آراء

ثامر عباس: أزمات المجتمع العراقي بين غياب (النقد) وانعدام (الوعي) التاريخيين !

بالنسبة للشعوب التي لم يبرح (ماضيها) يمسك بتلابيب (حاضرها) ويتحكم، من ثم، بآفاق (مستقبلها)، يغدو من المتعذر، بلّه المستحيل عليها التنعم بمظاهر ؛ التطور الاجتماعي، والازدهار الاقتصادي، والتقدم العلمي، والارتقاء الثقافي، والنهوض الحضاري. ما لم يتأتى لها الإفلات من قيود (الخانق الماضوي) واجتناب المسارات التي تفضي إليه والإقلاع عن الإغراءات التي تدعو له. أي بمعنى الانخراط في غمار تجربة (النقد التاريخي) الجذري والشامل، لكل ما ألفته وتعايشت معه تلك الشعوب من أصول وأسس وثوابت ومرجعيات وخلفيات، بحيث أطرت عقليات أفرادها وجماعاتها ونمذجة قيمهم وأخلاقياتهم وقننت تصوراتهم وبرمجة سلوكياتهم، وفقا"لأنساق ومعايير ثابتة لا تتغير ولا تتبدل. وإلاّ فإنها ستبقى في حالة من تدوير عوامل تخلفها وتغذية عناصر جمودها وإنتاج أسباب انحطاطها.

على إن (النقد) الذي ندعو له ونشجع عليه، ليس ذاك الذي يعني نسف كل موروث بغثه وسمينه واطراح كل قديم بسلبياته وايجابياته، كما يريد البعض من دعاة الحداثة وما بعد الحداثة فعل ذلك. وإنما – كخطوة أولى - تفكيك كل ما ألفناه من تمثلات أسطورية وسرديات تاريخية ومنظومات ثقافية، والقيام من ثم – كخطوة ثانية – بتمييز الأصيل من الدخيل في ذلك المخزون، وبالتالي الشروع – كخطوة ثالثة - بحملة من النقد التاريخي والمعرفي المبني على آخر ما توصلت إليه العلوم الاجتماعية والإنسانية من نظريات علمية وفرضيات معرفية، تجرّد تلك التمثلات والسرديات والمنظومات من طابعها الأسطوري والخرافي من جهة، وآخر ما أبدعه الفكر الإنساني من منهجيات تفكيكية وتحليلية وتأويلية، تنظر إلى مواريث الماضي بمنظار النسبية التاريخية والجدلية الاجتماعية من جهة أخرى.   

ولعل من المفارقة إن هذه الشعوب المغلوبة على أمرها، بدلا"من أن تشرع – كما فعلت الشعوب المتقدمة حضاريا"- بتفكيك كل تلك السساتيم العقلية والبنى النفسية والأطر الاجتماعية والأنظمة الثقافية، التي شلّت وعيها وكبلّت إرادتها وأعاقت نهضتها وأجهضت طموحها، تساهم هي ذاتها بتخليد أنماط اشكالياتها وتأبيد ضروب معاناتها، عبر هاجس الدفاع عن مواريث ماضيها (التليد) وأصول تاريخها (المجيد) حقا"كان هذا الدفاع أم باطلا". لاسيما وان مسار تاريخ تلك الشعوب ملئ بالانقطاعات والانحرافات نتيجة تعرضها المستمر للغزوات الخارجية والاحتلالات الأجنبية التي طالما حاولت التقليل من شأن مواريثها، والنيل من تاريخها، والحط من هويتها. وهو الأمر الذي حملها – كإجراء دفاعي مضاد - على تبرير ما كان يحصل في حقل التاريخ من (اختلاقات)، وتسويغ ما يجري في مضمار الذاكرة من (تلفيقات). بحيث إن هذا الأمر يضع على عاتق المثقفين عامة والأكاديميين خاصة أعباء تجشم هذه المسؤوليات الوطنية والمصيرية، بعد أن يكونوا قد تسلحوا بما توفره فضائل الجرأة المعرفية والموضوعية العلمية، لإعادة قراءة جذرية وشاملة لكل ما حوته مضامين تلك المواريث المطمورة في اللاوعي والعالقة في المتخيل.

