قضايا وآراء

وقفةُ عزٍّ من 1922: فتوى سُنية توجب القتال ضد الوهابيين (2-3)

alaa allamiبلغ عدد القتلى من الرعاة وسكان القرى ومن مدينة سوق الشيوخ في هذه الغارة المجزرة، وفق المصادر العراقية، سبعمائة قتيل، ولم يرد أي ذكر لوجود جرحى، ما يعني أنّ المغيرين قرروا سلفاً القيام بمقتلة فظيعة لا يتركون خلفهم جريحاً بعدها، وهنا يمكن أن نضع أيدينا على جذور وبدايات القسوة المفرطة والبشاعة البالغة التي يتصف بها عناصر المنظمات التكفيرية في عصرنا كتنظيم القاعدة وحلفائه في تفجيراتهم الانتحارية وغير الانتحارية وقتلهم للعزل الأبرياء من جميع طوائف المجتمع بخسة ودناءة تأبها حتى البهائم فهم لا يختلفون كثيرا  عن  أسلافهم  " إخوان التوحيد" الوهابيين.

نسجل، أنّ  هناك إشارات في بيان لرجال الدين السنة والذي سنتوقف عنده بعد قليل، إلى وقوع حالات سبي للنساء و الذراري. أما القطعان المنهوبة من الخيل والجمال وغيرها ففاقت العشرة آلاف رأس،  و أحرقت مئات الدور والأكواخ وبيوت الشعر العائدة للقرويين والرعاة كما يخبرنا عبد الرزاق الحسيني في "تاريخ الوزارات العراقية ج1 /ص59 "!  

معلوم أن الملك السعودي عبد العزيز بن سعود  غدر لاحقا بقوات " الإخوان" الوهابية بقيادة فيصل الدويش بعد عن شبت عن الطوق وتمردت عليه وكفَّرته هو الآخر حين بدأ بالسماح للبريطانيين بإدخال بعض المخترعات الحديثة كالسيارات والإذاعات وما إلى ذلك. وكان تكفير الوهابيين لملكهم وتمردهم المسلح عليه يعني أن من يطلق جني التكفير الديني من قمقمه سيدفع الثمن بدوره  و ستطوله  النار التي أشعلها فتحرقه ، وبعد قرن تقريبا ستطلق الولايات المتحدة جني العنف الديني والتكفيري في أفغانستان وستحترق بنيرانه أصابعها في هجمات 11 سبتمبر 2001 . ولكن الداهية بن سعود استشعر الخطر التكفيري فلم يستهن به لذلك بادر إلى تنظيم  كمين محكم  لقوات الإخوان في معركة السبلة يوم 30 آذار/ مارس 1929  وحصد غالبيتهم  بالرشاشات، ثم قضى على من بقي حياً منهم  في معركة أخرى هي "أم رضمة" بعد ستة أشهر.

نعود إلى مجزرة مراعي المنتفك، وما أثارته من تداعيات وردود افعال،  مسجلين هنا أن بعض الكتبة وساسة وأفندية المقاهي من أصدقاء بريطانيا في بغداد ومدن عراقية أخرى سارعوا إلى تشبيه الحركة الوهابية السعودية بالحركة البلشفية "الشيوعية" في روسيا، وأطلقوا على عبد العزيز بن سعود لقب "لينين نجد" للإيحاء بدموية الطرفين، ومن ألاعيب وخوارق  التاريخ العراقي العجيبة  أنّ إقليم المنتفك ذاته، و بعد عقد من السنوات تقريبا على المجزرة، وبتاريخ 31 آذار / مارس 1934  سيشهد تأسيس أول حركة بلشفية عراقية ممثلة بالحزب الشيوعي العراقي، و سيعدم النظام الملكي الهاشمي قادته المؤسسين الثلاثة (يوسف سلمان فهد من أسرة مسيحية، و زكي بسيم من أسرة مسلمة سنية، و حسين محمد  الشبيبي من أسرة مسلمة شيعية) بناء على أوامر بريطانية مباشرة.

    في سنة 1922، وردا على مجزرة مراعي سوق الشيوخ، بدأت التحضيرات لعقد مؤتمر كربلاء الذي دعت إليه المرجعية الدينية في مدينة النجف، ودعمته القبائل والعشائر العراقية  بقيادة عبد الواحد الحاج سكر وعلوان الياسري  وكاطع العوادي وهم من أبطال ثورة العشرين (بهدف الدفاع عن العراق تجاه هجمات الإخوان / ص140 اللمحات) وقد دعي  المرجع الديني الكبير في الكاظمية سماحة الشيخ مهدي الخالصي أحد قادة حرب التصدي للغزو البريطاني سنة 1914 إلى المشاركة في ذلك المؤتمر، فبادر الخالصي إلى تشكيل أربع لجان اختصاص لإدارة المؤتمر وسافر شخصياً إلى كربلاء. أما على جهة طائفة المسلمين السُنة العرب العراقيين فقد بادر علماؤها الأجلاء  إلى التحرك والمشاركة الفعلية  كما يخبرنا علي الوردي (وجه الشيخ عبد الوهاب النائب الدعوة إلى عدد من علماء السنة البارزين ببغداد لحضور اجتماع في تكية "الخالدية" للتداول في أمر "الأخوان" وهل يجوز حربهم. وفي صباح 5 نيسان 1922 تم عقد الاجتماع وحضره أكثر المدعوين. وافتتح عبد الوهاب النائب الاجتماع، وأخذ يذكر الفظائع التي اقترفها الوهابيون في المسلمين العراقيين ثم تساءل قائلا ( ما تقولون في هذه الطائفة المسماة بالإخوان، هل ترون وجوب قتالهم وردعهم عن أمثال هذه التجاوزات نظرا لكونهم هتكوا حرمات المسلمين واستباحوا دماءهم وأموالهم بغير ذنب؟ .. ثم قرأ أحد الحاضرين فقرة من كتاب مفادها أن من يستبيح دماء المسلمين كافر تجب مقاتلته فوافق الحاضرون على ذلك وأجمعوا رأيهم على وجوب الدفاع العام، ثم نهض أحمد الشيخ داود فتكلم بما يؤيد ذلك وحصلت محاورة فقهية بين النائب وداود إذ سأل النائب (ماذا نسمي هؤلاء أ بغاة أم خوارج ؟) فقال الشيخ أحمد (إنهم الخوارج بعينهم) .. وعند ذلك قال النائب (إن إخواننا الشيعة الجعفرية قد صمموا على الاجتماع وإعطاء القرار بهذا الخصوص، ولما لم يكن بيننا وبينهم خلاف في أي شيء فكلمتنا واحدة)، فقال الحاضرون (لا شك في ذلك). واستقر رأي الحاضرين على انتخاب وفد منهم لحضور مؤتمر كربلاء فاختير عبد الوهاب النائب رئيساً للوفد، واختير الشيخ داود وإبراهيم الراوي وعبد الجليل الجميل أعضاء في الوفد. وباشروا بكتابة الفتوى التي توجب على المسلمين قتال الوهابيين التكفيريين، وهذا نصها:

باشر رجال الدين المسلمين السنة بكتابة الفتوى التي توجب على المسلمين قتال الوهابيين التكفيريين وتصفهم بالخوارج، وهذا نصها (ما قول علماء المسلمين الأعلام فيمن يدعي الإسلام ويحكم بشرك من خالف معتقدهم من جماعات المسلمين مستحلين قتالهم ودماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم بغير سبب وقد هجموا على بلاد المسلمين عداءً وبداءً فهل يجب قتالهم ودفاعهم أم لا؟ أفتونا مأجورين! الجواب والله سبحانه وتعالى أعلم: نعم يجب قتالهم والحالة هذه) وقد وقع على هذه الفتوى عبد الوهاب النائب وعبد الملك الشواف وإبراهيم الراوي ونعمان الأعظمي وعلي القرداغي وأمجد الزهاوي ومحمد رشيد الشيخ داود وخليل حسن النقي وبهاء الدين النقشبندي واحمد الراوي ومحمد رؤوف . ص145. لمحات / الوردي) وسافر الوفد يوم العاشر من نيسان / آيار إلى كربلاء وبعد أن اجتمع بسماحة الإمام الخالصي في دار الشيرازي  توجه إلى دار قاسم الرشدي فنزلوا عليه ضيوفا. وفي مساء اليوم نفسه وصل إلى كربلاء وفد من الموصل مؤلف من مولود مخلص وسعيد الحاج ثابت وأيوب عبد الواحد  وعبد الله النعمة وثابت عبد النور وعبد الله آل رئيس العلماء، و عجيل الياور رئيس قبيلة شمر وبطل معركة السيارات المدرعة في تلعفر في ثورة العشرين الكبرى، كما وصل الشيخ محمد أغا شيخ عشيرة  "الكركرية" وتلفظ أحيانا بالجيم " "الجرجرية" وهي عشيرة كردية كريمة أنجبت  محاربين شجعان يُضرب  المثل ببسالتهم وفروسيتهم، أبت هذه العشيرة  الكردية إلا أن تمثل أكراد العراق في هذه الصفحة الخالدة من سِفر الأمجاد الوطنية،  علما بأن مساهمة الأكراد من العشائر والقبائل الكريمة الأخرى في ثورات وانتفاضات العراق، وخصوصا في حرب التصدي للغزو البريطاني ومعركة الشعبية في البصرة بتاريخ 12 نيسان 1915 ودامت ليومين داميين، كانت مساهمة مهمة وكبيرة وسنفرد لها بحثا خاصا قريبا. ونزلت الوفود في دار عمر العلوان، وخلال ذلك وصلت إلى الخالصي برقية من أهل تكريت وشرقاط يذكرون فيها إنهم انتدبوا مولود مخلص ليمثلهم في المؤتمر وإنهم مستعدون لتنفيذ أي قرار يصدر منه بأموالهم وأنفسهم. أما الملك فيصل الأول فقد اعتذر عن حضور المؤتمر تحت ضغط من الحاكم البريطاني الفعلي للعراق  السير برسي كوكس وسيناصب هذا الأخير مؤتمر كربلاء والقائمين عليه العداء ويحاول إفشاله بشتى الطرق غير أن الوطنين العراقيين انتصروا عليه وأصدروا مضبطة وطنية ما اضطر كوكس لتحريك أصدقاء بريطانيا من شيوخ و وجهاء فانشقوا وأصدروا مضبطة رجعية تقوم على مبادئ الدفاع عن الانتداب البريطاني على العراق. هذا ما سنتوقف عند تفاصيله في الجزء القادم من هذه المقالة!

يتبع

 

*كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم