قضايا وآراء

قراءة في قصيدة أولاد الخايبة لموفق محمد .. مطر من حزن ووهج من لواعج

روحية وحنين شفيف لهموم تكاد تنبسط على مساحة واسعة من نفوس كثيرة . هذه اللواعج والهموم استطاعت أن ترسم نفسها في كل خلية من خلايا الرجل، استطاعت أن تهبه أسى يلتقط أنفاسه في ماهو شعري غير أن هذا كله يقف في الجانب الفني على قدرة الشاعر وموهبته في إحالة هذه اللواعج والهموم وتوظيفها توظيفا" يذهب مرة باتجاه الترميز للوصول إلى تقنية شعرية غير اعتيادية، ومرة يقتنص ماهو يومي ظاهري ويحيله إلى قضية بأعطاءه زخما" شعريا" ينقذه من يوميته المباشرة حتى يستحيل ماهو يومي أو اعتيادي ومألوف إلى ماهو إبداعي ممتنع على الرغم من سهولته . هذا الاقتدار الشعري يحيلنا إلى مسألتين مهمتين أولهما إن المضمون الشعري وان دار في فلك اليومي فان قيمته في ذلك اليومي، إذ إن فعله الفني يبدأ من نقطة انتهاء اليومي باتجاه ماهو يومي / إيحائي، وبهذا يحقق الشاعر فرادته في كلية الخلق الشعري إذ انه يمسك بين يديه الموضوعي والذاتي ويحيلهما إلى وسائل تعبير ذات دلالة موجبة تكتسب أهميتها عن الطريق الإحالة إلى ماهو شعري. ولعلنا إذ نأخذ أنموذجا" هو قصيدة (أولاد الخايبة) التي وجدنا فيها انفتاحا" سرديا" على عوالم كثيرة تأخذ أبعادا" عديدة من أهمها :

 

1-   البعد التخييلي:

يأخذ هذا البعد القصيدة أنفا" كونا" تصوريا" يستجلي وصفا" غير مرئي بيد انه مستنتج مما هو متراكم معرفيا" بواسطة شبه الجملة الاستهلالية / في الآخرة / إذ يأخذ المتكون اللفظي سمته الواقعية بواسطة ماهو متصور بدليل القرينة المتوالدة من شبه الجملة / في الآخرة / وهي / ولان الرماد ظمئ / . ان الأشياء – هنا – لها ملمس تجريدي متفلسف، فالشاعر يضع النتائج في ضوء متخيله وهمه الخاص / وقد ذاقوا طعم جهنم أحياء / فهو أول من يشرب من انهار الجنة . إن موفق محمد بنفسه يمثل ( أنموذجا" إشكاليا" ) في تعامله مع معاناته وعذاباته من خلال نفث نار اللوعة في حجر المتلقي ليضعه أمام ما يحرقه بصورة تحريك ماهو ساكن وتأجيج ماهو بارد . فالعنصر التخيلي على الرغم من لاواقعيته الملموسة يستحيل إلى جمرة تلسع الآخر وتجعله يتحسس لوعة الشاعر وكأنها لوعته .

 

2-   البعد البصري:

 تتقاطع الرؤيا في هذا البعد يبدأ الوعي يأخذ مساحته مأخوذا" بناصية اللوعة المرتسمة في بؤبؤ العين والمتشكلة في المتخيلة. فالوعة تبدأ من ثريا القصيدة إلى نهايتها . هذه الانتقالة السريعة والحادة من بعد الى آخر مغاير له تماما"، لعبة ذكية من الشاعر إذ انه يعود إلى حالته الطبيعية بعد هيمنة القوى الداخلية عليه فهو يعيد ترتيب ذاكرته في ضوء الحقائق، لذا يعتمد على لغة وصفية مشحونة بالتوتر والانفعال لكنها وان كانت حادة إلا إنها لانتحت حجرا" بل تسيل مثل قطرة طل ناعسة

هم حطم السفلة

أبشع خلق الله شكلا" وهوى

خرجوا من أرحام ذئاب مسعورة

ولما حمت الأقدار ألقت

بهم جيف البطون على العراق

 

هذا التشكيل البصري / الفوتوغرافي قد التقط من زاوية صعبة، لذلك انحسر فعل الانزياح لصالح فعل التكثيف المبني على الواقعية التاريخية ولذلك حققت القصيدة، على الرغم من طولها حققت جوهرها الشعري . إن هذا أللانسجام قد أضاف طاقة حركية على الجوهر ودفع بالمفردة إلى أن تأخذ شكل السهم الحارق بغية خلق خلخلة مطلوبة في شعور المتلقي .

 

3-   البعد الحركي (من الحركة):

يعتمد موفق محمد على مبدأ التنقل السريع والمحسوب ليحقق تحولا" في مسار السرد . فالسارد ينتقل في مستويات متعددة من اجل أن يقدم لنا رؤى شخصية إضافة إلى وضع تصورات الشاعر باستعمال ضمير الغائب او الضمير المتكلم بنحو لايفا رق اليقين .

هذا الاستعمال لم يدفع الشاعر الاستعمال ضمير الشخصي الثاني بل اعتمد طريقة السرد الذاتي

امي

لاح لها في الموت

فكيف يصير رمادا"من كان هنا يشرب

مثل ملاك

شاي العصر

ويقبل كفا" قبلها التنور كثيرا"

 

إن الراوي / الغائب / أمي / هو في جوهره صورة الـــ (انا) التي أسقطها الشاعر لينتقل من بعدا" إلى آخر لاستكمال موضوعية السرد بوجهيه الداخلي والخارجي، وبهذا يحقق الشاعر منحا" تجريبيا" جديدا" في تقنية السرد بدمج اللغة الشعرية مع ثيمة السرد متعدد الأصوات عن طريق توظيف المتصور الشخصي توظيفا" يمتد على انساغ صاعدة ونازلة عبر رؤيا سردية جديدة منطلقة مما هو خاص إلى ماهو عام أو إن تسقط العام على ماهو خاص . وإذا أردنا الاقتراب من النص أكثر إن هنالك تضادا" دلاليا" تكشف عنه بنية العنوان والمتحصل بين الدال (أولاد) وما تحمله من دلالة الصلة والحنان والنظر في مستقبل الأشياء ثم انسحاب هذه الدلالة إلى مواقع منكسرة ومخذولة مثيرة إلى الشفقة (الخايبة)، وهذا ما يجعل تلك البنية متضادة تخفي تحت مظلة الإضافة الصراعات والاحتدامات الإنسانية التي خلفتها مكونات داخلية وخارجية، وبهذا يكشف لنا النصيص مسار القصيدة العام ويجيب منذ البداية عما يريد الشاعر قوله ضمن ترميزات معروفة في أطروحات الشاعر السابقة . إن الخيبة قدر رافقت الأمة العربية بنحو عام والعراق بنحو خاص، وهي مرتهنة بجيل طويل دفع أثمانه غالية، لذلك فان شعر موفق محمد صرخة إنسانية ضد كل القيم غير الفاضلة وكل ما يقلل من إنسانية الإنسان ويجعله حطاما" . ينفتح المقطع الثاني انفتاحا" يتداخل فيه الزمكاني، فورود / الشوارع / بهذه الصيغة الشعرية مقرونا" بفعلي الصيرورة ينم عن القهر والموت وتحيلنا إلى حرف دلالة / الشارع إلى ماهو سلبي .

حيث تصير الشوارع بركانا" اسود

يعمي الأبصار

ويطحن في سورته أجسادا" تتناثر في

اليحموم

ويبكي الله

يبكي

 

إن التطابق الدلالي المتمثل بين أفعال (التصيير) وما ينجم عنها من بكاء الخالق هـــــــو كسر للتوقع، فعملية البكاء الإلهي هي عملية انزياح شعري تحاول كسر حدود التضاد الذي ينبغي أن يكون في منأى عن بكاء العلة الأولى، إلا إن التوكيد على البكاء هو الذي خلع عن العلة الأولى صفات اللا تلازم مـــــــــــــع منتجها الأهم / الإنسان /. إن القصيدة تدور في فلك النزعة السردية والنفس الطويل . ويبدو المقطع الأول الطريق الممهد لهذه العملية، إذ أن الإحداث يسردها راو عليم وتطغى الروح الدرامية على المشاهد كلها بسبب أنها تدفع بالخطاب الشعري إلى أقصى درجات الخلخلة النفسية للمتلقي . ومن المهيمنات الأسلوبية التي يعتمدها الشاعر في هذه القصيدة تلك الاستطرادات الكثيرة التي تغادر مركزها في الكثير من الأحيان لتكون متجاوبة مع عمق القضية / المأساة، أو متعارضة معها في بعض الأحيان ثم تعود ثانية إليها، اذ انه يغرف الكثير مما في ذاكرته ويحاول دفع دلالاته الشعرية حد الاستنزاف على نحو غير قائم على البوح المباشر غير أن هذا البوح مشبع بالصور والفائض الدلالي الطري المتولد من دلالات الصور الجديدة ذات الطبيعة الانبثاقية غير الخارجة عن الثيمة الرئيسة لتتأمل المركز الدلالي الثالث الذي يعود مرة اخرىالى المهيمنة البارزة (هم = أولاد الخايبة )، فمفتتح المركز الدلالي الثالث يبدأ بأكثر من صيغة تشبيهية لا تنفك عن الابتعاد عن لب القصيدة

