قضايا وآراء

إطلاق سراح أوجلان .. إطلاق سراح أمتين / علاء اللامي

في سجن جزيرة إمرالي العسكري ببحر مرمرة منذ شباط 1998، بعد أنْ اعتقل خلال عملية مطاردة استخباراتية مثيرة انتهت في كينيا، وساهم فيها، بشهادة صحيفة "وطن vatan" التركية، الموساد الإسرائيلي. وقد حُكِم على أوجلان بالإعدام، ولكنّ الحكم لم ينفذ في حينه بسبب ضغوطات دولية خارجية وشعبية داخلية، ثم تحول تلقائياً إلى حكم بالسجن المؤبد بعد قرار تركيا بإلغاء عقوبة الإعدام تلبية لشروط الاتحاد الأوروبي الذي كانت ولا تزال تسعى إلى الانضمام إليه دون جدوى.

تلخص سيرة أوجلان جزء مهما من سيرة حركة التحرر الوطني الكردية والتي دخلت في نزاع مسلح مع الدولة التركية منذ ما يزيد على الثلاثة عقود سقط خلالها من الجانبين عشرات آلاف القتلى ومثلهم أو أكثر منهم من الجرحى والمعتقلين والمشردين. كما أنها، في الوقت ذاته، تلخص جزء لا يقل أهمية من محاولات الدولة التركية الحديثة التغلب على التناقضات والمشكلات الإثنية الداخلية الموروثة فيها، ولعل من أهمها القضيتين الكردية والأرمنية. وإذا كانت هذه الأخيرة تتعلق بموقف من التاريخ المأساوي خلال فترة ولادة الدولة التركية العسيرة والبطولية من رحم السلطنة العثمانية المتحللة وفي مواجهة الدول الغربية التي احتلت أغلب أراضي تركيا، فإنّ الأولى تتعلق بمشكلة حقيقية لها مساس مباشر بجزء حيوي ومهم من الدولتين، القديمة التي ولَّت، والحديثة التي ولدت. إنّ القضية الكردية في تركيا، من حيث بواعثها وواقعها وآفاقها، لا تختلف عنها في العراق وإيران وسورية مع وجود خصوصيات محلية لا يجوز إنكارها، ولكنها، في جميع هذه البلدان، تبقى من حيث طابعها التاريخي والإنساني، قضية واحدة، وهي قضية تحرر وطني وقومي من الطراز الأول.

لقد شكّل اعتقال أوجلان منعطفا مأساويا للقضية الكردية في تركيا وكان ثمنه باهظا فعلا، ولكنه كان ثمنا مؤقتا،  كما اتضح لاحقا، غير أنَّ الدولة التركية، وتحديدا في عهد حكومة بولنت أجاويد التي اعتقلته وحكومة العدالة والتنمية التي تلتها لم تحسن التعامل مع الحدث بفطنة ووعي  عميق بالمستقبل بل يمكن القول بأنها غرقت في سكرة النصر الاستخباراتي الذي أنجزته باعتقال أوجلان. ففيما راح الزعيم الكردي المعتقل يطلق دعوات التهدئة والسلام ممثلة بدعوات متكررة وطويلة لوقف إطلاق النار من جانب واحد، وتعهدات بالحفاظ على وحدة الدولة التركية، وبالتخلي عن أساليب العنف واستعمال القوة في الدفاع عن حقوق الشعب الكردي، ظلت السلطات الرسمية التركية على مواقفها القديمة المتشنجة والمناهضة للأكراد وحقوقهم، ومتمسكة بنظرتها الى أوجلان ومؤيديه بوصفهم قتلة ومجرمين ينبغي تصفيتهم جسديا باستخدام الحل الأمني العنيف.

على الأرض، تواصلَ الصراع المسلح والقاسي، وفشل أيٌّ من الطرفين في اقتلاع خصمه وإلغائه من الميدان، ورغم التشدد التركي واعتماد الحل الأمني فقد أقدمت السلطات التركية، خصوصا في عهد حكم حزب العدالة والتنمية على عدة خطوات جريئة رغم محدوديتها السياسية، يمكن احتسابها ضمن مساعي التهدئة والاقتراب من البحث عن حل آخر غير عسكري.  من تلك الخطوات قرارها بالسماح باستخدام اللغة الكردية في تركيا، وعدم معاقبة الأكراد الذين يسمون مواليدهم بأسماء كردية، ثم قرارها بتدريس اللغة الكردية في التعليم العالي سنة 2009، وأخيرا الاعتراف رسميا بوجود هذه اللغة خلال السنة الجارية. غير أنّ هذه الخطوات إذا نظر إليها في ضوء الواقع التاريخي العالمي والتغييرات التي عصفت بالعالم كله، وخصوصا في إقليم الشرق الأوسط وتطورات "الربيع العربي" رغم انتكاساته البالغة أخيرا، تبدو صغيرة جدا، وغير ذات مردود سياسي أو استراتيجي مهم، وهذا ما يفاقم من نشاط العوامل والتراكمات السلبية في هذه القضية.

إنّ على حكومة أردوغان التي تواجه اليوم تصاعدا في حدة الصراع المسلح بين التمرد القومي المسلح الذي يقوم به أنصار أوجلان من جهة، والجيش النظامي والمليشيات المحلية التابعة للحكومة في ما يسمى قوات "حرّاس القرى" من جهة أخرى، وتصاعدا آخر في النشاطات السلمية كالتظاهرات والإضراب العام عن الطعام الذي قام به المعتقلون والسجناء الأكراد للمطالبة بحقهم في تعلم لغتهم القومية وإطلاق سراح زعيمهم أوجلان، إن على هذه الحكومة أن تعيد حساباتها وبشكل جذري، يقطع مع عقلية المؤسسة العسكرية ويرفض تحويل هذا الصراع الدموي بين المكونات المجتمعية في تركيا اليوم إلى أرقام في اللعبة الانتخابية. لقد كان رد الفعل الأولي لأردوغان على إضراب المعتقلين والسجناء الأكراد عن الطعام  استفزازيا ولا يليق برجل دولة مهمة بحجم ووزن تركيا فقد سخر رئيس الوزراء التركي من المضربين قائلا (إنهم يضربون عن الطعام حتى الموت فيما يتناول قادتهم الكباب!) ولعل أقل ما يقال عن هذه اللغة إنها مهينة وبعيد عن الكياسة. لقد أنجز أردوغان وحزبه الكثير في ميدان البناء الاقتصادي وانتقل بتركيا من الدول المتأخرة كثيرا في ترتيب القوى الاقتصادية الى الدولة السابعة عشرة بين القوى الاقتصادية العالمية وهذا يُحسب له دون ريب، ويحسب له أيضا تحجيمه للمؤسسة العسكرية رغم أنه لم يكن أول من وقف بوجهها فلا يمكن هنا نسيان وقفة  اللبرالي تورغوت أوزال في وجهها ووقفة زعيم اليسار التركي مصطفى بولنت أجاويد الذي طالما رفض إملائات العسكر على الحكومات المدنية ورفع ضدهم شعار " بصمجي يوك! " ويعني أنه  لن يكون بصّاماً وحسب على القرارات التي يتخذها العسكر. ولكن، ومع كل هذه الإنجازات لأردوغان فإنه سيخسر كل شيء وستخسر معه تركيا فرصة ذهبية لحل هذه المعضلة القاسية إنْ واصل اعتماده للحل الأمني وتشدده السياسي في مواجهة الحركة الاحتجاجية والتحررية الكردية. إن الصراع سيشتد، ولن يكون في قدرة أي طرف أنْ ينتصر فيه ويلغي الطرف المقابل، وإذا كانت ثلاثة عقود من القتال لم تقنع الدولة التركية بهذه الحقيقة البينة والناصعة فإن على هذه الدولة أنْ "تغيير خيولها" كما يقال، وتبحث لنفسها عن زعماء شجعان قادرين على اجتراح الحلول الحقيقية والناجعة التي ستنتقل بتركيا من دولة آيلة إلى التدهور والتفكك  بفعل صراع المكونات المجتمعية المقموعة إلى تركيا الديموقراطية الاتحادية الناهضة والمتماسكة.

من ناحية أخرى، وبحسابات الربح والخسارة الاستراتيجية،  فإنَّ إطلاق سراح أوجلان، رغم أنه سيقضم جزءاً من "الكعكة" الانتخابية المؤيدة لحزب أردوغان، وهذا ثمن طبيعي جدا لعملية ثورية كبرى كهذه، ولكنه، إذا ما قدر لحكومة العدالة والتنمية والقضاء التركي أن يُقْدِما عليه، سيكون ربحا مستقبليا صافيا لتركيا لعدة أسباب منها :

-      إنّ أوجلان وعدد من زملائه أعلنوا بوضوح وبشكل رسمي موثق إنهم ضد تفكيك تركيا والانفصال عنها في دولة كردية. وإن أقصى ما يطمحون إليه هو صيغة للحكم الذاتي ضمن تركيا ديموقراطية اتحادية، وهذا بحد ذاته أفق يهدئ الكثير من مخاوف الوطنيين الأتراك ويحجم من تأثيرات القومين المتطرفين بين صفوفهم.

-       إن هذه العملية ستعيد للحركة الكردية في تركيا زعيمها المعتدل أوجلان وترسل بالمتشددين والمتطرفين إلى الصفوف الخلفية وربما إلى خارج الصورة.

-      إن هذا القرار سيجعل المبادرة الاستراتيجية بيد أردوغان وحكومته، ويعطيه أفضلية المبادر والمعتدل تركيا وإقليميا وعالميا، ويضع حركة التمرد الكردي المسلح في خانة رد الفعل الدفاعي والضمور فالتلاشي.  

-      إن تركيا، الدولة والمجتمع، ستتخلص إلى الأبد من تعقيدات وتناقضات المشكلة القومية والتكوينية العتيقة، وتتوجه نحو التكامل والبناء ومواصلة التقدم الحضاري.

 إنّ الاستجابة لمطالب المعتقلين والسجناء الأكراد ومنها إطلاق سراح زعيمهم أوجلان ستكرس رمزية هذه الخطوة بوصفها عملية تتعلق بما هو أكبر من شخص الزعيم السجين ذلك لأنها ستطلق سراح أمتين مهمتين من قفص مشاكل مزمنة وصراع دموي طال أمده أكثر مما يجب ومن مواقف مزمنة بان خطلها وعبثيتها وانعدام أي أفق لها يتم بلوغه عبر العنف والسلاح، ولنا في ما حدث في "جنوب أفريقيا" يوم الحادي عشر من شباط/ فيفري 1990 بين فردريك دي كليرك ونيلسون مانديلا أسوة حسنة ومبادرة شجاعة أطلقت سراح أمتين وشكلت منها أمة متصالحة مع نفسها ومع العالم!   

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2266 الأثنين 05 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم