قضايا وآراء

حزب الدعوة.. من المعارضة الى الحكم

كان العضوان الآخران في هذا المشروع المرحوم الإستاذ صالح محمد الأديب أحد مؤسسي حزب الدعوة، والاستاذ الكبير السيد حسن شبر حفظه الله. وقد استفدت من تلك التجربة الكثير، ولا أزال أشعر بفضلهما عليّ في فتح أبواب مقطع مهم وحساس من تاريخ العراق، كاد أن يلفه النسيان، كما أن طبيعة العمل والاطلاع على خصوصيات مهمة، ووثائق نادرة، وأحاديث سرية، ومواقف غير معلنة، وغير ذلك من شؤون الحدث التاريخي، تعد تجربة نادرة لمن يهتم بالتاريخ.

لقد خطط للمشروع أن يبدأ النشر حالما تسمح الظروف السياسية، وقد بادر الاستاذ حسن شبر بالكتابة ونشر عدة أجزاء عن تاريخ حزب الدعوة، وأشعر بأنه حان الوقت لكي أكتب وأنشر عن تلك التجربة التاريخية الثمينة.

لقد فرضت المهمة لقاء شخصيات لم يتحدثوا من قبل عن وقائع التأسيس وظروفه وما تلاه، وبقوا صامتين يختزنون تجربة كبيرة بداخلهم، يحرصون على تفاصيلها الدقيقة، ويشعرون بالخوف عليها من الضياع، لكن الظروف لم يكن يسمح بالبوح بها أو نشرها في وسائل الإعلام، ففي أوساط الثمانينات كان نظام صدام على أشد قوته، وكان لا يزال في العراق رجال من الرعيل الأول يكتمون إنتمائهم للدعوة، ويتخفون عن الانظار، مما جعل مجرد التفكير بالنشر يتلاشى كلياً بمجرد تذكر اصدقاء الأمس.

لم يكن الحصول على تلك المعلومات النادرة، من افواه أصحابها، عملية سهلة لهذه الاعتبارات ولأسباب شخصية أخرى تتعلق بهم، لكن السيد حسن شبر والمرحوم الحاج الأديب بذلا أكبر الجهود لإقناع الشهود على التاريخ بالحديث، وهذا ما كان.

مضت الشهور والسنوات، والمعلومات تتجمع بشكل تصاعدي، تتطلب السفر والتنقل والسهر، وكان الاستاذ شبر حيوياً نشطاً لا يتعب، ولا يتكاسل، بل كنت اشعر في اوقات كثيرة أنه اكثر نشاطا مني وأنا الشاب يومذاك.

عندما رحل عنا الحاج الأديب بعد مرض لم يمهله طويلاً، شعرنا بوحشة كبيرة، إنه الركن الثالث والأول في المشروع، إنه الروح الطيبة الندية التي كانت تمسح بكلماتها العذبة على أحاسيس التعب، فتفجر القوة باقصى مدياتها.. إنه القلب الكبير الذي كان يستوعب الاخرين دون أن يضيق بهم، بل كانوا يضيعون في فسحة صدره الرحب.. إنه الإنسان الفياض تواضعاً وأدباً، يتصرف كداعية ينتمي لحزب الدعوة وليس أحد مؤسسيه.

ذات مرة شكوت له شخصا التقيته ليزودني معلومات عن مقطع من تاريخ الدعوة، وقد نال من بعض قدماء الدعوة، فأطفأ حرارة الشكوى بحكمته التلقائية: "هذه طبيعة البشر، بعض الناس تكون ردة فعله قاسية، وبعض الناس يمتص ردة الفعل، أنا أقول لك أن قسماً من الحق معه وهذا من حرصه، ولكن عليه أن يغير من نفسه فلا يقسو على أخوته، وأرجو في المرة القادمة حين تلتقي به أن تخبره بأن أخوته يكنون له التقدير والاحترام).. كلمات صادقة كان يلتزم بها قبل أن يقولها.. كان يجسدها في سنوات عمره الطويل، فخرجت واضحة مقنعة. ثم أنهى كلامه بالقول: (نحن أمامنا مهمة جمع التاريخ، أما المشاعر فهي خاصة باصحابها، ونحاول ان ننصح ونصحح الخطأ اثناء هذه المهمة).

أيام وشهور وسنوات، كنت أسجل وأدون أحاديثه عن تاريخه في حزب الدعوة، يذكر الوقائع بتفصيل مذهل كأنه يقرأها امامه، كأنها حدثت قبل لحظات، بدقة وأمانة علمية، حتى انه أحياناً يستدرك فيغير كلمة مما يقول، مع ان المعنى هو واحد، لكنه يريد أن يذكر نص ما سمع قدر الإمكان.

في كل مرة، كنت اشعر بان الجلسة معه قصيرة جداً، لكن عقارب الساعة تخذل المشاعر، فاقترح عليه أن نواصل الحديث في يوم آخر، فيبادر بأدبه الجم المعروف عنه: (لقد اطلت عليك، لم أقصد أن اتعبك) فاعتذر اليه بأني لا أريد إرهاقه أكثر. ويواصل حديثه حتى أشعر ان الوقت تأخر به، وأن أمامه 45 كيلومترا يجب أن يقطعها في طريق عودته لمنزله في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

كنت أحاول في مرات كثيرة أن أضرب معه موعداً مبكراً، حتى يمكنه العودة لمدينة (كرج) قبل مغيب الشمس، أو أزوره في مسكنه، لكنه يرفض ذلك، مراعياً عملي كرئيس تحرير لجريدة الجهاد وساعات الدوام، وكان يقول: "هذا عمل مهم وذاك عمل مهم، ولا ينبغي أن ننجز عملاً على حساب آخر"، وقد اقنعته بزيارة منزله أيام الجمع، لكنه عاد بعد فترة وأصر على عقد اللقاءات في مكتب جريدة الجهاد في طهران، لأنه شعر بأن الاستاذ حسن شبر له إلتزاماته الكثيرة وان طول الطريق يؤثر على جدوله المزدحم.

لم أكن اسجل من الاستاذ المرحوم صالح الأديب سيرته الشخصية، بل هي سيرة حزب، الى جانب سلسلة دقيقة الإنتظام من القيم والاخلاق النادرة.

أيام وشهور وسنوات بين كبيرين في خصائص كثيرة (شبر والأديب) أقضي ساعات طويلة، وأحياناً النهار بطوله وشطراً من الليل، تتلوها المكالمات التلفونية مع الاستاذ شبر، حول جدول المواعيد واللقاءات والاسفار، وحول تنظيم هذه المجموعة من المعلومات وتلك، ومستجدات اخرى.

أوراق وأشرطة تسجيل ووثائق.. تحكي قصة مسيرة حركية إنبعثت من عتمة الزمن، من ركام ثقيل من الجمود والإحباطات.. من قناعة سائدة بأن الإسلام طقوس مجالها مساجد باردة، وكتب تتحدث عن سيرة الماضين دون اكتشاف دلالاتها، وتفاسير قديمة للقرآن تعيد ما كتبه السابقون.

من تلك الضواغط الكابحة، ومض ضوء في الظلام، كان بريقاً لامعاً، تحول في غضون سنوات قليلة الى حركة تزيل الجمود، الى تيار يصنع تاريخاً جديداً، اسمه حزب الدعوة الاسلامية.

عن تلك المسيرة الطويلة، ستكون الكتابة

يرجى ذكر المصدر عند اعادة النشر: صحيفة المثقف، الوسط

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1239 الجمعة 27/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم