدينهم،و لوطنهم، ولمبادئهم، ولدولتهم، ولقيم السلام والتعايش الوطني الراسخة بينهم، لم يعرفوا الخيانة، ولم تغريهم الحياة، ولم يتعاونوا مع الأخرين ضد وطنهم، لم يكذبوا،ولم يماروا في أقوالهم، بعد ان حرموا على أنفسهم سرقة المال العام،والأستئثار بالسلطة،,lومحاربة المجاورين وسلب اموالهم، وابتعدوا عن كل تزوير، ووضعوه اساسا في مناهجهم الدراسية مبنيا على الحداثة والاستقامة، فتربت أجيالهم عليه، وحين سألت سفيرهم في الكويت بمقابلة خاصة كما ذكرتها أنفاً، قلت له: كيف أكتسبتم هذه الصفات الحميدة؟ فرد عليَ بكلمة واحدة لا غير: (هذا هو ديننا). وكأنهم يقولون بذلك: بأن مازال للأمل والتعايش السلمي مكانا بين الخليج وايران وبقية المجاورين، نتمنى لبقية دول الخليج العربي الاستقرار والتعاون مع المجاورين،ونزع الحقد والبغضاء من قلوب المواطنين،فهم في وضع بحاجة ماسة لكل الاخرين .فالثروة عمرها لم تكن قوة مالم تملك الدولة محبة وتسامح العلاقات مع المجاورين،هكذا نسيت فرنسا وانكلترا الموقف الالماني العدائي بعد الحروب الكونية لتعود أمة واحدة قوية بين أمم الاخرين .

هل استطيع أن اقول ان لهذه البلاد العُمانية أستثنائية خاصة بها ؟

أظنها كذلك .

 

د.عبد الجبار العبيدي

في المثقف اليوم