قضايا وآراء

حوار في نيويورك مع ماياكوفسكي / ترجمة: ضياء نافع

ونشرته جريدة (نيويورك ورلد) تحت العنوان المثير الاتي- الشاعر الروسي الديناميكي ماياكوفسكي يعتبر نيويورك مدينة متخلفة، ونحن في رأيه اناس الاذواق العتيقة وغير المنظمين.

يمكن اعتبار هذا الحوار في وقتنا الحاضر – وثيقة من وثائق الادب الروسي السوفيتي في تلك المرحلة العاصفة من تاريخ الفكر الروسي، ونعتقد جازمين ان اطلاع المثقف العربي عليها لا يخلو من فائدة، اذ ان هذه الوثيقة تجبرنا ان نتأمل وان نستنتج،علما ان ماياكوفسكي قد انتحر عام 1930 اي بعد 5 سنوات من تاريخ هذا الحوار.

ض. ن.

 

وصل الى نيويورك قبل ايام فلاديمير ماياكوفسكي، اشهر شاعر في روسيا السوفيتية،وصوت عاصفتها الجديدة وبنائها وبشير تكنيكها ورسول تصنيعها ...

قصائده، التي تطبع بملايين النسخ في روسيا السوفيتية، مشبعة بالنداءات للتصنيع،بالمعامل،بالطائرات، بالعمل،بالعمل،بالعمل... شعره- هو ايقاع المدينة العصرية الكبيرة، بكل ما فيها من مزيج غير متجانس بين الصلب والحجر، بجماهيرها غير المتناسقة،المنهكة دائما بالعمل الصعب، والخالقة –وسط هذه الاحداث العظيمة- روح المستقبل الحقيقية...

مدينة نيويورك،بضجيجها وصراعها وقياساتها، كان يجب ان ترضي هذا الشاعر المستقبلي المتوهج، لكنه قال لي في غرفته قرب واشنطن سكوير وهو يذرع ارض الغرفة-

لا، نيويورك ليست مدينة عصرية، انها مدينة غير منظمة، سيل السيارات، المترو، ناطحات السحاب، وما شابه ذلك، كل هذا لا يخلق الثقافة الصناعية الحقيقية. ان هذه سمات خارجية لتلك الثقافة لا غير. امريكا قطعت شوطا كبيرا في مجال التطور وغيٌرت الوجه المادي لهذا الجزء من العالم، لكن سكان اميركا تأخروا عن هذا التقدم،انهم خاملون، يعيشون في اطار الماضي السحيق.

النيويركيون- قرويون روحيا، لم يستطع عقلهم ان يتقبل كليا اهمية القرن الصناعي ولهذا فانني اقول ان نيويورك غير منظمة. نيويورك – سوء فهم، نكتة، حادث يمكن ان يحدث مع الاطفال،انها ليست نتاجا ناضجا لابداع اناس ناضجين، يفهمون ما يريدون، ويعملون بصرامة وفق خطة...

عندما سيأتي قرننا الصناعي في روسيا، فانه سيكون مختلفا تماما، ستكون هناك خطة، سيكون نتاج الابداع الواعي.

عندكم مترو، هواتف، محطات اذاعية، ومختلف اشكال المعجزات التقنية، ولكني ذهبت الى السينما ورأيت جمهورا غفيرا يشاهد بمتعة ولذة فيلما بليدا و فارغا يتحدث عن قصة حب – ما. لو عرض هذا الفيلم في ابعد قرية في روسيا الجديدة، لصفر له الجمهور...ما هو الشئ الجيد الذي تقدمه لعقول الامريكيين كل هذه السيارات الفارهة؟ يبدو لي ان العلم وحقيقة القرن الآلي – ليسا ملككم.

 

ويستمر ماياكوفسكي قائلا –

لنأخذ مثلا الفنانين. يوجد عندهم كهرباء، وتحيطهم الآف المواضيع المعاصرة متجسمة في الصلب والحجر، ويستطيعون رؤية ذلك حتى عندما يسيرون في الشوارع، لكنهم يشعلون الشموع في ستوديوهاتهم، مثل الفلاحين الروس. انهم يعتقدون، ان هذه شئ جميل، انهم يكتبون قصائد منمقة وصغيرة ورقيقة، قصائد صالونية، ويرسمون لوحات في نفس هذا الاطار. الهامهم يتوهج بضوء تلك الشموع، بهذا الضوء الخافت الرقيق، بينما الالهام في عصرنا يجب ان يتوهج مثل النار في الافران.

خذ ناطحات السحاب نفسها، انها تمثل الانجاز المجيد للهندسة المعمارية الحديثة. لم يعرف التاريخ ابدا شيئا مماثلا لها، وحتى اعظم عباقرة عصر النهضة لم يحلموا بمثل هذه البنايات العالية، والتي تتأرجح في الهواء، متحدية قانون جاذبية الارض. ان هذه البنايات بكل طوابقها الخمسين،المنطلقة نحو الاعالي، يجب ان تكون عصرية ونظيفة ورشيقة وجامحة... ولكن المعماريين في امريكا، على ما يبدو،لم يستوعبوا المعجزة التي خلقوها. لقد (لطخوا) ناطحات السحاب بزخارف غوطية او بيزنطية عتيقة وباهتة. ان هذا

يشبه تماما وضع شريط  وردي اللون على جرار، او وضع دميةعلى قطار. يمكن ان  يكون هذا جميلا، الا انه ليس فنا ابدا. هذا ليس فن القرن الصناعي.

نعم، ان نيويورك – ليست نتاج الفن الصناعي، لقد بناها الفوضويون، ولا تحس فيها بوجود تعاون ابداعي بين العلماء والعمال والفنانين والمعماريين.

كان ماياكوفسكي يدخن تلك السجائر التي جلبها معه من موسكو، يدخن بلا انقطاع وهو يذرع الغرفة ذهابا وايابا، ويتكلم بصوت جهوري رنان... ان الطاقة الكامنة فيه- غير اعتيادية. لقد كان ذلك يختلف تماما عما يتوقع الانسان رؤيته في الشاعر...

 

ويستمر ماياكوفسكي قائلا –

ان المبدأ الرئيسي للفن الصناعي هو – بدون تعابير فائضة، بدون اي تنميق، بدون اي تصنع، بدون اي ثرثرة، بدون اي تصوف وحنين للماضي. نحن في روسيا انهينا – ومنذ زمن بعيد – عالم المثقفين الليبراليين المتصوفين، هذا العالم الضيق جدا، عالم الليمون المعصور وابتلاع عظام الدجاج..... الى الشوارع، ايها المستقبليون والضاربون على الطبول والشعراء – هكذا كنت ادعو انا في الايام الاولى للثورة، ان الفن الوقور والنقي اكثر مما ينبغي يصبح متعفنا،ويجب على الفن ان يخرج من الاستوديوهات المبطنة بالمخمل ومن الغرف المنسقة، وان (يأخذ الدنيا غلابا)...

يجب ان يتضمن الفن دائما رسالة ما، وقانون الفن الجديد – لا تعابير فائضة، لا شئ بدون رسالة. لقد حررت انا الشعر من البلاغة، ووصلت الى الجوهر.انني اختبر كل كلمة وكذلك التأثير الذي اريد ان احدثه بوساطة تلك الكلمة على المستمع، اي بروح الناس الذين يكتبون الاعلانات عندكم. انهم لا يضيعون اية كلمةو ان كل شئ يجب ان يمتلك دورا فعالا...

 

ثم صمت ماياكوفسكي قليلا، واضاف –

 وبشكل عام يجب ان يكون كل نتاج القرن الصناعي فعالا، ضد التصوف، ضد الهيام بالطبيعة حتى العبودية، ضد الكسل الارستقراطي وكل اشكال الكسل الاخرى، ضد سكب الدموع والعواطف والتأملات. نحن نقف مع التكنيك، مع التخطيط، مع التنظيم العلمي للعمل، مع الادارة القوية، مع السرعة، مع الضبط والالتزام، ومع الانسان الجديد المسلح بكل هذا...اين فنانوكم الذين يؤمنون بمثل هذه الافكارو التي تعبر عن وجهة نظر الانسان؟ اين هي البواعث الاجتماعية التي تقف وراء نظامكم الصناعي؟نيويورك ليست لها خطة. انها لا تعبر عن اية فكرة. ان نظام نيويورك الصناعي هو صدفة، اما نظامنا الصناعي في روسيا فانه نتاج الابداع الناضج.

هنا اوقفت سيل كلمات الشعر، وطرحت عليه سؤالا يبدو انه لم يعجبه-

هؤلاء الصوفيون الليبراليون انفسهم، الذين تكلمت عنهم، انهم يهربون بعيدا عن الماكنة’ انهم يعتقدون، ان الماكنة تدمر روح الانسان، الا يوجد عندكم في روسيا مثل هذه التخوفات من ان يصبح الانسان ميكانيكيا اكثر مما ينبغي؟

 

اجاب ماياكوفسكي بثقة-

كلا.نحن انفسنا خلقنا الماكنة، ولهذا فاننا لا نخشاها ابدا.ان الحياة القديمة، الصوفية او العاطفية المبتذلة، هذه الحياة ستموت، وستحل محلها حتما حياة جديدة. لماذا نخاف ابداع التاريخ؟لماذا التخوف في ان يصبح الانسان ميكانيكيا اكثر مما ينبغي؟ هذا غير ممكن.

قلت له –

لكن، الا تدمر هذه المكائن مفاتن الحياة وبهجتها؟

اجابني-

كلا.كل ما يمكن ان يتدمر بسهولة، يستحق ان يتدمر، اما في المستقبل، فستظهر حتما قيم اكثر في الحياة. عندي في موسكو صديق طيار يقول، انه عندما يخترق الفضاء بسرعة مئة ميل في الساعة، فان دماغه يعمل اسرع بخمسة اضعاف. ان قرن المكائن سينشط شجاعة الفكر وحريته.

سألته-

فيما يخص بقية الشعراء والكتاب الروس، هل هم ايضا متأثرون بهذه الافكار،ومن هم افضل الادباء الشباب؟

اجابني –

ان روسيا كلها متأثرة بهذه الافكار. اما تسمية افضل الادباء فلا ضرورة لها، اذ ان هذه مسألة غير مهمة. والاهم من ذلك هو ان ملايين النساء والرجال الذين كانوا بالامس فقط لا يعرفون القراءة والكتابة، استطاعوا ان ينفصلوا عن التصورات القديمة للفن، وان يتعرفوا اليوم على نتاجات اكثر الشعراء تقدمية، وان هذا النهوض الجماعي اكثر اهمية –بالف مرة- مما لو ظهر عندكم فجأة عشرة ادباء مثل تولستوي او دستويفسكي. وعلى مثل هذه التربة لا يمكن للفن الا ان يزدهر ...

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2263 الجمعة 02 / 11 / 2012)


في المثقف اليوم