هم ملح الأرض ووردتها

النهر الهادر بالنبض

وهم أحسن تقويم في الأرض

ألهؤلاء وهم اللحمة والسد

 

إن هذه الصلة الوثيقة بالمركز تعطي له فائضا من الدلالات، إذ أنها لم تتكون نتيجة رغبة في اضفاء التشبيه لمسألة مجردة، فالتشبيه – هنا – نافذ إلى جوهر الأشياء بدون أن تفقد قنواتها المادية المحسوسة والمعروفة . في المقطع الرابع ينتقل النص إلى ما يبثه الراوي ليسرد لنا بنحو استفهامي تعلوه النبرة الشعبية التي ولع بها الشاعر للوصول إلى ما يعضد البعد الواقعي لقصيدته من دون أن تفقد بريقها العام. أما المقطع الرابع فملتصق بالمقطع الأول، إذ نرى إن بداية المقطع الأول يبدأ بشبه الجملة / في الآخرة / والمقطع الأخير يعود إلى نقطة الانطلاق

يعني شنو ؟

هيه جهنم مو هيجي

قل شيخ لحظة كان الموت يلملمه

فوق رصيف اسود

كانت جهنم تتبختر في شارع أربعين

 

ان التوالد الصوري يحقق تداخلا مع بقية المقاطع، وهنا نلحظ عناية الشاعر بالدوران حول الدلالة المركزية إلا انه يحاول اختراق نمطية تلك الجلالة بأنماط لغوية تثري الموضوعة الفكرية للقصيدة حتى يتضح لنا ان القصيدة لا تقف على مدلول واحد وبهذا تحقق واقعيتها غير متكئة على ذلك الواقع كليا لبناء هيكل شعري رصين وصدق من قال: الشعر إعادة صياغة ما نعرف على نحو لا نعرفه او لم نعرفه من قبل فتتبدى الدلالات المنزاحة طرية كواحة صلبة وكماسة) . المقطع الأخير يحول الحزن الى موقف، تبدو فيه لغة النص وقد أعطيت زخما قويا وضربة إيقاعية لا تخلو من صيحة صادقة تتجلى في ذلك الدعاء المملوء باليأس

 

فيا رب

خل الموت لي

\ ودعه يغمض عيني ويطبع قبلة على

جبيني

تضيء لي القبر بآلاف الفراشات التي

كفنتني بها يداه

أو دعني اقبله

كيف يقبل من كان في الكفن رمادا

 

إن الدلالة الأخيرة متعارضة تماما مع الثيمة الرئيسة،فها هو يطلب إن يستفيق الميت ليغمض عينيه. إن هذا التبادل الموقعي كناية عن الإحساس النابض مرة بالحياة ومرة بالموت . ان الدعاء الأخير ما هو إلا صيحة عن فقدان الإحساس بالحياة والوصول الى مفترق طرق صعبة، فإذا بهذه الأسطر تقفل درب الشاعر وتوصد باب الشعر لتستحيل نداء موت لنفس فقدت الأمل وظلت النار الحبيسة فيها تأكل كل شيء . لقد أتحفنا موفق محمد بهذه القصيدة التي اتخذت من النمط الحكائي المبني على سرد الواقع والعود إلى نمط الشعر الحديث بواسطة التداخلات التي طرأت على النسيج العام للقصيدة والتحول بها من واقعة بسيطة إلى حكاية سردية متمكنة من امتلاك ناصية الشعر وإعادة بثها على طريقته المعهودة في تجمير ما هو بارد وتحريك ما هو ساكن

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1249 الاثنين 07/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم