قضايا وآراء

قراءة وتأويل لقصيدة Second hand year

 الثانوية لا تستعمل كصفة (لسنة مُسْتَعمََلَة) حتى في السياق العربي، وقد تكون مقبولة في الشغر من جهة البنية النشازية فيه . لهذا، فالعنوان يحمل عملية قلب للمنتَج، اذ ان الاستهلاك لا يصح ان يأتي مع الزمن الا انها لعبة الشعر الجيد ونباهة الشاعر المقتدر في اللعب بالسياقات.

تبدأ القصيدة بحرف آخر للسيرورة، سيرورة الاشياء في علاقتها بما يديمها، أو يجعلها سوية

                                        كل عام ونحن نكوي السنوات

                                        تحت أسرتنا

لاحظ ان الخروقات لم تأت اعتباطا ولكنها مؤصلة، أي ذات تأصيل تاريخي، فعملية كي الملابس على نحو وضعها تحت الفراش مأخوذة من التجربة العسكرية، اذ كان الجنوذ يضعون  ( بنطالاتهم ) تحتها لكي تظهر مكوية في اليوم التالي. هذه الادانة واضحة بيد انها مست صميم الوجود الانساني / عمره /، لذلك وضع الشاعر جزءا من الزمن / سنة او عامل / محل / البنطال / ملصقا الصفة نفسها، اذ لابد ان تكون / السنوات / معكرة وعلى حال غير سوية . ويبقى النمط الاسلوبي نفسهوالدوران في فلك المعاودة، اذ ان انسان النص لما يزل في تكوينه الاولي، لا يفارقه / كل عام ونحن مأخوذون بالتراب / الذي يلف عالم الفقراء والمساكين . التراب – هنا – جاء من دون توصيف لأنه المادة الاساسية في التكوين البشري، وهذا ما يحيل الى ان الزمن لم يفعل فعله في الانسان، لم يغير أي شيء فيه . ولعل ما يديم الصلة بالبؤرة الرئيسية هو التوكيد على ما يعادل عملية الأستلاب وان اتخذت شكل الشراء

                                         نشتري الاعوام المستعملة

ان التضاد الدلالي يتمثل في عملية / الشراء / التي هي من الاشياء الحسية التي تشتمل على التغيير ولو كان جزئيا، لكن انسان النص واقع بين فكي / الكي / و / شراء المستعمل / المستهلك . ان النص يحاول الابتعاد عن التشفير الذي يلف عالم المأخوذين . في البناء السردي للنص، تبدأ القصيدة بدال زمني (كل عام)، غير ان الدال فقد دلالته الزمنية بعد التصاقه بالدال الفعلي / نكوي / والدال المكاني / تحت السرير / . ان عملية اختيار الزمن ثاويا في المكا ن ما هو الا ربط ما هو شعوري بما هو واقعي . 

ويأخذ البعد السينمي مساحة وهمية في هذه القصيدة التي تتداخل فيها الفنون، السعر، الرسم والسينما، فللقطة / الصورة تنوب عن الكلمة / الدلالة. هكذا اجراء ذكي لا يشتتنا عن بؤرة النص ولايبعدنا عن الملمح المرجعي للقضية المركزية / استلاب الانسان / زمكانيا .ان الشاعر يستطرد بواسطة الابتعاد عن الدلالة المركزية بأتجاه تخوم قد تكون متعارضة سياقيا مع تلك الدلالة لكنه سرعان ما يعود اليها، أو يحوم على مقربة منها .لنلاحظ ذلك في:

 

لا نزلاع اليقطين

والجرادل أصدأتها الانهار المالحة

ربما نزخرف السماء بالنار

أكثر من يزخرفها نحن

لكن ليست هذه الليلة

 

هذا الفاصل النصي قد يبدو مستنزفا للبؤرة الدلالية الرئيسة غير انه في حقيقة الامر يشبها على نحو غير مباشر صوريا وهذا ما يضفي على القصيدة فائضا دلاليا مبعثه اللقطات الجانبية، او القطع المبرمج من اجل جذب المتلقي وكسر توقعاته . فعملية استبدال الصياغة بالشكل قد اثرت النص واحلت تغييرا في بنية اللقطة، فالصورة متحدة مع ما هو غير متوقع. هذا التضاد جزء من البنية التشكيلية اذ ان (علاقة الشعر بالرسم دائما علاقة تماثلية  بل قد تصبح علاقة تضاد، او تحريف كما يحصل حين يضيف الشاعر للشيء اجزاء، او صفات ليست فيه، أي ان يبني علاقته بالشيء على اساس تنوع التصوير) 1 . ان هذا النص يصرخ بوجه الزمن، ويدين ذلك التلاشي المتحقق في الواقع والذي يساوقه في الوقت نفسه تصارع بنية التنافذ المتحصلة او المترشحة من ذلك الانسان المستلب الذي يصرخ بوجه النزعة الضدية التي يحملها الانسان والزمن ضد انسان آخر .هنا يضاعف النص الكتابة خارج الكلام الثابت والجامد الذي لا حراك فيه، فالنص يتمدد في اللاتوقع :

 

ربما نزخرف السماء بالنار

اكثر من يزخرفها نحن

لكن ليس هذه الليلة

 

ان واقعية النص تثابر  على صياغة الاستنفار الروحي ضد المراوحة النفسية ازاء ما يدمر الجسد، وتحاول ان لا يبدو الترابط جليا بين جملة واخرى، لكن هذه المقصدية مبررة بدليل وجود القرائن الملاصقة لها

الاطفال ينامون مبكرا وقد تركوا الحليب باردا

 

هذا المقطع مع المقطع السابققطع مبرمج، متحقق من خلال المرئي / زخرفة السماء / ووقوف بسبب الفعل الاعتراضي المتحقق في منام الاطفال على الرغم من التحول المادي (من المادة) الحاصل في اهم ما يحتاج اليه الطفل . فتغليب النوم (المؤثر الخارجي) على الحليب هو فعل غير اراديلأنه مرتبط بالواعز الفطري. اذنالعزلة المتحققة بين الطفل وحليبه عزلة نبياة امتلكت حريتها بالامكنات الاحتياطية للروح وفطرتها .أما الهدم الكناياتي المتحقق على المستوى الآخر، مستوى الكبار، فيكشف ظرفيته بواسطة مجموعة من المعطيات الحقيقية:

في الشتاء تقبض علينا الوحشة

ويصك رأس السنة اضراسه

على رغباتنا

لن يهبط البياض

كما لن يهبط الفرح

 

هكذايوسع النص من مدياته بأتجاه ان يكون الزمن ممثلا بـ / السنة المستهلكة / من اجل ديمومة كسر الذات بأتجاه محاصرتها بكماشة الزمن .  ان هذا التقويض بالمأساة الذي يلقيه الشاعر على نفسه هو نقل لصوت الآخر المخنوق بفعل الزمن والآخر / يصك رأس السنة اضراسه على رغباتنا / . ونلاحظ ايضا في هذه القصيدة التركيز على حرف / السين /  فهو يرد اكثر من عشرين مرة وهذا ما ساعد على زيادة الرنين الموسيقي المخنوق بواسطة الدلالات المنفتحة على ذاتها بواسطة الحالاتالمحسوسة وغير المحسوسة / الشجرة الكبيرة / الاعوام المستعملة /. ولا يكاد ان يخلو اي مقطع من تصعيد درامي:

 

ستظل الشوارع قميئة

هكذا

مثل منفضة سكائر

الشجرة الكبيرة

حطبها الفقراء لتنانيرهم الجائعة

فأين سنعلق ادعيتنا

 

لاحظ التحشيد الصوري الذي يشتغل على مولدات الدلالة المتداخلة حيث تصبح الشوارع مكانا اكثر قمائة مما هي عليه ى. هذه المشهدية المقززة تشهر بصوت عال لافتة الظرفي ليصبح فنا بواسطة الاشارة التي تحكي وتناشد وتحتج بنحو واضح .  ان هاجس الوجود المستلب للانسان هو هاجس النص الاعمق على مستوى الايحاء، فمفتاح الاصالة يكمن في / قدمين عاريين / أو / لحية صفراء / أو / عنزات الافراح المتنافرة في المقاهي الموصدة / . اذن المحرك هو الطوق المفروض على ذات الانسان، وهو الباعث على زحزحة المتوالية الشعرية داخل النص. هذه التغطية الروحية المخذولة هي صيحة الجسد الفردي ضد ما هو اجتماعي استلابي، فالاجتماعي هو المرموز الاول الذي تنفتح عليه الآمال والالام. اذن عملية تعري أو الذات امام ما هو خارجي لا ينفي تعرية المسكوت عنه على الرغم ان:

السماء ستذهب بعيدا

لتنفض قطنها وحريرها

حيث تكون النار فاكهة

والايام تقاويم ملونة

 

هنا التحول الحاصل بين ما هو ارضي وما هو سماوي / ارضي يحققه الجسد الذي لا ينسى عذاباته، اما السماوي / الذاكراتي المتجلي داخليا فهو الانعتاق الروحي، لاحظ التحول الكينوني 

 

 اولا : النار   يقابلها            فاكهة

ثانيا : الايام   يقابلها            تقاويم ملونة

 

في (اولا) تتحقق الرغبة ممزوجة بالصراع، بينما في (ثانيا) تتلبس الاقنعة وتتناوب الادوار. فالتحول الحاصل في كينونة الايام عملية طقسية لا تحمل مفارقة كينونية. اما الضربة الاخيرة للقصيدة فتطلق صيحة اخيرة حاملة لحكميات واوامر:

 

لن نخرج للبهجة هذا المساء

بثياب مرتقة

لا يليق بكبريائنا

وبجيوب تخذل السعادة

 

ان فضاء التمني المتحقق في آخر سطر هو الذي يعيد ترتيب الاشياء بأتجاه بث العزلة وانفضاضها وهي التي تغرز رمح الخلاص في الذات المرهقة . ان الشاعر صدام الجميلي يمتعنا بين الحين والحين بهذه الالتماعات الشعرية الذكية والحداثوية التي نحن بمسيس الحاجة اليها .

 

..................

الاحالات

1/ الشعر والرسم / رؤية طبولوجية / طراد الكبيسي / بحث مقدم لمهرجان المربد الشعري الحادي عشر /1995

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1280 الخميس 07/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم