قضايا وآراء

بغداد الشعر والشعراء / عبد الجبار العبيدي

والعرب تختلف في لفظها، اذ لم يكن اصلها من كلامهم، ولا اشتقاقها من لغاتهم، فهي تعني بستان بالفارسية . وجاءت التسمية من باغ اسم البستان وداد اسم صاحب البستان.ولها اسماء كثيرة حسب لهجات العرب مثل بغداد وبغذان وغيرها كثير.

بنيت بغداد في عهد الخليفة المنصور العباسي سنة (145 هجرية)، وسماها المنصور مدينة السلام، ودام بناؤها أربع سنوات، واشتغل فيها عشرون الف عامل ومهنس وفني، وصرف على بنائها عشرون مليون درهم ذهبي.كان المنصور حريصا عليها وعلى ثروة الدولة، فكان يُحاسب العامل على الدونق- جزء من الدرهم- لذا سمي بالمنصور الدوانيقي، وحين مات المنصور ترك لأبنه المهدي من الأموال ما ان كُسر عليه الخراج عشر سنين تكفيه مئونة الجند والدولة .

قال المنصور في وصيته لأبنه محمد المهدي في رسالة مكتوبة له في بغداد وهو يودعها الى الحجاز لأداء الحج السنوي قبل ان يموت في الحجاز سنة 158 للهجرة. وهي تمثل حصاد خبرة الرجل في الحكم والسياسة، وهي أشبه ما تكون بالقوانين أو القواعد التي لا يراد لها ان تخرق قال فيها :

 

أياك يا بني والدم الحرام، فأنه حوب عند الله عظيم، وألزم الحلال وابتعد عن الحرام، فأن فيه غضب الله الذي لا يرحم، وأحكم بالعدل ولا تشطط، وأياك والأثرة، وتبذير الأموال، فأن النوائب لا ترحم فلا تنسى نصيبك من الدنيا، نصيبك من رحمة الله، فالحوادث غير مضمونة، والدنيا غير مأمونة، وهي من شيم الزمان، وخذ لنفسك بالتيقظ، وتفقد رعيتك، وسهل أذنك للناس، وكِل بهم عيناً غير نائمة، ونفساً غير لاهية، ولا تنم فأن أباكَ لم ينم منذ ان ولي الخلافة، ولا دخل عينه غمض، الا وقلبه مستيقظ.

 

وأردف قائلا: يا بني، لاتبرم أمراً حتى تفكر فيه، فأن فكر العاقل مرآته، تريه حسنه وسيئه، فالسلطان لا يصلح الا بالتقوى، ولا تصلح الرعية وتعمر البلاد الا بالعدل، ولا تجلس مجلسا الا ومعك من أهل العلم يحدثوك، وابتعد عن المنافقين والمرائيين فهم أعداؤك. وحاذر ان تظلم الناس، ولاتهادن الظالم، وأعلم أنك لن تأخذ من الدنيا غداً غير كفنك الأبيض وتنزل فيه قبرك بلا جيوب.

 

وقال :أنظر مدينتك بغداد، واياك ان تستبدلها بغيرها، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما أن كُسر عليك الخراج عشر سنين تكفيك مؤنة الجند والدولة، أحتفظ بها، فأنك لا تزال عزيزا مادام بيت مالك عامرا، أنظر الطبري ج8 ص 104 وما بعدها.

 

وصية رائعة تستحق القراءة والتقدير

أما الزوراء فهي مدينة المنصور الخاصة داخل مدينة بغداد المدورة. وعندما سئل الخليفة المنصور عن سبب تسميتها بهذا الاسم، قال: (لان الله هو السلام والمدن كلها له). وهي مدينة مدورة جميلة فيها اسواق عامرة يقصدها القاصي والداني، شمسها ساطعة، وهوائها عليل، وغرينها خصب نافع جميل، ظلت عاصمة العباسيين لمائة عام (132-232للهجرة) . بعدها انتقلت العاصمة الى سامراء على عهد المتوكل العباسي سنة 232للهجرة. وهي مدينة محصنة يحيط بها نهر دجلة ومجموعة الجداول التي حفرت حولها، تأتيها الميرة من كل جهة، من الشام والجزيرة والهند والصين عن طريق ثغرها الباسم مدينة البصرة الفيحاء عاصمتها الاقتصادية الجميلة.

