قضايا وآراء

قراءة وتأويل لمجموعة (عادل مردان) الشعرية: مَنْ لا تحضرهُ السكينة جمرة الشعر وميتافيزيقيا الحضور

فالاقتراب من هكذا اشكالية قد يجر الباحث الى التداخل مع ما هو وعيوي وتاريخي، بمعنى حاجته الى عملية فحص تراتبي دقيق لمجمل ما افرزه العقل الانساني عبر مسيرته الطويلة، ثم التداخلات المتعامدة التي انتجت الكثير من المواقف الملقية بظلالها على العملية المتصلة بالوعي بنحو تام والعملية الادبية من بعدها بنحو خاص . ان الكيفية التي تمكن بواسطتها الادباء حصرا في الوصول الى مقتربات تؤسس ميولهم الواعية ازاء مجمل ما تمور به الحياة، لهذا يكون من الصحيح ترديد ما قاله الجاحظ من ان (الفكر مستنبط الحكمة، ومستثار الصوت، ومستوضح غوامض الادلة وكاشف ضباب الغفلة عن الافئدة). بهذا الزخ المندى على صفحات الفكر الداخل في موقد الشعر ننفتح على هذه المجموعة الشعري وستكون قراءتنا تقنية ان صح التعبير . تبدأ المجموعة بقصائد خمس ثرياها (عندي هذه الالعاب). وتتوزع هذه القصائد على مجموعة من المعطيات تنتظم في مسألتين هامتين هما: الذاتي والموضوعي . فحيث يعجز الذاتي عن الخوض في غمار قضية ما يتصدى الموضوعي له، او بالعكس من دون ان يحدث تباين رؤيوي / فكري في عملية التعامد وما يتحقق منها من منتجات، بيد ان ذلك الذاتي او الموضوعي ينبع من مناهل شتى منها ما هو مرتبط بأنثيالات معمدة بظواهر نفسية لم تستطع ان تفلت من عقال ما هو مثالي لتؤسس نوعا من المعالجة الفكرية ذات النزوع الاجتماعي غير المنفصل مما هو في العرف وان لم يكن ذلك واضحا . ان المعالجة / الرؤيوية الى ما هو مثالي جاءت بمنظار وعيوي متقدم (تماثيل تراقب العدم) كون التمثال صورة لحقيقة عيانية، وأخرى تضرب في اعماق التاريخ لتبني احلامها وفق المتخيل المحسوس، وثالثة تنظر في الافق الابعد لتجربة شخصية معمدة بالارق والاسئلة المحرقة ومعجم يركض خلف امنيات الروح التي تأتي ولا تأتي في آن واحد . هذه العوالم المتداخلةتذهب في مجموعة من التفريعات التي تخدم الهم العام وهي:

اولا: عالم المُثل: يقوم هذا العالم على صفات متناثرة يجمعها خيط رفيع ممتد بين الرائي والمرئي وما بينهما في القصيدة الاولى، وبين الرائي ورؤاه للحوادث في الثانية، وبين الرائي وخشيته مما يرى والرابعة والخامسة بين الرائي وما يتشكل بين بؤبؤ العين وفكره مرة واخرى بالموسيقى .

ثانيا: عالم الوعي: هنا  ينكفىء الرائي ليعود الى عقله الخالص الذي يدفعه في ضوء عالم التجربة الحية بأتجاه الانعتاق من عالم المثل 

 

خطير على نفسي

ما أنا الا معجم متنقل

من الدماء والتطلع

عندي هذه الالعاب

وأرغب في التحرر

 

هذه الرغبة في التحرر صيحة العقل وصراخه لأنه بحسب أرسطو (اساس كل اختيار) وغايته .

ثالثا: عالم التشتت: هنا الخطاب الشعري يذهب الى ابعد نقطة من مركزه ليؤسس مدينة فاضلة بيد انها واقعية، تبحث في سر الأشياء بوعي اللحظة، وتعطي من كينونتها شيئا الى الآخر لتضفي عليه التوحد . والتشتت – هنا – لا يعني التبعثر بقدر ما هو تشظي لأضاءة أماكن معتمة جدا عند الآخر

ليتني أقود الاطياف

الى وجهك الباهر

واسكب قرآن الماء

 

نعود الى القصيدة الاولى / تماثيل تراقب العدم / ولنقرأ القصيدة بنحو معكوس، نبدأ من المقطع الاخير

                                            الفلاح يعالج نبات الظل

ويغسل كفيه بالمطهر

المسطحات

ملساء

متجهمة

الجوارح تحلق عاليا

بينما النظارة تفتش عن اليراعات

 

في هذا المقطع يرمي الشاعر الى الاحتجاج الضمني على ما وصل اليه الفلاح. هنا / نبات الظل / هو بنية التحول عن النبات الحقيقي /الحي، وهذا سؤدي الى تحول اليد المنتجة الى يد رخوة تتعامل مع النبات وكأنه شىء مضربدليل القرينة المتمثلة بالفعل  / يعالج /، لذلك اصبحت المسطحات ملساء، متجهمة . هذا التحول اعطى دفقا اكبر للخطاب مما زاد من الفاعلية الفكرية في الوصول بواسطة اللغة الى معالجة الواقع وليس النظر اليه . ان خروج الفلاح على ما هو مألوف ليس اجراءا من اجل المخالفة المصرح بها ضمنا داخل الخطاب بل انه تحوير في وجهة الخطاب المشتمل على ما ذكرناه في تحويل مساره مما هو اجتماعي / عاطفي الى ما هو علمي / عقلي

                                                    

فمي امنحه الى الصفير

تكبر ما شئت يا فمي

رأسي ارميه الى الاساطير

كفاك يا رأسي غنةصا

بدني أُنميه على الثرى

تزدهر يا بدني في الجلال

منتشية اقدامي على الاسفنج

احذيتي الحمراء تطير الى المتحف 

 

 يتخذ الخطاب صيرورة اخرى هنا، اذ ان الذات مرتحلة عن مكانها، عن وجودها، صوب اماكن تفقد فيها شروطها الصحيحة وان كانت هذه الاماكن مرتبطة بخيط قوي بـ (ثريا) كل قصيدة . ان عملية منح الفم الى الصفير هي قلب لسيرورة المنتَج، بمعنى اعطاء الجزء الى الكل مثل / تنمية البدن على الثرى / . هنا نلاحظ دقة التصوير وثراءه وكيفية قلب السيرورة بأتجاه معاكس للسطر الذي قبله، اذ ان / الثرى / المكون الاساس لبدن الانسان (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين) / المؤمنون /، هذا الانحراف تقويمي يرمي الى ان يرى الانسان  نفسه على حقيقتها ولا يتوهم انه ابعد من مكونه، وهذا ما يقودنا الى الاستنتاجات الآتية:

اولا: ان القصائد الخمس تعتمد لغة ضمنية تجريدية تنطلق من الداخل الى الخارج ومن الخاص الى العام .

ثانيا: انها، اي القصائد ذات مفردات نسيجية تحمل كل منها عالمها المنفلت بيد انها تنتظم في خيط رفيع هو الذات الانسانية .

ثالثا:تحمل اللغة سمات (الكلام الفردي)  الذي يدور في تلط الذات الرائية والراصدة لكنها المشالركة في اغناء الآخر بما تحمل من كم تجريبي في الحياة .

رابعا: اعتماد التجريد الذي يحاول سحب الحقائق اليه بغية الوصول الى مبنى محكم ومعقول .

اما (الاقوال غير المأثورة) فتتنوع فيها طرائق الخطاب، اذ يلعب الفراغ المنقوط دورا مهما في تشكيل بنية الخطاب اذ انه شفرة يرسلها الشاعر الى المتلقي لفك رموزها مشفوعة بالغائب

 

يحمل موتنا ويسير

كم بكينا على اخطائه

بينما نسرح جدائل الشفقثة

نتلمس من الزمن خلاصا

والموجة تزأر في قفصه الصدري

قرب الفنار اقتربنا من وداعه

أمسكنا بصوته الرقراق فأختفى 

 

 

تمنحنا هذه السطور مجموعة من المعطيات التي يمكن ان تشي بما تذهب اليه هذه القصائد:

أولا: ان سمة الغياب / الحاضر هي المعطاة الاولى . فالحضور محصور بعملية حمل الموتى والسير بهم، اما الغياب فمشفوع بأختفاء الصوت الذي هو بحسب الجاحظ (آلة اللفظ والذي يبلغ به السامع ما يدركه الفكر) .

 

ثانيا: اما السمة الثانية فهي جمالية غير منفصلة عن السمة الاولى اذ ان زئير الموجة في القفص الصدريجزء من الصوت المتحقق في نهاية المقطع والمسبوق بما هو مادي ملموس / القفص الصدري

ثالثا:سمة المناخ: نقصد بالمناخ  السمة التي تتحرك بها الموصوفات في المقطع الاول والذي يتوخى الشاعر بواسطته الأنطلاق الى فضاء الاسئلة المشفوعةبالاوامر، أي ان عملية غياب النور برمته لا تتحق في شخصية الغائب بل قد تتعداه الى ما يبدو في الظاهر تطهيرا عقليا لحدث عام بدليل القرينة المتمثلة برفع شرط البكاء عن المبخرة الذي هو جزء من عملية التطهير من خلال المكون الاساس للمبخرة / النار / .

أما القصيدة التي تحمل المجموعة ثرياها، فالنصيص يحمل اكثر من موّجه، يتمثل الموجه الاول بأن ما وراء النصيص مجموعة من التراكمات المختلفة التي يحملها شخص ما وهذا الشخص يضع تلك التراكمات بيد من لا تحضره السكينة كونه قد مر بها وتمثلها جيدا وخرج منها وبها بالكثير مما يفيد الآخرين . أو ان السارد – هنا – سرد عليم ايجابي يروي لنا اشياء عن الذي لا تحضلره السكينة . في المقطع الاول تأتي كلمة / جحيم / شاذة عن وصف الحافلة حتى وان اقترنت بالملل لكن اغلب الظن ان / الحافلة / هنا ضمنية وهي تشير الى الحياة بدليل السطرين التاليين، فالاول أمري مقترن بـ (اللازورد) واللازورد معدن شهير شفاف ازرق ضارب الى الخضرة وله منافع في الطب اضافة الى استعماله في الحلي . اذنعملية سكبه على ابناء القوم عملية يراد منها التطهير اكثر مما هي مسألة جمالية بدليل الجحيم المتحقق من سرعة الحياة وتعقيداتها والمتمثل بتخطف الحافلة . في المقطع الثاني (اذا جاز لنا هذا التقطيع) بسبب من وجود العلامة الانكليزية التي تعني الاضافة فأن الشاعر انتقل بنا زمنيا الى (الظهيرة) ليزيد من اتساع حلركة الفعل بأتجاه التوتر ثم ليستبدل بطريقة القطع السينمي للصورة امام توتر آخر مشفوع بقصد لا يبتعد عن مقصديته الذاتية، اي ان ذلك التوتر مصنوع لغايته بدليل لا تشابه ولاتطابق ما هو مألوف بين الاشياء، وهذا الاجراء يجعل من الصور آنفا للقصدية المبيتة وراءه والمتمثلة بالسمو الذي يمثله مجموعة من الصفات / تصهل بخطم جامح / . في المقطع الثالث يحاول السارد التعامل مع المكان مع تداخل الشخصيات والاصوات في داخل ذلك المكان غير مبتعدة عنه غير انها لا تغفل زمنها، الزمن الذي الذي تتحرك به على الرغم من تغييب المكان في البداية وتحويل مساره من اللامعلوم الى المعلوم. ويخترق هذا الفعل / النهر /  الذي يعترض طريق المكان منذ بدايته  الى نهايته فهو مفترق طرق. فالطريق الاول قد استنفد فعله المؤثر مما قاد الى الهوان المقيد الذي سد كل الطرق مما حدا بالسارد بالقبول بما هو اسوء / لا اريدها حانة اريدها خمارة / تفقده وعي حالته المكتظة بداخله . ان التداخل الحاصل بين الزمان والمكان بنحو تناوبي يبلور  لنا معطيين اولهما: ان هذا الزمن مندلق في اللازمنوهو ايضا ممتد ما بين الكشف عما في النفس وضياعها بعيدا عن السكينة التي تبحث عنها منذ اول خطوة خطتها في حياتها . والثاني الذي يقوم على تبلور الاول في ضوء خاتمة القصيدة التي ظلت متأرجحة بين الزمان والمكان اذ الاستسلام للحقيقة اصبح امرا واقعا لا مفر منه . وهكذا ينتصر الخارج على الداخل ويفقد الذاتي خصوصيته التي حاول القتال من خلف متاريسها لكن من دون جدوى 

 

ولكن ماذا يفعل من لا تحضره السكينة

غير ان ياعب جراحه بالجراح

ويتحصن بالمرح

 

ان هذا التخريج ما هو الا دعوة الى ممارسة  وعي  بما يحمل الميدان من نبض ومعالجته معالجة لا تفقد الذات شيئا من انسانيتها الا انها تضعها بين مفترق طرق وما أشد الأختيار !ّ!!

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1266 الخميس 24/12/2009)

 

في المثقف اليوم