ومن باب المقاربة الواقعية لهذه الإشكالية المستعصية، تطالعنا تجربة المجتمع العراقي المأزوم كحالة ملموسة فيما يتعلق بالعواقب والتداعيات الناجمة عن غياب ممارسة (النقد التاريخي) من قبل النخب الثقافية والأكاديمية، لكل ما يرتبط بأرشيفات الماضي المؤسطر ومواريثه المؤمثلة التي استمر تداولها وترويجها من قبل المؤسسات البيداغوجية (المدارس والمعاهد والجامعات)، والإيديولوجية (وسائل الإعلام ومراكز البحوث) لكل من المجتمعين السياسي والمدني، دون نقد أو مساءلة لمضامينها كما لو أنها حقائق تاريخية لا يرقى إليها الشك. لا بل إن كل من يحاول أو يبادر للقيام بمثل هذه المهمة / المغامرة مدفوعا"برغبة التغيير والإصلاح ، سرعان ما يواجه بسيل من الانتقادات القاسية والتعليقات الجارحة، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى حدّ التهديد والوعيد من لدن حراس الماضي وسدنة الموروث.

وإذا ما قارنا حالة المجتمع العراقي على هذا الصعيد مع ما يوازيها أو يماثلها لدى بعض المجتمعات العربية الأخرى، سواء أكان على مستوى العلاقات أو الذهنيات، سنلاحظ أنها - في الحالة الأولى - تأخذ منحى من التعقيد والتفاقم يتزايد مع تزايد إيقاع الأزمات التي يتعرض لها المجتمع. هذا في حين يتباطئ – في الحالة الثانية - نمط إيقاعها ونطاق اتساعها وعمق تداعياتها، ليس فقط بسبب قلة الأزمات التي تستهدف هذه المجتمعات التي تتموضع ضمن نفس المجال الجغرافي والحضاري فحسب، وإنما لامتلاكها رصيد معقول من مصدات (الوعي التاريخي) التي تقلل من تواتر تلك الأزمات وتمتص من زخم صداماتها أيضا". أي بمعنى إن افتقار الغالبية العظمى لمكونات المجتمع العراقي لفضيلة (الوعي التاريخي)، ساهم بشكل كبير وعلى نحو مباشر ليس فقط في غياب عنصر (النقد التاريخي) من القاعدة الابستمولوجية للعقل العراقي فحسب، بل وكذلك سوّغ لتلك المكونات إهمال ذلك العنصر (المزعج) وتنحيته عن مسار اهتماماتها التقليدية التي توارثت ثوابتها وسردياتها ورموزها جيلا"بعد جيل. 

وهكذا تبدو انه من السذاجة بمكان تصور إن سيرورة الزمن وإيقاع كرونولوجيتها، ستتكفل لوحدها بإيجاد الحلول المناسبة لأزمات المجتمع العراقي المتراكمة والمتفاقمة، دون أن يصار إلى إعادة الاعتبار إلى منهجية (النقد التاريخي) لمنظومة الوعي الاجتماعي، والتي من دونها يستحيل الخروج من تلك الخوانق المدمرة التي ما برح الإنسان العراقي يتخبط بين جدرانها المغلقة. كما انه من غير المعقول فهم واستيعاب منهجية النقد التاريخي، فضلا"عن ممارستها بالشكل الصحيح، دون حيازة خاصية (الوعي التاريخي) أولا"وقبل كل شيء. إذ بدون وجود مثل هذا النمط من الوعي النوعي يستحيل على العقل التقليدي التغلب على ممانعاته الذاتية وممنوعاته الموضوعية، وبالتالي ليس بمقدوره التخلي عن قاعدة البراديغماتيات (بنى وأنماط وأنساق) التي يعمل بموجبها ويتفاعل من خلالها. ولعل هذا المأخذ المعرفي والمنهجي هو ما أوحى للمؤرخ والمفكر المغاربي (عبد الله العروي) بوصف الانتلجنسيا العربية كونها شريحة اجتماعية بلا (رأس التاريخي)، وهو ما يمكن اعتباره توصيف ينطبق على (الانتلجنسيا) العراقية تمام الانطباق !.  

 ***

  ثامر عباس    

في المثقف اليوم