آراء

لماذا تستهدف روسيا؟

كريم المظفرقد يبدو للبعض ان عنوان المقال غريبا، ولكن وفي ظل هذه الظروف التي تمر بها روسيا، يتوجب علينا تسليط الضوء على بعض الحقائق الضرورية التي يجب ان يعلمها من المهتمين بالشأن الروسي، من الذين لم يعايشوا البلاد في تسعينيات القرن الماضي، لكنهم اليوم يحللون ويكتبون مواد لم يعايشوها، بل سمعوها من مؤسسات تحاول رسم صورة مختلفة عن روسيا،  ويحاول البعض منهم  إضفاء صفة " المفهومية"  لنفسه في بواطن الحياة السياسية الروسية.

وهنا بات لزاما علينا وضع  القارئ الكريم بالصورة الحقيقية لما شاهدناه وعشناه في روسيا، وكما هي ودون رتوش او إضافة او نقصان، ولا نريد هنا مجاملة احد على حساب الحق، لأني لست مواطنا روسيا ولم احصل حتى على اقامتها الدائمة بحكم القانون الروسي وشروطه المعقدة  لذلك،  وقد تكون شهادتي (مجروحة) كوننا نقيم على الأرض الروسية منذ هروبنا منذ العراق عام 1999، لكن روسيا وفرت لنا وعائلتي الأمان والاستقرار الذي فقدناه وغيرنا من المقيمين في بلداننا، وافضل طريقة لرد الجميل هو قول الحق، حتى وان كان هذا سيغيض البعض ممن اكل وشرب من خيرات هذه البلاد، وما ان حصل على جوازها الذي فتح له أبواب العالم، راح (ينعق) مرددا الأصوات الغربية النشاز ضدها.

وأول ما نتذكره  عندما وطأة أقدامنا هذه البلاد عام 1995 (كمراسل صحفي)، هي تلك الذكريات الرهيبة والمؤلمة للغاية لحقبة التسعينيات من القرن الماضي، فروسيا كانت كالبلد المريض برئيس مريض (بوريس يلتسن)، فاقد للوعي، ومدمن، وبسبب هذا الإدمان على الكحول سجلت كاميرات التلفاز العديد من الفضائح له خلال مناسباته الرسمية، ويذكر رئيس جهاز الأمن الرئاسي السابق يلتسن الكسندر كرجاكوف  في كتابه (من الشروق الى الغروب) واحدة من فضائح ادمان الرئيس " لقد اضطررنا الى الغاء الزيارة الى المانيا رغم هبوط الطائرة في برلين وحضور المسئولين لاستقباله، وافهامنا الجانب الألماني بتعرض الرئيس لوعكة صحية مفاجئة،  لكن السبب الرئيس هو انه كان ثملا للغاية وتركناه ينام لأنه لا يقوى حتى على الوقوف من شدة حالة السكر) وهذا خير دليل على الوضع الروسي الذي كان  يمثله يلتسن.

وحتى انتهاء الفترة الأولى لحكم أول رئيس لروسيا بوريس يلتسن كانت قد تلاشت آمال الجماهير بالديمقراطية المزعومة في روسيا، وتمخضت الاصلاحات الاقتصادية وعلى رأسها الخصخصة عن افقار شامل للسكان، وبدلا من الحكم الديمقراطي حلت سلطة أساطين المال، وقادة فساد تفننوا في سرقة ممتلكات الدولة بداعي (الخصخصة) وحركة الإصلاح التي قادها إيغور غيدار وأناتولي تشوبايس، وعراب الكريملين بريزوفسكي وعراب الاعلام زيلينسكي  وغيرهم، بالإضافة الى الجوع والعوز لدى الناس، وموظفين لم يتلقوا رواتبهم لأكثر من سنتين، ومافيات تقاسم الناس رغيف خبزهم، وديون دولية اثقلت الميزانية الروسية، ذهبت جميعها الى جيوب الفاسدين، ومثل هذا الوضع يذكرني بما يجري في بلدي العراق اليوم.

ومع بداية فترة الرئيس فلاديمير بوتين عام 2000 دخلت روسيا بألفية جديدة  ركز فيه الرئيس الجديد على الاختفاء التدريجي  للمظاهر السابقة،  وطارد الفاسدين والمافيات في عقر دورهم، فمنهم من اتخذ بريطانيا ملاذا  " كفاسدي العراق الان"، ومنهم من طالتهم يد القانون الذي احكم الرئيس بوتين دوره بشكل قوي، عندها بدأت مظاهر  الازدهار الاقتصادي تلعب دورها في حية المواطن بشكل كبير، ساعد في ذلك أيضا ارتفاع سعر النفط،  ما دفع الرئيس بوتين في احداث قفزات اقتصادية كبيرة، وارتفعت معها التصنفيات الاقتصادية الدولية لروسيا، وأحس المواطن الروسي بنعمة هذه الازدهار، وبات يعرف مهنة الاصطياف كل عام في دولة جديدة غير التي قبلها، وتسابقت الدول السياحية بتقديم العروض تلو الأخرى لاستقطاب السائح الروسي، والذي اصبح حتى اليوم رقما صعبا في سوق السياحة العالمية لجذبه اليها، ناهيك عن الطفرة القوية في سوق العقارات والمشاريع العمرانية وافتتاح ارقى المراكز التجارية الضخمة بماركاتها الأجنبية المعروفة وتهافت شركات السيارات العالمية، تويوتا وفولكس فاكن وبي ام دبليو ورينو وغيرها من الماركات العالمية تتهافت لفتح مصانع لها في روسيا، بعد ان  رافقت سيارات (لادا او موسكوفيج) المواطن طوال حياته، والقائمة تطول من الإنجازات الاقتصادية تحتاج لدواوين لكتابتها  .

ونعتبر تنظيم روسيا لفعاليات بطولة كأس العالم لكرة القدم 2018، القشة التي قصمت ضهر البعير، وفضحت  ازدواجية الغرب  و"استقتاله" المميت لعرقلة هذا التنظيم، واعتبروها "الغلطة" التي لن تغتفر لهم (أي للغرب)، لأنه كشف ما زعم به الساسة والاعلام الغربي وتحذيراتهم من السفر الى روسيا ومخاطرها، والصورة التي رسمها الاعلام الغربي لمواطنيه عن روسيا مثل كونها بلد المافيات والعصابات والفقر الذي يعيشه المواطن فيها، فقد اثبتت روسيا العكس تماما وبشهادة كل المختصين والمحللين السياسيين والرياضيين، بالمستوى العالي للتنظيم، ونظافة البلاد، والامن والأمان  في جميع المدن التي استضافت فعاليات البطولة وطيلة فترة ال 30 يوميا، لتكون احسن بطولة على الاطلاق في العالم، ومثالا يحتذى به للبطولات السابقة .

كما التفت الرئيس الروسي الى الوضع الصحي في البلاد فإعادة هيكلة المرافق الصحية وتزويدها بأحدث الأجهزة والكوادر الطبية بجميع فئاتها وآلياتها وأجهزتها، بالإضافة الى إعادة تنظيم القوات المسلحة وتزويدها بأحدث الأسلحة، وأزال الصدأ عن معدات قواته المسلحة، ورفع جاهزيتها وبناءها بشكل سليم لتكون سور البلاد المنيع وبكافة تشكيلاته المسلحة، وكذلك رفع الموثوقية في السلاح الروسي، وتشجيع الابتكارات العالمية لتطويرها، حتى بات اليوم أحد وجهات الصراع بين روسيا والغرب للاستحواذ على سوق السلاح.

اما على الساحة الدولية، فكان خطاب الرئيس بوتين، مدويا في ميونخ عام 2007، وكان البداية للخلاف مع الغرب، بعد ان أعادت روسيا تموضعها بروح المبادرة والإقدام، وبعد عهد مديد تآكل فيه نفوذها حتى في مجالها الحيوي المباشر، وخسرت مواقع متقدمة في جوارها الذي التحق بعضه بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما فقدت امتيازات تمتعت بها في البحر المتوسط

وجاءت روسيا بمطالبة واضحة بأن ينكمش نفوذ "الغرب" لصالح قوى جديدة تتصدرها روسيا عملياً، ولا يبتعد هذا عن هواجس تتأجج في أوروبا تحديداً بشأن مصير "الغرب" ذاته، وليس النظام الدولي فقط، وحضرت روسيا مؤتمر ميونيخ 2016 كما يقول الكاتب حسم شاكر في مقالته،" حضرت روسياً مؤتمر ميونيخ الأمني هذه المرة مكللة بتاج الوقار، بعد سنوات ثلاث تلازمت خلالها مشاركتها في أعماله مع إثارة الجدل بسبب سياسة المبادرة والتوسع التي انتهجتها ".

موسكو اليوم هي ليست موسكو التسعينيات، فتبدو الآن شريكاً بديلاً محتملاً لبعض عواصم وسط أوروبا وشرقها، كما ظهر مؤخراً في التقارب الروسي مع الاوربيين وبلدان أمريكا الجنوبية، والعالم العربي وقضاياه، والتي أصبحت تحمل رسائل لاذعة إلى الشركاء الغربيين وامريكا، وباتت موسكو اليوم " محج" الباحثين عن حلول لقضاياها المصيرية، بعد قناعة منهم بان روسيا بعيدة عن " منطق الاستعمار " الذي يجسده الغرب بصورة وحشية في كل تحركاته.

ما قامت به روسية خلال السنوات الماضية من تحركات عسكرية ودبلوماسية، اثبت انها باتت رقما صعبا في قضايا دولية مهمة، سواء في الشرق الأوسط والخليج وحتى في مجال التعاون الاقتصادي والامن الأوربي، تحركات جعل الغرب يسرع من عجلى " مؤامراته " ضد روسيا عموما والرئيس بوتين خصوصا، لان الأخير بات يلعب في مناطق سجلت كمناطق نفوذ غربية واوربية، وكشفت " زيف وازدواجية " تعامل الغرب مع قضايا هذه المنطقة، وبالتالي خسر الغرب وأمريكا صورته التي رسمها طوال عقود من الزمن بأنه " الوسيط النزيه ".

وقد يجادل البعض في وجهة نظرنا المتواضعة، لأننا نمتدح الخطوات الروسية بشكل تام، لكن نحن لا ندعي ذلك، فلروسيا أيضا لها مصالحها في العالم، ولا تستثني نفسها منها،  لكنها على عكس غيرها، فهي عادة ما تبني علاقاتها مع الحكومات الشرعية،  على عكس الغرب الذي يبني مصالحه مع طرف على حساب الأطراف الأخرى، وفي ذات الوقت  تمسك  موسكو العصا من وسطها، وتحتفظ بخيوط العلاقة مع جميع الأطراف في أي (نزاع) فمثلا انها تحتفظ بعلاقات مع جميع الأطراف الفلسطينية وإسرائيل، ومع الحوثيين والحكومة الشرعية في اليمن، حتى في النزاع الخليجي الإيراني فموسكو تقف مع الجميع على مسافة واحدة، وفي الملف الليبي تحتفظ بعلاقات مع حكومة طرابلس وبنغازي، وهكذا هو تعاملها مع الملفات الأخرى، وتحاول موسكو تقريب وجهات النظر خدمة لمصالحها ومصالح الأطراف المتخاصمة .

وفي غمرة الإزاحات الميدانية والتحولات السياسية وخلط الأوراق على جبهات عدّة يكون لدى موسكو ما تعنيه من دعوتها لإعادة تشكيل النظام الدولي، ومن ذلك ضرورة فتح صفحة جديدة في مجالات متعددة، بما في ذلك الإقلاع عن مساعٍ غربية لمحاصرة روسيا والضغط عليها، علاوة على أنها رسالة من موسكو بأهمية الاعتراف بدورها الصاعد في عالم متعدد الأقطاب.

اذن كلمات لرئيس بوتين " لسنا بحاجة لعالم لا توجد به روسيا"، وعلى الرغم من طباعه الهادئة، فقد اثبت أنه شخص صارم وحاسم، وهو مستعد لاستخدام الأسلحة النووية ضد الولايات المتحدة الأمريكية حالة وقوع هجوم نووي على روسيا، وتعني ان روسيا لن تكرر مصير الاتحاد السوفيتي، وهي قادرة على استخدام جميع الوسائل المتاحة لمنع ذلك، دون استثناء.

وخلاصة القول فان روسيا كغيرها من دول العالم التي طالتها تأثيرات جائحة كورونا، وطالت جميع مرافق الحياة في البلاد، وشلت البلاد تقريبا لعدة شهور، وكغيره من شعوب العالم انعكس ذلك على الحياة اليومية للمواطنين، لكن ما يميز روسيا هي انها ركزت على مكافحة مظاهر الغلاء والتلاعب في قوت الشعب، ولم تسمح بحدوث قفزات كبيرة تثقل كاهل مواطنها، وتكليف الحكومة لمراقبة الأسعار خوفا من استغلالها من قبل بعض "المتصيدين" في هذه الظروف، وكذلك عملت الحكومة على تشريع قوانين وتسهيلات للتخفيف عن المتضررين، وشجعت علمائها لابتكار  لإسراع في ابتكار اللقاحات اللازمة، وباتوا اول دولة تصنع لقاحات تكافح كورونا، وبدأت حملة شاملة لمواطنيها، رغم كل العقوبات الغربية التي تفرض عليها بين الفينة والفينة بحجج مختلف لوقف عجلة التطور الروسية في كافة المجالات .

لذلك، فإن اختيار الغرب للتوقيت لاستهداف روسيا هذه الفترة لم يكن موفقاً، وإثارة الاحتجاجات ضد حكومتها، فالشعب الروسي غير مستعد للاحتجاج، على الأقل في الوقت الراهن، ولن تكون هناك ثورة كما " يتوهم " البعض ممن اغرتهم ثقتهم بما يردده الاعلام الغربي وساسته، ولا يمكن أن يستثمر المعارض الروسي نافالني  لتحقيق نتائج الاحتجاجات في الانتخابات البرلمانية المقبلة، والتي تجري في سبتمبر من العام الجاري 2021، فالوقت مبكر للغاية، وستختفي الاحتجاجات قبل ذلك بكثير، ويبقى الخطر الرئيس الآن هو التصعيد المباشر  من قبل الولايات المتحدة الأمريكية (لمؤامراتها) بشكلها القبيح .

 

بقلم: الدكتور كريم المظفر - موسكو

 

 

في المثقف اليوم