قضايا وآراء

الجواهري وذكرياته

واديب ترأس الاتحاد العام للادباء وكأول رئيس لهذا المفصل المهم والاهم من كل ذلك هو اخر العمالقة ، فقد تلقفت ذكريات الجواهري منتشيا فرحا وكأني قد عثرت على كنز ثمين وهو بالفعل كنز ولاأثمن؛ والحقيقة أني قرأت الكثير من مذكرات القادة والسياسيين، وكذلك لأدباء وصحفيين فأني لم استمتع بها مثلما استمتعت بأسلوب الجواهري في ذكرياته المتكونة من جزأين، وكذلك استمتعت كثيرا بصراحة هذا الرجل على نفسه وعلى غيره، وأكاد اجزم انه لو تسنى للجواهري ان يحترف غير الشعر من ألوان الأدب كالرواية مثلا لكان له الشأن الكبير كحاله في الشعر فقد كان يرسم المفردة طيعة غير مختارة وهي بيد هذا الرجل الفذ والعبقري في مجاله، واقولها بكل صدق أني لم أتمن أن انتهي من قراءة هذه الذكريات الحاملة لكل معاني الجمال، واحسب ان كل من قرأ هذه الذكريات يوافقني الرأي هذا، لكن وأقولها أيضا بكل حزم وصدق هو أن تعجب بشخص أو لون أو رسم لوحة شيء وان توافق على كل موقف من هذا الذي أعجبت به شيء اخر فأذا كان الجواهري قد اعترف ببعض الأخطاء والزلات وحتى بعض العقد النفسية والتناقضات في أعماله وأفعاله وسني عمره يمكن ان يجد القاريء له العذر لكن ان يحاول قلب حقائق التاريخ لمجرد اعجاب شخصي او موقف شخصي هنا يجب ان يقف عندها المراقب حتى لو كانت في اجمل قصيدة له، ومن هنا اقول اني اقف واتوقف عند رأي الكبير الجواهري في الشريف حسين واصراره على انه (ابو القضية العربية) ومجادلته للامير زيد بن الشريف حسين عندما قدم له السير مكماهون بوصفه ابو القضية العربية وهنا انقل النص كاملا عن الجواهري حتى يتبين للقاريء بعض او كل مااريد ان اوصله له (كان هذا السير مكماهون من بين ضيوف الامير زيد، اضافة الى وجوه اخرى، بعضها يمثل رمز الاستعمار والاحتلال والانتداب والسيطرة البريطانية حتى في العهد الوطني) وهنا اود ان اسأل وياليتني استطيع ان اوجه السؤال مباشرة الى الكبير والفذ الجواهري واقول له عن اي عهد وطني وفي ظل من؟ افي ظل فيصل الاول وحكم المندوب السامي ومن ثم السفير البريطاني، ام تحكم السفارة في عهد غازي باركان السلطة ورموزها والاسباب معروفة؟ ام في ظل عبد الاله وفيصل الثاني وارتمائهم كليا باحضان بريطانيا وتشكيلهم حلف بغداد، ثم يسهب شاعرنا الكبير بقوله (وبادر الامير ان يقدم لي السير مكماهون – وليس ان اتقد ماليه- ليقول لي :) اقدم اليك السير مكماهون ابو القضية العربية !!) وليس ابا القضية العربية . امعنت النظر فيه وانا شبه مصعوق من اللقب الذي اسبغه الامير زيد عليه، وكان هذا الرجل، مربوع القامة، خبيث الملامح، قويها. موجة استنكار تصاعدت في، فقلت: (كيف ياسيدي، يكون السير مكماهون هو (ابو) القضية العربية ؟) قال (اجل) قلت: (اتسمح لي سيدي الامير، ان اقول لك، ان اباك، حسبما اعرف هو ابو القضية العربية . فقال بكل صراحة :اهو ابي ام ابوك؟ اقول لك مكماهون هو (ابو القضية العربية)؛ وهنا اريد ان اقول ان الامير زيد اراد ان يقول للجواهري أأنت اعرف مني بالحقيقة وببواطن الامور؟ أأنت القريب من الحدث ام انا؟ وهنا اريد ان اسأل الجواهري اذا كان الشريف حسين بنظره ابو القضية العربية فمن هي أم القضية العربية ياترى ؟ الم تكن بريطانيا هي المحرض والراعي والمشارك في حركة الشريف حسين عام 1916 والتي اسماها الثورة العربية الكبرى فأين انت من لورنس العرب ثم اين انت من مراسلات حسين – مكماهون فاية قضية هذه التي ترعاها بريطانيا واية نتيجة وصلت اليها على يد هذا الاب وهذه الأم ان صح التعبير، والجواب معروف عند الجميع هي تمزيق للوطن العربي وزرع اسرائيل في المنطقة وفي اثناء اعتماد (ابوالقضية) الشريف حسين على البريطانيين كانت سايكس – بيكو ومن ثم وعد بلفور والاحتلالات البريطانية لبلدان في الشرق العربي منها العراق وقد نصبت الملك فيصل ملكا على العراق بعد ثورة العشرين التي كلفت الميزانية البريطانية الكثير حيث تمت مناقشة أمر العراق في مؤتمر القاهرة برئاسة تشرتشل وقد تقرر فيه تنصيب فيصل ملكا على العراق وبتوصية متحمسة من المس بيل اقوى شخصية في مؤسسة الاحتلال البريطانية في العراق بعد الحاكم البريطاني او المندوب السامي وقد اثرت وتأثر بها فيصل الى الحد الذي لايستطيع فيه اتخاذ اي قرار دون الرجوع الى المس بيل والتي اعتبرت الملكة الفعلية في العراق وقد لازمت فيصل الاول كظله وفي حله وترحاله الى حين وفاتها وقد كان للثنائي المس بيل ولورنس العرب دورا كبيرا في بلورة فكر فيصل الاول السياسي وكلاهما من اكبر عملاء الاستخبارات البريطانية ولاادري لماذا تجاهل الجواهري ذكرهما في ذكرياته وان قيل ان مجيئه الى البلاط بعد وفاة المس بيل فالجواب على ذلك ان التأثيرات السياسية لاتغيب بغياب الاشخاص خصوصا ان الشخوص هم انفسهم في البلاط التي كانت لاتفارقه المس بيل ويعرفون مدى تأثير هذه المرأة على شخص الملك حتى من الناحية العاطفية لابل انه لم يأت على ذكر الانكليز وتاثيرهم وتواجدهم في البلاط ابدا وكانه اراد دفع تهمة عن كل من عمل في البلاط انذاك بانه اتصل بالانكليز او صادف وشاهد احدا منهم وهو داخل الى البلاط الملكي، والجواهري الكبير يعرف وكل متتبع لاحداث العراق ان الفترة التي يذكر انه عمل فيها بالبلاط هي الواقعة بين اتفاقية 1922واتفاقية 193. ومابينهما اتفاقية 1926 كذلك انها فترة المستشارين الذين يسيرون شؤون الوزارات العراقية ومالوزير الا منفذ لاراء المستشار، لكن الجواهري يصر على ان الفترة هي فترة حكم وطني وفيصل القائد العربي الاكبر في ذلك الزمان الذي خرج من عرش سوريا بكرامة وشرف، وهو الذي ظلت تلازمه هذه العقدة طيلة ايام حكمه في العراق وقد استغلها الانكليز خير استغلال ضده " اخشى ان يخرج يوما احدا علينا ويقول ان صدام وسلطة البعث قد سلموا بغداد بكل شرف وكرامة لقوات الغزو الامريكي وما هروبهما الا مصداقا لكبرياء الامة " اعود الى ذكريات الجواهري والى الجزأ الثاني بالتحديد والى فترة عبد الكريم قاسم على وجه الخصوص حيث يتحدث عنها باسهاب واقولها بصراحة وقد لمح اليها الجواهري ان تحليله عن فترة عبد الكريم قاسم وشخصيته نابعا من موقف شخصي ليس الا ومع ذلك لم يستطع الجواهري طمس الحقيقة لكنه اولها تأويلا غريبا ينم عما ذكرنا انفا بانه موقفا شخصيا حيث يقول في هذه الفقرة (وللحقيقة والتاريخ أقول:أنني وكل من شاركني في معايشة هذه المرحلة والكتابة عنها بأمانة وبمراجعة ضمير وموضوعية اكتشفنا ان (عبد الكريم قاسم) لم يكن الا عبد الكريم قاسم وحسب الرجل الذي قاده واقعه المر الى السيطرة، ومن على كرسي الحكم استطاع ان يفجر حقده المر سواء في الثأر من اعدائه او في الوقوف الى جانب أبناء طبقته من الفقراء .. ونظافة هذا الرجل غير المشكوك فيها وطنيا دفعته لاجراءات وطنية واصلاحية كبيرتين وبخاصة فيما بدل من حياة الطبقة الفقيرة ورد اعتبارها وكرامتها في العراق كله وبالأخص في العاصمة نفسها ذات (الخصاص والأكواخ) هذه الطبقة التي بلغ حبها ووفاؤها له درجة رفضت معها تصديق خبر موت عبد الكريم قاسم .. لقد تجاوز في هذا كله والى جانب كل تناقضاته حدود الحاكم العادل في كل تاريخ العراق حتى يومنا هذا) وهنا اريد ان اوجه سؤالا لكل منصف هل عندما يهتم الحاكم بأبناء شعبه ويعيش همومه ويحسن من احوال الفقراء يكون هذا تفجيرا للحقد في نفسية هذا الحاكم واحاول هنا ان اجري مقارنة ولو هي ظالمة لكنها ضرورية فمن الظلم ان تجرى مقارنة بين عبد الكريم قاسم وصدام حسين الا من حيث انهما حكما العراق، فكل منهما انحدرا من طبقة اقل مايقال عنها فقيرة ان لم تكن مسحوقة خصوصا صدام حسين، فما الذي حدث ؟ ان الذي حدث ان الاول جاء الى الحكم ببدلة عسكرية وخرج من الحكم باللباس العسكري ذاته، وعاش في وزارة الدفاع او عند بيت اخيه واخته ومأكله من ابسط مايؤكل ترسله له شقيقته او زوجة اخيه (بالسفر طاس)، وكذلك لم يتجاهل الفقراء وقد بنى لهم مابنى من مشاريع اسكان ومدينة الثورة (الصدر حاليا) خير شاهد على ذلك وقد عانت الكثير فيما بعد لانها تمثل حالة رفض لكل سلطة جاءت بعد عبد الكريم قاسم بما فيها سلطة الاحتلال الامريكي حيث مثلت مدينة الصدر حالة الرفض الكبرى للاحتلال ومشاريعه الطائفية والتقسيمية، ولعبد الكريم قاسم في كل محافظة شاهد من هذه الشواهد وايضا نفذت الكثير من المشاريع الصناعية في البلد هذا فضلا عن سياسته تجاه المحتل البريطاني ومشاريعه فقد ضربها هذا الرجل في الصميم ومن ذلك الغاء ارتباط العملة العراقية بالجنيه الاسترليني والغاء مشاركة العراق بحلف بغداد واصداره قانون رقم 8. الخاص بالنفط مع سياسة التسامح الذي اشتهر بها عبد الكريم قاسم وقد تحولت مفردة (عفا الله عما سلف) اشبه بالنشيد عند اهل العراق في ذلك الوقت وقد استغلت هذه الصفة حتى من قبل اقرب حلفائه والذين تحولوا الى خانة الخصوم والاعداء لا لغرض الا التنافس غير الشريف على الحكم وقد استغلها من يريد ابتلاع العراق انذاك بحجة الوحدة العربية واصبحوا العوبة بيد هؤلاء فمثلا كان عبد السلام عارف وفي جولاته على المحافظات العراقية لايتكلم باسم رئيسه ولاينقل تحياته الى ابناء الشعب بل ينقل تحيات جمال عبد الناصر، والسؤال الذي يطرح هنا هل يجوزهذا في عالم السياسة ؟ الجواب يكون من استعراض بسيط بما كان صدام حسين يتعامل به مع خصومه ومناصريه والحقيقة ان صدام حسين يعتبر كل شخص مهما كان ولائه له وذكر مرة انه يعرف اعدائه من عيونهم فيباغتهم قبل ان يفكروا بعمل اي شيء ضده لابل انه يعتبر من يطالب بالخدمات كتعبيد شارع او يطالب بمجاري للمياه الثقيلة يعتبرها عمل من اعمال المعارضة لابل وصل الامر ان الصفحات الاولى في الصحف يمنع ان تظهرفيها اي صورة غير صورته، ثم ان صدام حسين يشترك مع عبد الكريم قاسم في الفقر في بداية حياتهما وقد مر بنا كيف تعامل الزعيم عبد الكريم قاسم مع الفقراء؛ اما صدام حسين فقد زاد فقر الفقير ومن كان غنيا اما كان مصيره القتل او التسفير او التغييب في ظلمات السجون وفي احسن الاحوال الهجرة الطوعية بعد تصفية الاعمال هنا، وارتقت طبقة سيطرت على امور التجارة في العراق مرتبطة ارتباطا وثيقا باجهزة السلطة الا ماندر طبعا وقد كان منه ان اعدم التجار ايام الحصار في تسعينيات القرن العشرين الذين ساعدوا الفقراء بحجة التلاعب بالاسعار والحجة واهية بطبيعة الحال فبتلك الايام كانت المضاربات تتحكم بالاسعار ولايستطيع اي تاجر ان يلتزم بما تقوله السلطة التي رفعت يدها عن التسعيرة للسبب ذاته، اما من ناحية المعيشة الخاصة بصدام حسين فقد تحول بحياته الى حياة الاباطرة فقد بنى في كل محافظة قصرا رئاسيا كان يجهز الطعام الرئاسي طبعا في كل يوم تحسبا من حضور الرئيس وحمايته ومن هذه القصور لم يزرها ولا مرة واحدة وكذلك الحال ينطبق على اولاده عدي وقصي ولايفوتني الا ان اذكر مهرجانات اعياد ميلاده والبذخ فيها بلا حدود حتى انه صنع له عربة ملكية مذهبة، وهنا اسأل هل بنى صدام حسين مشاريع سكنية للفقراء طيلة عهده كرئيس للجمهورية والجواب ياتي بالنفي طبعا، واسأل واقول من هو الحاقد ومن هو الذي يعيش بعقده عبد الكريم قاسم ام صدام حسين . اما من الناحية السياسية فقد طالب عبد الكريم قاسم بعائدية الكويت الى العراق في 1961 وقد تحشدت الجيوش وايضا تدخلت مصر جمال عبد الناصر كما تدخلت مصر حسني مبارك في 199. وهنا يذكر محمد امين دوغان في كتابه الحقيقة كما رأيتها في العراق انه استفسر من الوزير جواد هاشم عن سبب تخلي العراق عن هذا المطلب فكان الجواب ان الوزير هو الذي اشار على الزعيم بنصيحة مفادها انك يازعيم قد تربح الكويت لكن في المقابل تخسر العراق فاقتنع الزعيم بهذه النصيحة والمشورة وتخلى عن المطالبة بالكويت فماذا كان من صدام حسين عندما غزا ايران وعندما غزا الكويت اي المستشارين استشارهم وعنما جاءت الجيوش الجرارة ماذا كانت النتيجة غير تخريب العراق ومن ثم احتلاله دون ان يرف لصدام حسين جفن خوفا وخشية على مستقبل العراق وعلى اجياله وعلى مقدراته، ولم يسمحوا لاية قوة وطنية ان اذن هنا عند من تجلى الحقد على الواقع وعند من تكشفت العقد ياترى؟ اقول ان صدام حسين اراد ان ينتقم من واقعه فاحرق الاخضر واليابس واراد ان يهرب من ذكريات طفولته فاضحى اسير القصور والحمايات قبل ان يغضب عليه حلفائه الاوائل ومن ثم يعدموه ليتخلصوا من مرحلة بدايتها ونهايتها كانت بيدهم ولم يسمحوا لاية قوة وطنية ان تبادر الى التغيير . وبعودة الى شاعرنا الكبير حيث يذكر هذا الرأي حول محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في 7/1./1959حيث يقول (وكان لحسن حظ الرجل او لسوء حظه واعني هذه الكلمة فلو ان هذه الساعة كانت حاسمة لعبد الكريم قاسم لكانت اروع له مما عاش بعدها ومن سوء مصيره وفضاعة نهايته بعدها) اقول ان الاقدار ابقت عبد الكريم قاسم للفقراء والمعدمين ولكي تبين ان من يريد الخلاص منه ماهم الاجياع سلطة مهووسون بها باعوا انفسهم في سبيلها وارادت ان تنبأ من يقول اني سياسي ان هؤلاء لا امان لهم لكن لم تتنبه القوى السياسية لهؤلاء الاغرار فحصل ماحصل يوم 8/2/1963 والذي بشر بماحصل به اي بشر الجواهري من قبل عزيز الحاج ومع ذلك لم ترعوي تلك القوى مما حصل في هذا اليوم فقد عادوا بعد 1968 ليتباحثوا معهم ويدخلوا في جبهة مع سلطة همها تصفية القوى الوطنية وهنا اقصد الحزب الشيوعي الذي صفي الالاف من اعضائه في الاشهر الاولى بعد مذبحة 8/2 مع العلم كانت هناك اشارات دللت على تعطش هؤلاء للدماء فاحداث الموصل خير دليل على ان هؤلاء لايتركون ولايضعون اي خط احمر على وصولهم للسلطة وحتى احداث كركوك كانت لهم اليد الطولى في تحريكها .هنا يطرح سؤال هل عبد الكريم قاسم بلا اخطاء ؟ اقول ان له خطايا وليس اخطاء فقد جعل من حركته انقلابا بدل ان تكون ثورة وبذلك طمع الطامعون وانفتحت شهيتهم للسلطة وحصل ماحصل من انقلابات ومجازر من بعده فكان عليه ان يجمع كل القوى العراقية لتتوافق فيما بينها وتشكل النظام في العراق ومن شكل الحكم، لكن الذي حصل ان حكمه امتد لاربع سنوات سال فيها لعاب الطامعين بالسلطة وفسح المجال لهم عند هذه الخطيئة واعني بها الاستمرار بالسلطة دون ان يتشكل النظام والدولة .

 

رائد عبد الحسين السوداني

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1228 السبت 14/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم