قضايا وآراء

اكتشافات الجلبي: كأننا والماء من حولنا (1-4)

alaa allamiيمكن تصنيف ما ورد في الحوار الطويل الذي أجراه الزميل سرمد الطائي، المحاور البارع و الذي يعرف ما يريد من ضيفه أو مستضيفه، مع النائب أحمد الجلبي إلى نوعين: يشمل الأول معلومات مهمة بل على شيء من الخطورة، بعضها يطرح علنا للمرة الأولى ربما، وهي قليلة بغض النظر عن صدقيتها، فالجلبي كما يقول العراقيون في لهجتهم  الموحية "من عظام رقبة" الحكم، والمطلعين على أسراره وكواليسه ولكنه أو أي شخص في مطرحه سيوظف تلك الأسرار لصالح تغليب منطقه وأهدافه السياسية الشخصية. سنتوقف عند بعض أهم هذه المعلومات في محاولة لتلمس دلالاتها. أما النوع الثاني فهو من قبيل المواقف والفكرات، ولا نقول "الأفكار" فهذه الكلمة كبيرة على ما يقوله الجلبي،  والتفسيرات التي تحاول تزييف طبيعة الصراع بين مشروعين: الوطني الاستقلالي المهمش والمغمور حاليا، والآخر الطائفي التابع الذي يقود الحكم، وجعله صراعا  داخل بيت الحكم وبين شقين فيه: يمثل الأول المشروع الطائفي التقليدي الذي يريد احتكار الهيمنة السلطوية لزاعمي تمثيل الطائفة الشيعية مع إعطاء أجزاء من مائدة الحكم للشركاء من زاعمي تمثيل طائفة العرب السنة و القومية الكردية، وبما لا يشكل خطراً أمنياً على الحكم ويريد الجلبي أن يقنع سامعيه بأن المالكي هو من يمثل هذا الشق، أما الشق الثاني فهو الذي يدعو إلى توسيع دائرة المحاصصة، ولكن تحت عنوان فضفاض  يدعوه "المشاركة السياسة" وهي عبارة جوفاء لا تعني شيئاً على أرض الواقع إذْ أنَّ حكومة المالكي قامت أصلا على ما دعوه "المشاركة السياسية الوطنية" حيث أصبحت مفردة "الوطنية" المسكينة هي الرديف القاموسي للطائفية في عرف أهل الحكم.

كما يمكن لنا أنْ نفرز مجموعة  أخرى  من فكرات وعبارات قالها الجلبي وكانت على قدر معين من الصواب والمعقولية، قد تكون جاءت عفو الخاطر أو تكرارا لبديهيات قالها الجميع فكررها هو، وهذا من باب الإنصاف، الذي  أوصى به القرآن (ولا تبخسوا الناس أشياءهم / 183 - الشعراء) وسنذكر بعضا منها في معرض قراءتنا لهذا الحوار. وسنعمد إلى جعل قراءتنا متسلسلة حسب نسق وتسلسل مادة الحوار وليس حسب مواضيعه :

حول موضوع الانهيار الأمني و المقولة التي تربط بينه وبين الانهيارات السياسية بين الأطراف المتشاركة في الحكم وهو ربط أقل ما يقال عنه انه بائس وتبريري يعتبر الجلبي أن (الوضع الأمني هو الجزء الظاهر من مشكلتنا، انه الجزء الذي يشعر به الانسان مباشرة لتلك المعضلة العميقة في نظامنا السياسي والاجتماعي. أما طريقة الدولة في التعامل مع ملف الأمن فهي مجرد تكرار مؤسف ومكلف للأخطاء). المقدمة الصحيحة التي انطلق منها الجلبي يتم القفز عليها سريعا، فبدلا من ربط الكارثة الأمنية بطبيعة نظام الحكم المحاصصاتي الطائفي، وهيمنة الأحزاب الدينية الشيعية، والذي يثير ردود فعل من النوع الطائفي ذاته، يهرع الجلبي إلى الجانب الفني من المعالجات الأمنية حيث أن الحكومة (لم تنجح في تكوين معرفة علمية كافية بطبيعة الاعتداءات والهجمات، وهي في ممارسة رمزية رهيبة، تبدأ اجراءاتها بعد كل هجوم بغسل محل التفجير بسيارات اطفاء الحريق وتمحو كل أثر مفيد لدراسة ما حصل. ولذلك لا أحد يفسر لنا من أين تأتي مواد التفجير، وهي مواد ليس من السهل توفيرها بهذه الكميات، فهل يجري تصنيعها بمختبرات محلية، أم تتسرب من مخازن الشرطة أم تعبر الحدود، لا توجد إجابات شافية). وما يفعله الجلبي هنا أمر طبيعي إذ أن مد اليد عميقا في جذور المشكلة الأمنية سيؤدي الى ملامسة العفن السياسي للنظام الطائفي وهذا ما لا يجرأ عليه عرّاب العملية السياسية الطائفية ومطلق اول دكان سياسي طائفي هو "البيت السياسي الشيعي" في السنوات الأولى للاحتلال الأجنبي.

لنوضح الأمر أكثر؛ الإضاءات التي يسلطها الجلبي على أوجه القصور الفنية الأمنية كالجهل بمصدر الكميات الهائلة من المواد التفجيرية المستعملة هي إضاءات  مهمة، ولكن معالجتها لن تنهي ظاهرة العنف التكفيري المسلح واسع النطاق، فما الفائدة من اكتشاف مصدر من مصادر قدوم المواد المتفجرة إذا بقي النظام الطائفي والأحزاب الطائفية المهيمنة عليه موجودا ويثير بحركته  وقيادته للدولة والمجتمع ردود أفعال من ذات النوع؟ وحتى لو افترضنا عدم حدوث ردود أفعال عُنفية طائفية من الجهات المستهدفة بالتهميش والإقصاء  ولكن ألا يشكل سكوتها وتحول مناطقها إلى حاضنات مجتمعية للمنظمات الإجرامية المسلحة خطرا كبيرا ومستودعا تحت الطلب لمد هذه العصابات بالرجال والمال والدعم والتعاطف؟ ألم تكشف عمليات حزام بغداد ومناطق الأنبار والموصل وديالى عن عمق التغلغل والانغراس المجتمعي الذي أحرزته القاعدة و ومثيلاتها هناك؟ نحن هنا نصف واقع الحال ولا نخوض في مشروعية ذلك من عدمها، ثم، هل ستكفي المعالجات الأمنية للقضاء على ظاهر العنف الهمجي الطائفي ؟ أم أنَّ  الطرف المهمين على الحكومة يعول على الكثرة العددية للطرف المستهدَف غالباً  "الشيعة" وكونهم غالبية سكانية، كما تقول إحصائيات الدولة ومفوضية الانتخابات، و من غير الممكن أن تنجح القاعدة في هزيمتهم؟ لماذا لا  يفكر أحد في النظام الحاكم اليوم أو في الدائرة المحيطة به من مريدين ومصفقين  بمصير الطائفة الأخرى "العرب السنة" والتي تدفع ثمن جرائم القاعدة من جهة وإصرار النظام على تبني المحاصصة الطائفية من جهة أخرى وهم براء من هذا وذاك؟ إن استمرار أعمال القتل والإبادة للمدنيين ومن مكون واحد في غالبيتهم الساحقة، سيعمق الشرخ المجتمعي الطائفي كثيرا ويجعل أي مصالحة حقيقية بعيدة المنال، وهذا يعني أن مكون العرب السنة سيُدفع نحو خيارين كارثيين فإما الهجرة أو الاندماج السلبي والأشبه بالتصفية العرقية والطائفية، أما خيار الانفصال أو إقامة "الإقليم السني" فهو البوابة العملية المشؤومة لهذين الخيارين الأسودين فهذا "الإقليم السني" بمحافظاته الثلاث وربما بعض الأقضية من محافظات أخرى، ليس له من المقومات الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية أي شيء يذكر، بل سيتحول إلى بوابة للتدمير الذاتي والهجرة وربما الاقتتال الداخلي بين المليشيات والجماعات المسلحة التكفيرية وغير التكفيرية المتنافسة. صحيح، أنّ مسؤولية القاعدة وحلفائها كبيرة عن هذا المصير ولكن مسؤولية حكومة بغداد والقوى المهيمنة عليها لا تقل ثقلاً، فهذا المصير الكارثي سيعني نهاية العراق الموروث والعريق أي العراق التعددي والمتنوع اجتماعيا ودينيا وقوميا وطائفيا إلى الأبد، وستولد في النهاية إلى جانب الإقليم السني إن قدر له أن يقوم، دويلة شيعية نفطية شوهاء تدور في الفلك الإيراني  تتحكم بها زمر  الجهلة والفاسدين باسم الطائفة والمذهب.

يغرقنا الجلبي بتفاصيل الجانب الفني من المعالجة الأمنية والتي لا تقول جديدا يذكر، وكأنه يعتمد قول الشاعر (كأننا والماءُ من حولنا... قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ / والأرضُ أرضٌ والسماءُ سماء... والماءُ ماءٌ والهواءُ هواء) شعارا له، فيتهكم ويسجل على الحكومة النقاط تلو النقاط، وهو محق تماما، خصوصا في موضوع  عدم وجود (قاعدة بيانات كافية عن خارطة صناعة العنف، كل يوم يقولون اعتقلنا أميرا في القاعدة أو وزير مالية القاعدة، لكن تنقطع المعلومات ولا نصل إلى شيء وراء ذلك. من يقدم التسهيلات؟ يقال لك أجندة خارجية، طيب ولكن لا بد أن توجد شبكة داخلية تتعامل مع الموت، هنا لا أحد يجيب). إنّ هذا الخلل في الجانب الفني الأمني  الذي يشير إليه الجلبي أمر حقيقي، وهو خطير فعلا، ولكن خطورته لا تفوق خطورة الأساس السياسي الطائفي لنظام الحكم حيث أن العلاقة بين الأمرين علاقة السبب ممثلا بطبيعة النظام الطائفية بالنتيجة ممثلة في الفشل على جميع الصُعُد ومنها الأمني.

يتبع قريبا.

 

في المثقف اليوم