قضايا وآراء

دريئة ُالشاعر قراءة نقديّة لمجموعة عبد العزيز جمعة الشعريّة (توارت في الحجاب)

والاكتساب لا حدودَ له، يولد ُ مع الموهبة ِ لكنّهُ ينسلخ ُ عنها في حراكها الإبداعيّ...فإذا

كانت هي فطرة ً توحّدت بصاحبها، ولازمتهُ، فإنَّ الاكتسابَ لازم الحركة َ، وتواصل َ معها في

جميع ِ ميادين ِ التعلّم ِ، والتثقّف ِ، والمعرفة ِ؛ ومتى ما استمرّ المبدعُ في نهلهِ من حقل ِ الاكتساب وعلِّهِ ، فإنَّ موهبتَهُ تصقلُ وتكتملُ ويتجدّدُ إدهاشها.

إنَّ تواصلَ المبدع ِ الدائم مع علوم لغتهِ، وخصائصها، وإنجازاتِها في فنون البيان، فضلاً عمّا كانَ منها علماً صرفاً، أو إنسانيّاً، فإنّها توسعُ من دائرةِ معرفتهِ لأسرارِ لغتهِ، وتشحذ ُ قوّة َ الملاحظة ِ لديه، وتمكّنُهُ من صناعة ِالإدهاش على نحوٍ رصين؛ وهذا ما كان في مجموعة

" توارت في الحجاب " للشاعر عبد العزيز جمعة، الذي وسّعَ من دائرة اكتسابه الثقافي، فأسهم

بقوّة في صقل ِ فطرتِهِ الشاعرة على نحو ٍ جعلَ متلقّيه يعيش انفعالات الذات الشاعرة وهي تبوحُ بأسرارها في علاقتها بالآخرين في حالتي انتصارها النفسي، وانكسارها الإنساني.

وقبل تأصيل القول في تبيينِ منجزاتِ هذه المجموعة فنّيّاً نشير إلى أنَّ موسيقى شعرها قد توزّعت على أربعة إيقاعات (كلّها من شعر الشطرين) هي:

أ- الطويل: وقد نظم فيه إحدَى عشرَة قصيدة من مجموع قصائد المجموعة الموفية على الثمان والعشرين بتنوّع أشكال الطويل، والقصائد هي: (الطيف الزائر) و(صديقي آدم) و(كتاب الحب) و(بثينة والغرب) و(النيل) و(سلا القلب) و(أهل الهوى) و(عود على بدء) و(ابن الأنقياء) و(عشقتكِ شعراً) و(شعرها) ونسبته المؤيّة39,28%، وهي أعلى نسبة في

البحور.

ب – الرمل: وقد نظم فيه ثماني قصائد بتنوّع أشكاله، وهي: (الكويت) و(لقاء الوداع) و

(زائرة المكتبة) و(قمر الشرق) و(اليمامة الغائبة) و(لمسة راح) و(بنت الندى) و(توارت في

الحجاب) ونسبته المئويّة28,57%، وهي ثاني نسبة في البحور.

ج – ألخفيف: وقد نظم فيه سبعاً هي: (ليلى والقدس) و(رحلة إليها) و(عاصفة على الخليج)  و(الصوت الهاتف) و(الابتسامات المسروقة) و(ثغر أصفهان) و(صدود) ، ونسبته المئويّة 25%.

د – البسيط: وقد نظم فيه قصيدتين فقط، هما: (وصفة عشق) و(تهنئة جؤذر) ، ونسبته

المئويّة 7,14%.

 

ولعلَّ ما يثبت تنوّعَ اكتساب عبد العزيز جمعة الشامل، وتوسّع ثقافته ما في المحاور الآتية

من منجزات جماليّة:

أولاً - ألتناص:

التناص مصطلحٌ حديث حاول مؤيّدوه أن يختزلوا به مصطلحات قديمة عديدة، لكون النقد القديم

كان ميّالاً إلى تفريع دلالاته، فإذا كان مفهومه اليوم يتحدّد في أصول النصِّ ومرجعيّاته، أو مصادر تكوينه، فإنّ النقد القديم كان يراه في الاقتباس الديني، سواء أكان الاقتباس نصيّاً أم إشاريّاً، أوفي التضمين المعنوي، أو النصّي، أو في الاستلهام الفنّي، أو غيره¹.

في هذه المجموعة العديد من الاقتباسات الدينيّة، والتضمينات المعنويّة، والاستلهامات التراثيّة، والمعاصرة التي تنمّ ُعن ثقافة واسعة ٍ لصاحب هذه المجموعة الشعريّة سنقف عند

بعضها مبيّنين مرجعيّاتها، أو ما كان فيها من تناص مع غيرها بفعل القراءة المستديمة للنصوص، وما تركته من ظلالها على المبدع وهي تصنع ذائقته الشعريّة في الأداء.

ففي قوله:

ما رمى إذ قد رمى لكنّما

رميُهُ كانَ بأيدٍ للقدرْ

إقتباس إشاري قرآني لقوله تعالى: " وما رميتَ إذ رميتَ ولكنَّ الله رمى"².

 

وفي قوله:

وله الله من فؤادٍ معنّى

وجراح ٍ تقولُ صبراً جميلا

إقتباسٌ نصّي لقوله تعالى:" فصبرٌ جميل ٌ" ³.

 

وفي قوله:

يوم أرسى الأرضَ ربّي ودحاها

وبرى الأرواحَ فيها، وهداها

إقتباسٌ إشاري إلى آيتينِ كريمتين هما:" والأرض بعد ذلكَ دحاها "? و" والجبالَ أرساها "?

 

وفي قوله:

فترامى من جزيءٍ قد تناهى

صِغراً، والسرّ ُ (كن) لمّا دعاها.

إقتباس إشاري لقوله تعالى: " وإذا قضى أمرا ً فإنّما يقولُ له كن فيكون "?

 

وفي قوله:

كأنّي بهم قد توّجوكِ مليكة ً

وباقي العذارى بين شكلٍ وتمويهِ

تأثّر ببيت النابغة الذبياني:

وإنّكَ شمسٌ والنجومُ كواكبٌ

إذا طلعت لم يبدُ منهنَّ كوكبُ

وفي قوله:

ووميضُ البروقِ في الأفقِ نارٌ

وصلاها ينسابُ فوقي ودوني

عصفت ريحٌ ثمَّ زمجرَ رعدٌ

وسحابٌ بكى بدمع ٍهتون ِ

تناص مع بعض صور الجواهري في قصيدة (ليلة عاصفة على فارنا) التي منها:

أبرقت، ثمَّ أرعدت ثمَّ ألقت

حِملها توسِعُ البسيطة َقصفا

صعّدت ما تشاءُ..ثمَّ ألاحت

بجناحينِ أوشكا أن يزفّا

 

وفي قوله:

ولو كنتَ تُفدى بالنفوس ِلسرَّني

فداكَ بنفسي كي تعيشَ وتسلما

تناص معنوي مع قول الشريف الرضي:

ما كنتُ أذخرُ في فداكِ رغيبة ً

لو كانَ يرجعُ ميّتٌ بفدائي

وفي قوله:

شابهت سيّدَها ما ظلمتْ

سعة ً في الأفقِ بُعدا ًفي النظرْ

تضمين معنوي لقول الشاعر:

بأبِهِ اقتدى عديّ ٌ في الكرمْ

ومن يُشابِه أبَهُ فما ظلمْ

وفي قوله:

وإنّي وإن أبدعتُ فيكِ قصائدا ً

وراحَ رواةُ الشعر ِكلٌّ بواديه ِ

تناص، أو تأثّر بمعنى بيت المتنبّي:

وما الدهرُ إلا من رواةِ قصا ئدي

إذا قلتُ شعرا ًأصبح َ الدهرُ منشدا

 

ثانيا ً- ألحكمة:

في بعضِ قصائد (توارت في الحجاب) حِكَم ٌ نابعة ٌعن خلاصا تٍ لتجارب شخصيّة قد تتوافق مع بعضنا لصوابِ ما فيها من طروح، وقد تتخالف، وهي اقرب إلى العدل والرضا منها إلى الإجحافٌ

والنفرة، كما في قوله:

كلّ ُحبٍّ إلى زوالٍ سواها

وهواها- كحسنِها-لا يزولُ

فكأنه هنا يستثني زوال حسنها كما استثنى زوال حبّها من قلبه.

أو كما في قوله:

إذا مالتِ الأهواءُ شرّاً بأمّة ٍ

فأيّانَ عدلٌ للورى يتحقّقُ

لأنَّ أيّة أمّةٍ يتفشّى فيها الشرّ ُ لن تحقّقَ أيّة عدالة ٍ لأبنائها، وتلكَ حقيقة لا يختلف فيها اثنان.

أو كما في قوله:

هوَ الخافضُ الأشرارَ يجزي فِعالهم

ولن يخفضَ الأشرارُ ما اللهُ رافِعُ

نعم...لا تستطيعُ قوى الشرِّ مهما علا جبروتُها أنْ تخفضَ من رفعه الباري، وتلك حكمة ٌ يسلّمُ بها الجميع .

أمّا قوله:

واكتمالُ الأمورِ سرّ ٌعجيبٌ

قدّرَ اللهُ نقصها والتماما

فهو يقرّر فيه أنَّ الله تعالى قادرٌ على جعلِ بعضِ الأمور ِ خالصة ً من النقصِ ، وإن كان الكمالُ له وحده.

ولعلّ حكمة الشاعر البليغة كانت في قوله:

وكنوزُ الفضلِ دوماً في النّهى

وكنوز ُ الجسمِ تذوي بالهَرَمْ

ولستَ تعدم غيرها، كما في الصفحات:53، و59، و65، و67، و85، من المجموعة.

 

ثالثا ً – ردّ ُ ألأعجاز على الصدور:

توضح هذه المجموعة للقارئ الجاد أنّ عبد العزيز جمعة شاعرٌ ذو ثقافةٍ تراثيّة ٍعميقة ٍ، نظنّ ُ أنَّ قراءته المستديمة للنصوصِ المدهشة قد شكّلت إحدى ركائزه تلك، لا سيّما التي تتوافرُ فيها

بعض فنونِ البديع العربي ، ممّا سهّلَ للذاتِ الشاعرة أن تكتنزها في وعيها، ولا وعيها بوصفها

المرجعيّة التي تفيّأت ظلالها على مرِّ سنوات الإبداع، وكان من تلك البدائع تأثّره في ما أسماه

أهل البديع بـ" ردِّ الأعجاز ِعلى الصدورِ" ، وهو أن يجعل الشاعر أحد اللفظين المكرّرينِ،

أو المتجانسينِ، أو المشتقّينِ في الشطر الأوّل، ويجعل الثاني في الشطر الثاني? ، كما في الأبيات الآتية:

1 – ما رمى إذ قد رمى لكنّما رميُهُ كانَ بأيدٍ للقدرْ

2 – أبو الضيفِ إبراهيمُ جدّ ٌلجدّنا فأنعمْ بإبراهيمَ جدّاً مبجّلا

3– طالَ في مصرَ سهادي ليته يسكنُ مصرا

4 – ذكرياتٌ تتوالى فلْتعُدْ لي بعضَ ذكرى

5 – سكنت قصراً فطابتْ في العلا مثلما طابت مقاماً في الخِيَمْ

6 – واقرأي من سفرِالهوى لي فصولا حينَ فصلُ الربيع ِ سادَ الفصولا

7 – وأريجُ الزهورِ كانت رسولا بيننا، والعُيون كانت رسولا

8 – قلتِ هذا فراقُنا قد تدانى ومحال ٌفراقُنا أن يطولا

9 – من سناها ما يزالُ القلبُ نوراً ومُرادُ النفسِ أن يبقى سناها

10 – أ ُقاسي هموماً في النهارِ كثيرة ً وفي الليلِ تأتيني الهمومُ جحافلا

 

رابعا ً- تقنية ُالسَّرد:

ليس السردُ جديداً في شعرنا العربيّ، فقد عرفه الشعرُ القديم في الطرد، والتشبيب، والقصّة الشعريّة، وغير ذلك، لكنَّ الشاعر الحديث أحكمَ فيه الصنعة حين أفاد من أساليب القصّة الحديثة وتقنياتها الفنيّة في:الوصف، والمحاورة، والمونولوج الدرامي، وغيرها.

ومن يستقري هذه المجموعة يوقنُ أنَّ تقنية السرد كانت طوع خيال ِشاعرها، في توليد تلك الصور. ففي قصيدة " ليلى والقدس " يتدفّقُ السردُ في توصيفِ الأرضِ العربيّةِ على نحوٍ من

تداعي صورٍ متلاحقة لا يوقفها عائق، أو يحدُّ منها نضوب:

هذه الأرضُ مهدُ عيسى رضيعاً

ورسولا ً مبشّرا ً ومِثالا

وبأقصاها خاتمُ الرسلِ صلّى

وعلا بالبراق ِسبعا ً ونالا

وترى المرسلينَ من خلفِ طه

رُكّعا ًسجّدا ً صفوفا ً طوالا

كان فيها للأنبياءِ إماما ً

عندما هلَّ قدّموهُ امتثالا

 

وفي "عاصفة على الخليج" سردٌ ممتعٌ في تصويرِ ليلةٍ عاصفةٍ على الخليج بغيومها، ووميضِ سحابها، وعصفِ رياحها، وصوت رعدها العالي المهدّد، وصولاً لجعلِ المتلقّي يعيش

الصورة، ويسمعُ الرعد، ويشاهد الوميض:

ذاتَ ليلٍ على الخليجِ اللّجيني

ترقُبُ النجمَ والسماءَ عيوني

ثارَ غيمٌ غطّى السما بسوادٍ

أدخلَ الكونَ في مُريبِ السّكونِ

ووميضُ البروقِ في الأفقِ نارٌ

وَصَلاها ينسابُ فوقي ودوني

عَصفَتْ ريحٌ ثمَّ زمجرَ رعد ٌ

وسحابٌ بكى بدمع ٍهَتون ِ

هطلَ الوبلُ والرياحُ هجومٌ

بفنونٍ أزرَتْ بكلِّ فنونِ

ثبجٌ هادرٌ وموجٌ عنيفٌ

كجبالٍ تناثرتْ وحصون ِ

ومَراسٍ بها السفينُ هُجوعٌ

وهديرٌ يلِجُّ خلفَ السفينِ

زحفَ الموجُ نحوها بجنونٍ

وتمادى اندفاعُهُ بجنون ِ

..إنّه يتدفّقُ في السردِ ويندفعُ برسمِ الصورِ، مثلما اندفعَ موجُ تلكَ الليلةِ العاصفة .

والأمثلة على اقتدارهِ فيه كثيرة، لكنَّ في " زائرة المكتبة " و" صدود " و" شعرها " ما يؤكدُ اليقين الذي ألمعنا إليه.

أمّا محاورات شخصيّات قصائدهِ فكثيرةٌ، لكنَّ جلّها بين بطلِ القصيدة ِ وحبيبتهِ في الأعمِّ الأشملِ، وهي ممّا أصطلحَ عليه بـ (الديالوج) كما في:

قلتُ:لالا، وألفُ لا، غادتي هلْ

سمعتْ؟ قالتْ: لا وعينيكَ لا لا

قلتُ:لابدَّ من لِقاء ٍ قريبٍ

سألتني: أليسَ ذاكَ مُحالا ؟

أو كما في:

همستْ وردة ٌ لأخرى وقالتْ:

أمعنّى وشاعرٌ وعليلُ ؟

ليس ما يلقاه الفتى من هواها

بقليل ٍ، ولا هواها قليلُ

 

وفي مثلُ هذه الحوارات الرصينة في الأداء المشتركِ، ما يدلُّ على تمكّن الشاعر من كتابة القصيدة الدراميّة بامتيازٍ، فضلاً عن موهبة ٍ واضحة ٍ في الشعر المسرحي الذي انحسر هذه

الأيّام، وكادَ أن ينسى.

أمّا اهتمامات الشاعر بالمناجاة النفسيّة ألتي اصطُلحَ عليها بـ (المونولوج الدرامي) فإنّها وإن كانت قليلة ً نسبة ًإلى باقي التقنيات الفنّيّة، إلا أنّ هذا القليلَ قد كان حواراً مع الأعماق في حالاتٍ خاصّة ٍ، ولعلَّ النقد حين أشار إلى أهميّة حوار النفسِ مع ذاتها، أو حوارها مع لا أحد،

قد وقفَ على ما للأعماقِ من تأثير ِفي خلقِ المتعة ِ، وصناعة ِالإدهاش، لأنَّ الشاعرَ يستثمر

 

 

فيه كلَّ طاقاته في تكثيفِ حواراتِ النفسِ الداخليّةِ، فتتحقّق المتعة الدراميّة في القراءة، كما في قوله:

عَجباً ميّ ُ كيفَ لمّا رأتني

مُستهاما ًمجرّحا ً وعليلا

تركتني أسيرَ وجدٍ تناهى

ولَظىً في الضلوع ِ أورى فتيلا

وتناستْ عهودَنا فتداعتْ

نغماتُ الهوى أسىً وعويلا

إنَّ البطل وإن كان يبدي تعجّبا ً كونته صورُ لقائه الأخير بحبيبته، إلا أنه يستعيدُ الصورَ مع ذاته ليس غيرا، فهي منه، وهي إليه في الوقتِ نفسه.

ختاما ًنقول: إنّ عبد العزيز جمعة شاعرٌ مبدعٌ مقتدرٌ حصّنَ فطرته بثقافتهِ الشاملة الواسعة

التي استحالت دريئة ً تدفعُ عن موهبتهِ خطلَ الأداء الشعري، وتحفظها من خللِ الصناعة.

 

.......................

الهوامش

1 – تُنظر مقالتنا "ألتناص الإبداعي " ضمن كتابنا " أوراق في تلقي النصّ الإبداعي ونقده "

ص39، منشورات المؤسّسة العربيّة للدراساتِ والنشر، بيروت، 2007م.

2 – سورة الأنفال: 17.

3 – سورة يوسف: 83.

4 – سورة النازعات: 30.

5 – سورة النازعات: 32.

6 – سورة البقرة: 117 .

7 – ينظر:كتاب الصناعتين 429، بدلالة د.مأمون محمود ياسين ( من روائع البديع) 84، دار

الفكر العربي، دبي، 1997م.

 

ا. د.عبد الرضا علي

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1223 الاثنين 09/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم