آراء

عبد القهار الحجاري: اليسار المغربي بين ثقافة الوحدة وذهنية الانشقاق

عبد القهار الحجاريلا يوجد يسار يصرح أنه غير وحدوي، كل الأحزاب والتنظيمات اليسارية بالمغرب، بدء بالشيوعي المغربي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مرورا باليسار السبعيني السري ووصولا إلى صيغ التجميع الحالية يحضر خطاب الوحدة قويا في أدبياتها السياسية، مع أنها كلها عرفت وتعرف ظاهرة الانشقاق، كأن قدر هذا اليسار التشرذم والانشطار، والانحدار الدائم إلى المزيد من الضعف والانقسام، إنه فصام فكري وسياسي أن نرفع شعار الوحدة، ونحن نشهر معاول الهدم والانشقاق.

وشتان بين الشعار وتطبيق الشعار، فلا تقاس وحدوية أي توجه بمدى حضور شعار الوحدة في خطابه السياسي، بل بمدى تشبعه بثقافة الوحدة، فقد كانت الناصرية والبعثية والستالينية وحدوية الخطاب دموية الممارسة حد الفظاعة في آن معا، ولهذه التوجهات الشمولية في اليسار المغربي امتدادها وانعكاسها حتى لقد قيل " متى هطلت الأمطار عندهم رفع الرفاق عندنا مظلاتهم"، ذلك هو اليسار الذي لا يزال حبيس التقليدوية القائمة على الولاء والنقل والاتباع والقبلية والحلقية الضيقة.

إذا كانت الثقافة تظهر في النشاط الفكري والمعرفي والعلمي، وفي كل أنماط السلوك البشري وفي العادات والتقاليد والأعراف والنظم والقوانين ...فإن جوهرها يكمن في كيفية تمثل العالم وطريقة التفكير وفهم الأشياء واتخاذ الموقف منها.

أما الوحدة فتقوم على الجمع على أساس الحدود الدنيا والقواسم المشتركة وعلى قاعدة قبول الاختلاف والقدرة على العيش المشترك، ووحدة اليسار بهذا المهنى تنصب على تقليص مساحة التعارض، وتوسيع دوائر الالتقاء، ليصبح الاختلاف حافزا على الائتلاف عبر قبوله وتدبيره بالتنازلات واللين وتقوية المشترك، واستحضار المصلحة العامة في تحديد المواقف والسياسات والبرامج وتخطيط التحالفات، حتى يتحول الاختلاف إلى عامل قوة وخصب فكري ونظري باعتماد المراجعة والنقد والنقد الذاتي والابداع لا منطلقا للتقوقع والاتباع والتعصب الحلقي وهي المسلكيات الناسفة لكل مشروع يخضع للانفعال وتعوزه العقلانية.

ثقافة الوحدة تكون بهذا رؤية وموقفا واعيا بالشرط التاريخي للتقدم والحاجة إلى تجنيب اليسار المزيد من الإخفاقات والأخطاء القاتلة المفضية إلى التشرذم والانقسام، والحاجة إلى تغليب روح الجمع والائتلاف الضمانة الأساسية لقوة الصف التقدمي الديمقراطي، من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية ونقل المجتمع إلى طور الحداثة والتقدم، وبناء الدولة المدنية الحديثة القائمة على الحرية والديمقراطية والعيش الكريم للمواطنات والمواطنين.

وإذا كانت وحدة اليسار والصف الديمقراطي عامة موقفا واعيا، وثقافة أصيلة في التوجه السياسي لا مجرد شعار للاستهلاك السياسي، فإنها بذلك تكون قناعة مبدئية غير قابلة للتجزيء أو للكيل بمكيالين، لا تتأثر بحسابات اللحظة السياسية كالانتخابات مثلا، وإلا تغدو الوحدة مجردتكتيك سياسي لتحقيق مآرب حزبية أو ذاتية ضيقة، ولذلك تعطينا ثقافة الوحدة وعيا عميقا بأهميتها في المدى المنظور والبعيد، فتكون بذلك اختيارا استراتيجيا مرتبطا بأهداف بعيدة تنشد تحقيق تغيير عميق في المجتمع والدولة (دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع)، ولا تقف عند السقف الانتخابي كما هو الحال في مشروع الفدرالية المتسرع للاندماج لأن أقصى ما يطمح إليه هو توسيع التمثيلية في المؤسسات.

إن وحدة اليسار يجب أن تكون محكومة بثقافة سياسية جديدة ذات آفاق مستقبلية، تتجاوز السقف الانتخابي نحو تهيييء أسس الانتقال الديمقراطي، وبذلك فإنها ترقى إلى أن تكون تفكيرا عقلانيا متفردا في الأداة الحزبية كيف تتحول إلى رافعة قوية تشيع الأمل وتبني المستقبل، كيف تتحول إلى مدرسة للديمقراطية تزخر بالاعتمال الفكري القائم على المبدأ لا على الماكيافيلية.

أما ذهنية الانشقاق فهي طريقة تفكير انفعالية حبيسة رؤية ضيقة غير عقلانية، ينزع أصحابها إلى التفرقة حتى وإن زعموا أنهم وحدويون، وبما أنها نزعة غير عقلانية فإنها لا تقبل النقد ويعوزها النقد الذاتي ولا تتعايش مع الاختلاف إذ لا تؤمن به في العمق، فتنزع إلى الانشقاق بحثا عن تربة نمطية هادئة غير قلقة لا يشوبها اختلاف ولا صراع، لأن الصراع عند ذوي النزعة الانشقاقية لا بد أن يحسم بالعنف: قذف وشتم واتهام... ثم انشقاق أو كما يسمونه "فك الارتباط"، ولا يعترفون بصراع الأفكار المثمر، وهذه طبيعة الإديولوجيات الشمولية، فهي صدامية استبدادية لا تستطيع التعايش وتطوير الذات التنظيمية والأداة الحزبية، لأنها لم تتمثل بعد ثقافة الديمقراطية تمثلا عميقا.

إن ذهنية الانشقاق لا تؤمن بالوحدة إلا كاختيار تكتيكي مرحلي، تمليه الحاجة الانتخابية، وليست قناعة مبدئية واختيارا استراتيجيا، وهذا ما يفسر عدم اكتراث أصحابها بالتأسبس الفكري والوضوح النظري للتحالف بصيغة الاندماج وهو أرقى صيغة للوحدة وأصعبها على الاطلاق، وهو ما يفسر أيضا استغلالهم للحق في التيارات من أجل السيطرة وفرض توجه واحد وإقصاء التيارات الأخرى، لأنهم لم يألفوا التعايش في إطار الاختلاف وتعودوا على الانشقاق في انتماءاتهم السابقة، وهو حال اليسار التقليدي  (الحركة الاتحادية) وقسم من اليسار الجديد (المستقلون).

فلا يمكن أن تجتمع في عقل واحد ثقافة الوحدة التي يستحيل بناؤها على الشمولية وذهنية الانشقاق التي لا تعترف بالتعايش في إطار الاختلاف، ولا ترفع شعار الوحدة إلا كاختيار مرحلي تكتيكي انتخابي، لا كقناعة مبدئية وتحالف استراتيجي، وليسأل المنشقون اليوم أنفسهم: ماذا حقق رفاقهم المنشقون من قبل؟ ماذا حقق أصحاب منصة أوطيل حسان؟ ماذا حققت الانشقاقات السابقة في اليسار منذ الاستقلال غير الانكسار والانتكاس والخيبة وتيئييس الجماهير.

 

عبد القهار الحجاري

 

 

في المثقف اليوم