 

وصل اليها العرب على عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض). فتحها القائد العربي المثنى بن حارثة الشيباني سنة 13 للهجرة.وكان اول من مصرها هو الخليفة العباسي المنصور، وجعلها مصرا عربيا، حين بدأ ببنائها سنة 145 وأكمل بنائها سنة 149للهجرة، وبنى قصره فيها وفي وسطها بنيت القبة الخضراء تعلو قصرها ولها اربعة ابواب هي:

 

باب خراسان من الشرق مخصصة لمن يدخلها من جهة خراسان .

وباب البصرة مخصصة لمن يدخلها من الجنوب الغربي.

وباب الكوفة لمن يدخلها من الجنوب الشرقي من منطقتي الاحواز .

 

2

وباب المغرب مخصصة لمن يدخلها من الشام والجزيرة.

بقيت مدينة بغداد عامرة وقبتها الخضراء شامخة حتى سقطت سنة 329 للهجرة على ايدي البويهيين الفرس، ثم انتقلت الى ايدي السلاجقة الاتراك سنة 447 للهجرة.،

لكنها ظلت بغداد هي العاصمة لخلافة العباسيين حتى السقوط الاخير عام656 للهجرة على ايدي المغول بعد ان انتقلت لفترة قصيرة الى سامراء على عهد المتوكل العباسي. ما تجاسر علىها احد ونقلها لمكان أخر، حتى لُعن الخليفة

المتوكل حين نقلها الى سامراء وسمى العاصمة بالمتوكلية ومات فيها كئيباً، واليوم تشتد المنافسة على دورها كعاصمة العراق بعد ان تحول النظام السياسي فيها الى الفدرالية لكنها ستظل عاصمة العراق لانها الرمز التاريخي له .ان التاريخ يقف حائلا دون نقلها من عرينها الى مكان اخر لاهميتها الاستراتيجية. قتل الخليفة العباسي المستعصم فيها وبنهايته انتهت خلافة العباسيين سنة 656 للهجرة على أيدي المغول.

وقيل في توصيفها انه :

لايموت فيها خليفة حتف انفه ابدا، حتى قيل فيها شعراجميلا نقتطف منه ما يلي :

بغداد تطول بها الاعمار وان غذاءها  مريءُ وبعض الارض أمرأ من بعضِ

قضى ربها ان لايموت خليفة  بها أن شاء في خلقه يقضي

ومن العجيب ان كل خلفاء بني العباس ماتوا بعيدين عنها، فالمنصور مات في الحجاز، والمهدي بماسبذان، والهادي بعيسباد، والرشيد بطوس، والامين في شرقها، والمأمون في بالمصيصة احدى نواحي الشام، والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر بسامراء وغيرهم كثير ماتوا خارجها.

تغنى بها الشعراء فهي جنة الارض، ومدينة السلام، ومُجمع الرافدين،، وغرة البلاد، وعين العراق، ودار الخلافة، ومجمع المحاسن والطيبات، ومعدن الظرائف واللطائف، وفيها ارباب الغايات من كل فن ولون، قال فيها الشعراء شعراً كثيراً :

بغداد يا دار الملوك ويا مجتنى الغنى   صنوف المنى يا مستقر المنابر

ويا جنة الدنيا ويا مجتنى الغنى   ومنبسط الامال عند المتاجر

سلام على بغداد من كل منزل   وحق لها مني السلام المضاعف

والله ما فارقتها رغبة مني لها   وأني بشطي جانبيها لعارف

 

3

ولكنها ضاقت علي برحبها   ولم تكن الارزاق فيها تساعد

ان اول مرة ذكرت فيها بغداد مدينة السلام على الدينار العباسي كانت في خلافة المأمون  العباسي سنة 198 للهجرة.واستمر النقد يعمل فيها حتى سقوطها على يد المغول سنة (656 للهجرة-1258م).

 

لقد ترك فيها المستعصم أخر خلفاء العباسيين من الاموال والذهب ما هالَ المغول من كثرتها، حتى قيل ان المستعصم سُجن فيها منفردا ولما جاع طلب الطعام فجاءه المغول بصحن من الذهب والجواهر وقدموه طعاما له، وحين أعترض عليهم بأعتبار ان الذهب والجواهر لا تؤكل، قالوا له: كُل مما جمعت يديك وحرَمتَ شعبك منها، فمات فيها متحسرا عليها ونادما، لكن الندم لا ينفع النادمين على فراش الموت.

 

بنى فيها المنصور ثلاثة جسور هي جسر بغداد الذي يحاذي سوق الثلاثاء، وجسر باب الطاق، وجسر دار العزية . ازدهرت فيها مهنة الطب، ومن اشهر اطبائها بختشيوع اليوناني، بجانب مهنة الطب العربي التقليدي المعروف انذاك . ثم ظهرت مهنة الصيدلة فيها في عهد المامون بعد انشاء دار الترجمة المسمى بدار الحكمة وهو المنجز الحضاري الذي خلد اسم الخليفة المأمون تاريخيا، وقد دفع المامون الذهب والفضة لكل من ألف وأبتكرفي العلم والآدب فجمع فيها من العلماء والوثائق والكتب ما عجزت عنه امبراطوريات كبرى في عهده حتى استحقت بغداد بجدارة لقب عاصمة الثقافة العربية الاسلامية، وتستحقه الآن رغم غبار الزمن. ساد فيها الامن العام وحفظت من الاعتداءات والسرقات، وقد شيد فيها هذا الخليفة المفكر والمثقف المحاكم القانونية لمحاكمة المخالفين للقوانين فيها حتى بات الاستقرار فيها شائعا. فالدولة لا تحفظ الا بالقانون .

وبسقوطها على يد المغول تحول تاريخها اليهم، الذي لم يدم طويلا حتى أنتزعت منهم وعادت الى اهلها كما كانت.

تنازعتهاالاطماع والصراعات الفارسية العثمانية التي انتهت بدحر الفرس عنها ومجيء العثمانيين اليهاسنة 1534 م واستقرارهم فيها، حين اصبحت جزءً من الدولة العثمانية حتى سقطت على ايدي البريطانيين سنة 1918 وبقوا فيها حتى تحررت منهم عام 1921 .

وفي العهد العثماني تدهورت الحالة الاجتماعية والاقتصادية فيها، لكنها انتعشت لفترة قصيرة على عهد الوالي العثماني مدحت باشا فبنيت فيها بعض المدارس، كمدرسة الصنائع، ومدرسة الاعداد العسكري، والمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية على أسس منهجية قويمة، وظلت تدرس اللغة العربية بجانب اللغة العثمانية فيها.والغريب ان منذ ذلك الوقت كا ن التدريس فيها مختلطا للبنين والبنات في مكان ٍ واحد .

مدينة ما عرفت في تاريخها الطائفية والعنصرية ابدا. البغداديون فيها متحابون متجانسون ومتصاهرون  ولم يعرفوا فرقة اجتماعية أو طائفية مذهبية أو عنصرية الا في عصرها الحديث، بعد ان فتحها الاجنبي وزرع فيها مزارع الشر والحقد والعنصرية والتي نرجو لها ان تزول، وعلى أهلها الشرفاء الذين ما أنفكوا يدافعون عنها وسيبقون حتى يعودوا بها لمكانتها الوحدوية، فهي مدينة ما أستهانت لغير أهلها، ولا مدت يدها لحاكم غاصب ابداً، واهلها ما هجروها قط الا غصباً عنهم أيام الأزمات الطارئة، انها مدينة الحرية والكرامة وقيم العروبة الاصيلة، وستبقى بغداد هي بغداد للعراقيين لا لغيرهم .

 

4

وبحلول عصر الاستقلال الوطني عام 1921 تغيرت الاحوال وعاد الانتعاش الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي اليها مرة اخرى بعد عهد الاستقلال الوطني عام 1921، فساد الامان والاطمئنان فيها . واخذت الحياة تتصاعد في مدارج الرقي والتقدم فيها رغم مواردها المالية القليلة حين ذاك.

وهي عاصمة العراق الابدية، فيها مجلسان هما، مجلس النواب المنتخب مباشرة من الشعب ومجلس الاعيان المعين من ذوي الخبرة والكفاءة والقيم المجتمعية الاصيلة، وعاش فيها العرب والاكراد والتركمان وكل الاقليات الاخرى دون تمييز.

لم نسمع يوما ان في العراق خلال عشرة عقود من تاريخها، ان هناك مناطق متنازع عليها بين المحافظات او المتصرفيات، بل ان الدولة العراقية قد حددت الحدود الادارية للمحافظات منذ بداية التأسيس عام 1932بعد ان تحرر العراق من معاهدة الحماية البريطانية (انظر جريدة الوقائع العراقية ). ان ما جاء بدستور العراق الحالي من ذكر للمناطق المتنازع عليها ووضع خاص لمدينة كركوك لهو خطأ كبير يضرُ بالعرب والاكراد معا وبالوحدة الوطنية. والأفضل ان تعالج المادة 140 النشاز وتلغى من الدستور العراقي فهي تتجاوز على الوحدة الوطنية.

أستمرت الملكية فيهامن عام 1921 حتى عام 1958 حكمها ثلاثة ملوك هم فيصل الاول وغازي الاول وفيصل الثاني الذي قتل فيها شابا لم يرى الحياة بعد حين تغيرت بأنقلاب عسكري قادته حركة الضبابط العراقيين بقيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم علم 1958، ثم ما لبثت الحركة الانقلابية ان تنازعتها الاهواء بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وهذه هي طبيعة الحركات الانقلابية، حتى جاء انقلاب حزب البعث الاسود عام 1963 .بعدها جرت محاولة اخرى لحزب البعث عام 1968 ونجحت واستمر الحزب في سلطة الدولة حتى سقوطه على يد الاحتلال الامريكي والمعارضة العراقية عام 2003 ولا زالوا يحكمون.

 

5

لقد أخطأ حزب البعث حين عدَ العراق مزرعة له دون الأخرين، ويخطأ كل من يسير على منوالهم في حكمه لها .ومع الاسف رغم جسامة الخسارة الكبرى في التغيير الأخير، لكن الوطن بقي على حاله دون تغيير، فشعبه هو هو، وكان بأمكان قادة التغييرالجدد - لو أنهم ما أختلفوافيما بينهم وطبقوا العهد والميثاق- ان يصنعوا منها دولة تضاهي الأمم في تنظيماتها الأدارية والقانونية لكثرة ما فيها من العلماء والكفاءات والمثقفين والمال الوفير وهي عناصر التقدم الحضاري الأكيد، فبغداد لها تاريخ ما عرفته المدن الاخرى ولا حتى امبراطوريات الرومانيين.

لقد تحسر عليها الاسكندر المقدوني فمات دونها، وتحسر عليها الخليفة سليمان القانون العثماني فمات دونها، وتحسر عليها كوكس البريطاني فطرد منها، واليوم يتحسر عليها كل الطامعين، لكنهم سيموتون دونها، فهي الحرة الابية التي تابى مذلة المحتلين، ولا ترضى بغير اهلها ولا يحكمها الا كل العراقيين.

 

6

واليوم نرجو لها ان تنتعش بغداد من جديد، والأنتعاش لا يأتي من فراغ او بالتمنيات، فالتمنيات لا تصنع وطن - وليس كل ما يتمنى المرأ يدركه ....-، بل نحن بحاجة ماسة الآن الى الوحدة الوطنية الصادقة و التكاتف والتعاضد والاعتماد على النفس العراقية والمخلصين الذين ندروا اليوم، والحفاظ على الثروة الوطنية دون تبذير، والاعتماد على المنتج الوطني في الزراعة والصناعة دون الاعتماد على الاخرين، والفكر العراقي المبدع الرصين .

ان الثبات على المواقف الوطنية والايمان بالمبادىء والحق رغم صعوبته اليوم تحتاج الى تبصر ووحدة اخلاص ووفاء ومصير، فلا حل الا بتحقيق العدالة بين كل المواطنين، والاعتراف بالحقوق دون تمييز، فالوطن للجميع. نحن اليوم نحتاج الى الرجال والنساء الاشداء دون تمييز الذين يقولوا : لا للخطأ، لا للتجزأة، لا للأنفصال، لا للغرباء الطامعين. فهل سيتحقق ..؟

 

نحن ندعو الرئاسات الثلاثة ان يضعوا الله والوطن والشعب نصب أعينهم، ويبتعدوا عن المناكفات والخصومات والامتيازات والمنافع الاجتماعية التي فاقت حد التصور في تبذير ثروة المواطنين، فالوطن بحاجة الى التعمير لا بحاجة الى الخلافات والمؤتمرات الباهتة دون تحديد المصير. الدولة للكل وليس للبعض حقوقا وواجبات دون تمييز، هكذا بنيت الدول، وأخيرا ندعوهم لرفع الاسوار عن بغداد الجميلة لمواجهة حاجات المواطنين، فالقادة لا يختصرون في الزوايا ابدا بل في ساحات الوطن والمواطنين، فأرواحكم ليست بأعز من ارواح المواطنين، هكذا قالها الامام علي أمير المؤمنين للكوفيين،

فألأمن لا يحفظه الا العدل ومحبة المواطنين .

زمان صعب يمضى عليك يا بغداد فهل ستتحق فيك الأماني،  هذا ما نرجوه لك ايتها العزيزة على كل العراقيين، كل العراقيين.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2253 الثلاثاء 23 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم