قضايا وآراء

وقفةُ عزٍّ من 1922: مضبطة شيوخ كوكس في مواجهة مضبطة الوطنيين (3-3)

alaa allamiإنّ السير برسي كوكس، المندوب السامي البريطاني، والحاكم الفعلي للعراق، أراد أن يجهض مؤتمر كربلاء فأمر الملكَ الهاشميَّ فيصل الأول بعدم الحضور فامتثل هذا الأخير لإرادته وأوفد شخصاً يمثله. وأوعز كوكس الى عدد من الشيوخ والوجهاء المعروفين بعلاقاتهم "الودية" مع  التاج البريطاني بالعمل على إفشال مؤتمر كربلاء، فإنْ لم يستطيعوا ذلك فعليهم تشويه سمعته وسمعة القائمين عليه والانشقاق عليه وعليهم وتنظيم مؤتمر آخر مواز.

في الواقع، فليس من العسير فهم دوافع كوكس الذي رأى هذا الجمع الحاشد من القادة العراقيين الوطنيين من الطائفتين الأكبر في البلاد، إلى جانب وجود ممثل للأكراد العراقيين، وجلهم من أبطال ثورة العشرين الذين لقنوا الجيش البريطاني دروسا قاسية لا تنسى، يجتمعون في مكان واحد لإدانة هجمات حلفائهم السعوديين ويدعون إلى تشكيل قوة تتعاضد مع الجيش العراقي الفتي للدفاع عن سيادة العراق. وفي ضوء هذا التحليل يمكن أن نضع شكوك عدد  من المؤرخين في أن السعوديين الوهابيين قد دُفعوا أو شُجعوا من قبل حلفائهم البريطانيين أنفسهم للقيام بتلك الغارات الإجرامية على الجنوب العراقي ورموزه الدينية الطائفية بهدف جعل العراق عاجز عن الدفاع عن نفسه بقواه الذاتية ما يضطر حكومته الملكية للاعتماد الدائم على القوات البريطانية.

لقد أوفد الملك فيصل الأول الذي أبدى بعض التعاطف مع مؤتمر كربلاء وزير داخليته  توفيق الخالدي ليمثله  في المؤتمر باقتراح من كوكس، ولأنه لم يكن يثق بالخالدي، فقد أوفد نوري السعيد أيضاً إلى هناك ولكن بشكل شخصي إلى كربلاء. يروي الوردي أن هذا الأخير، وبمجرد وصوله، بادر إلى  خلع لباسه الرسمي ولبس النعال واللباس الشعبي العراقي وأخذ يتصل بالوطنيين المشاركين في المؤتمر يعاونه في ذلك مدير شرطة كربلاء هاشم العلوي. غير أن الراوي لم يوضح لنا شيئا عن طبيعة نشاط نوري السعيد وأهدافه  آنذاك، ولماذا لم يحضر المؤتمر وكيف كان رد المؤتمرين عليه وهو المشهور بتبعيته الكاملة للسياسة البريطانية ولكن الأكيد هو أن أهداف السعيد لم تكن بعيدة عن أهداف برسي كوكس إنْ لم تكن جزء منها.

تمخض مؤتمر النجف الذي عقد في صباح التاسع من نيسان/ أبريل عن توقيع الحاضرين على مضبطة "وثيقة عامة موقعة"، أكدت بشكل خاص على تأييد الهدف الأول من المؤتمر وهو التعاهد والتعاقد بين المؤتمرين على الوقوف ضد الأفعال الوحشية التي ارتكبها (الخوارج من الإخوان بحق إخواننا المسلمين.. واتفقت كلمتنا بحيث لا يخالف بعضنا بعض فيما تقتضيه مصلحة بلادنا ... فقررنا مدافعة الخوارج الإخوان ومقاتلتهم بمعاضدة جيش مليكنا النظامي بكل ما في وسعنا واستطاعتنا واتخاذ التدابير اللازمة. اللمحات ص 148)

  لقد أكد علماء الدين وشيوخ القبائل من السنة إنهم عراقيون أولا، ولهذا فقد هبوا إلى التضامن مع إخوانهم  العراقيين الشيعة، ووقفوا هذه الوقفة المشرفة والتي تمثل واحدة من أنصع صفحات التاريخ العراقي، واليوم، والعراق يعبر بحر الدماء الذي تسببت فيه عصابات الإجرام  التكفيرية التي أطلقتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية قبل نحو من ثلاثة عقود في أفغانستان ثم تمردت عليها وناصبتها العداء، واليوم، والعراق يعبر هذا البحر المأساوي ينبغي على الجميع أن يتذكروا هذه الصفحات البيضاء الشريفة من تاريخنا القريب. وهكذا سقطت الأصوات النشاز لأصدقاء كوكس داخل المؤتمر والتي طالبت بإناطة مهمة الدفاع عن العراق والعراقيين بالقوات البريطانية وليس بقوات عراقية شعبية مدعومة من قبل الحكومة وجيشها.

غير أن محاولات أصدقاء كوكس لم تتوقف وأفلحت أخيرا في جمع نفر من الشيوخ من الشيعة والسنة الذين رفضوا التوقيع على المضبطة الوطنية بحجة أن الجيش العراقي غير مؤهل للدفاع عن العراق (لأنه في مرحلة ابتدائية) وأن هذه المهمة يجب أن تناط بجيش الصديقة بريطانيا العظمى. وكان المنشقون أقلية ضئيلة في بداية الأمر، قبل أن ينضم إليهم لاحقا شيخ عشائر الدليم علي السليمان، ولكن تأثيرهم كان مهما بسبب الدعم الذي كانوا يتلقونه، ومن أشهر هؤلاء الشيوخ الذي سيصطلح على تسميتهم "شيوخ مضبطة كوكس" الشيخ عداي الجريان شيخ عشيرة آل بو سلطان ورشيد العنيزان شيخ عشيرة اليسار الطائية وعمران الزنبور شيخ بني عجيل وشمران الجلوب شيخ فتلة في منطقة الهندية ومراد الخليل شيخ عشائر الجبور.

وما أن انفض مؤتمر كربلاء حتى اجتمع الشيوخ المنشقون وأصدروا مضبطة جديدة يعلنون فيها تمسكهم بالانتداب البريطاني لأن الحكومة العراقية (هي الآن في الدور الابتدائي .. لذلك يجب أنْ يُطْلب من حكومة بريطانيا المنتدبة على العراق كل المساعدات المطلوبة لحفظ النظام  وتوطيد الأمن وإعمار البلاد والاعتماد عليها كصديق مخلص للبلاد وأهل البلاد) إلى جانب مطلبين آخرين هما ضرورة استبدال الطقم السياسي الحاكم بآخر (يعتمد عليه وكفؤ ... وجوب تشكيل مؤتمر عراقي يبتُّ في شكل الحكومة ونوع الإدارة). بعد ذلك، أرسل المنشقون من أصدقاء بريطانيا  وفدا يمثلهم للقاء شيخ عشائر الدليم آنذاك علي السليمان للانخراط معهم في حملتهم، فوعدهم الشيخ السليمان خيرًا، وأخبرهم بأنه سيلتقي ببرسي كوكس في بغداد شخصيا ليعرف رأيه في الموضوع. وفي 19 نيسان التقى الشيخ السليمان بكوكس وتقول المصادر أن الأخير نصح الشيخ بعدم إعلان المضبطة الجديدة في الوقت الحاضر لأن الجمهور العراقي المعادي سيعتبرها "دسيسة بريطانية جديدة"، ونصح الشيخَ ومن معه بمقابلة الملك ليوضحوا له (الأخطار التي يقوده المتطرفون – يقصد كوكس  بالمتطرفين الوطنيين في مؤتمر كربلاء- إليها ويقودون البلاد إليها). بعد لقائه بكوكس ذهب الشيخ السليمان ومعه عدد من الشيوخ  للقاء عبد الرحمن الكيلاني النقيب والذي كان يطمع علنا بعرش العراق ولكنه فشل في نيله، فاستحسن مضبطة الشيوخ الذين زاروه، وشجعهم على المضي بها قدما. غير أنّ هذه النشاطات التي قام بها الشيوخ من أصدقاء بريطانيا استثارت رد فعل قوي وشامل من القوى والشيوخ الوطنيين والذين لم يوقعوا على المضبطة الأولى حتى الآن، فالتحقوا ووقعوا عليها، بل والأنكى من ذلك، وهو ما أطار صواب كوكس وشيوخه،  هو أنَّ عددا كبيرا من أبناء العشائر ، السنية والشيعية التي وقع شيوخها  على مضبطة الشيخ السليمان ومن معه تمردوا على شيوخهم وخلعوهم ووقعوا على المضبطة الوطنية أو كتبوا مضبطات جديدة على نهجها الوطني الرافض للانتداب البريطاني.

نخلص إلى القول، إنَّ صراعا شديدا اندلع آنذاك بين المندوب السامي البريطاني برسي كوكس والملك فيصل الأول الذي لم يتجرأ على الوقوف في وجه تلك الهبة الوطنية فيقمعها كما طلب منه المندوب السامي أو يرفضها علنا. وهنا لجأ كوكس  الى إطلاق بعبع " المؤامرة البلشفية الشيوعية والأتراك لإثارة العراقيين ضد الإنكليز"، وأرسل تقريرا بهذا المعنى إلى لندن بتاريخ 19 نيسان من ذلك العام. والراجح أنّ ضغطا قويا قد سُلط على فيصل الثاني الذي خضع لإرادة كوكس في نهاية المطاف، كما كان يفعل في كل أزمة، وقرر التخلي عن الوطنيين ومضبطتهم، فكتب كوكس مجددا إلى لندن يبلغها بأن فيصل اعتذر له واعترف بأنه ارتكب بعض الأخطاء . لمحات ص 156 الوردي .    

تلك هي تفاصيل وقفة العز الوطنية للعراقيين قبل ما يقرب من القرن ضد الإجرام التكفيري الوهابي وضد حليفه الانتداب البريطاني، وحري بالجميع أنْ يبادروا اليوم إلى تكرار صفحة التضامن الإنساني والوطني التي سطرها مشايخنا الأجلاء في سنة  1922، فليتضامنوا مع إخوانهم من ضحايا التفجيرات الإجرامية الأخيرة والاغتيالات والتهجير الطائفي في جميع أنحاء العراق وليرسلوا وفود وبرقيات ورسائل التضامن مع الضحايا فكلهم عراقيون. نستذكر اليوم صفحة العز العراقية المجيدة من سنة 1922 ضد الإجرام التكفيري، وكيف وقف آباؤنا وأجدادنا خلالها موحدين ضد الشر والعدوان والعنف الهمجي، ولتكن تلك هي البداية  لبناء عراق جديد مستقل وقائم على أساس المساواة والمواطنة الحديثة والديموقراطية دون تمييز أو توصيف أو تقسيم طائفي مقيت أو عنصري متخلف. أما المهمة العاجلة اليوم أمام جميع العراقيين وخصوصا علماء ورجال الدين من جميع الطوائف فهي فضح الطابع الإجرامي للمنظمات التكفيرية الانتحارية أيا كانت طائفتها ودينها ومذهبها لأنها استهدفت وسفكت دماء العراقيين من جميع الطوائف والأديان والمذاهب والقوميات وعليهم إصدار فتاوى خاصة وواضحة وجازمة غير قابلة للتأويل تعتبرهم خوارج ومجرمين مثلما اعتبر علماؤنا الأجلاء سنة 1922 أسلافَهم في مليشيات "إخوان التوحيد" الوهابية خوارج ومجرمين وأوجبوا مقاتلتهم وكشفهم وعزلهم وفضح المحتوى الظلامي والدموي لأفكارهم.

*كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم