آراء

المشهد الاستراتيجي الإقليمي المستقبلي (2)

في الصراع (الصيني/ الأمريكي) الجديد في المنطقة

قال الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران-قبيل مماته بأيام-:"الفرنسيون لا يعرفون ذلك، لكننا في حرب مع أمريكا. نعم، إنها حرب دائمة، حرب حيوية، حرب إقتصادية، حرب مبادئ، حرب بلا موتى على ما يبدو. نعم، الأمريكيين متجبرون للغاية، قساة متغطرسون وشرهون، ويريدون سلطة مطلقة على العالم. إن فرنسا في حرب مجهولة مع الأمريكيين، حرب دائمة على ما يبدوبلا موتى، ومع ذلك فهي حرب حتى الموت"... من كتاب / Le Dernier Mitterrand أو"ميتران الأخير"للصحفي وكاتب السيناريوهات السنيمائية والكاتب الفرنسي جورج مارك بنامو، آخر أصدقاء فرانسوا ميتران المقربين الذي حاوره قبل مماته، وكتب عنه في"المذكرات المتواصلة. "

 حقا.. !!.. لعل فرانسوا ميتران كان أعظم ثالث حاكم في التاريخ الفرنسي لمابعد الثورة الفرنسية بعد نابوليون بونابارت وشارل دوغول. وقد أعطى كل شيء للأمريكيين نشدانا للود والقربي، علهم يتصدقون عليه من فتات مائدتهم ولوبالنزراليسير !

وتزلفا للأمريكيين، أعاد ميتيران فرنسا إلى الناتو-بعد أن أخرجها دوغول منها !وشارك في حرب الخليج الأولي بالرغم من أنه كانت تربطه بصدام صداقة شخصية خصوصية، وكانت عراق صدام من أهم مستوردي الدول العربية للعتاد الحربي الثقيل من فرنسا، وديون العراق لصالح فرنسا كانت تقدربحوالي 30مليارفرنسي-زمنها-.. !.

ومع ذلك تخلى ميتران عن"يساريته"وعن الإلتزامات االإيديولوجية"اليساروية"والمواثيق الأخلاقية التي كان يدندن بها للعوالم الثالثية المغفلة-وتلك هي السياسة-طمعا في أن يشاطره الأمريكيون تقاسم كعكعة"إعادة إعمارالعراق"بعيد الحرب، والتكرم عليه عليه ببضع برامل من النفط !"فكان نصيبه حفنة دولارات معدودة مثل شحاذ ثالثي، عبرتعاقد صفقة صغيرة ل"عربات يد"من مصنع مغمورفي منطقة الألزاس، وذاك درس لعباقرة"أصدقاء أمريكا"من المطبعين في المنطقة لعلهم يرجعون !لأن نكران الآخر وإذلاله هي من أهم قواعد اللعبة الدولية للسياسة الأمريكية.

هذا من جهة، ومن جهة أخري، فكلنا نتذكرتلك المحادثة التي دارت في الأسبوع الثاني من شهرمارس من عام 2019 -حول الشأن الصيني- بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب-من الحزب الجمهوري-والرئيس الأسبق جيمي كارتر-من الحزب الديموقراطي، حين كان الرد الحرفي لهذا الأخيركالتالي:"أنت تخشى أن تتفوق الصين علينا ؟أليس كذلك؟وأنا أتفق معك. لكن هل تعلم لماذا الصين تتفوق علينا؟لقد قمتُ بتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع بكين عام 1979. ومنذ ذلك التاريخ، هل تعرف عدد المرات التي كانت فيها الصين في حالة حرب مع أحد؟ولا حتى مرة واحدة. ونحن ظللنا باستمرار في حالة حرب. !الولايات المتحدة هي الدولة الأكثرعدوانية في تاريخ العالم، لأنها تريد أن تفرض القيم الأمريكية على دول أخرى. ومن ناحية أخرى، تستثمر الصين مواردها في مشاريع مثل السكك الحديدية العالية الجودة والتقنية والسرعة بدلاً من تكريسها للإنفاق العسكري. كم كيلومترًا من السكك الحديدية عالية الجودة والسرعة لدينا في هذا البلد؟لقد أهدرنا 3 تريليونات دولارفي الإنفاق العسكري، ولم تهدرالصين فلساً واحداً في الحرب، ولهذا السبب، فهي تنتظرنا-متحدية-عند كل الطرق تقريباً. ولوأخذنا ثلاثة آلاف ملياروإستثمرناها في البنية التحتية الأمريكية، لكان لدينا خط سكة حديد عالي الجودة، وسيكون لدينا جسورلا تنهار. وسيكون لدينا طرق يتم صيانتها بشكل صحيح. (ولا لكنا الدولة الأكثرثراء وقوة وتقدما، في العالم، وهي أيضا الأكثرتعرضا للإنقطاع المتواصل للكهرباء وخطوط الإتصالات الهاتفية، والأكثر تضررا نتيجة الكوارث الطبيعية الموسمية، بسبب هشاشة البنية التحتية الأمريكية- إضافة من كاتب المقال-)وسيكون نظامنا التعليمي جيدًا مثل نظام كوريا الجنوبية أوهونج كونج "إنتهى كلام كارتر.

ومنه، فلا يمكن للولايات المتحدة أن تظل دائما-ولمدة 70 عاما-متحكمة في نفس الوقت"في الفرن وفي المطحنة"-كما يقول المثل الشعبي الفرنسي– بمعنى : أن تديرشئون العالم، وفي نفس الوقت تدمره. وخاصة مع الفاشل"جو"، والحمقى الذين يتحكمون فيه من وراء الأستار الذين هم أغبي منه !، ولو كانوا غير ذلك لكان واضحا اليوم -. فحالهم الآن في خبطهم يغني عن مُسائلتهم. -!

ومنذ زمن بعيد، أرادت النخبة الأوليغارشية العالمية المتصهينة الدفع بخدمها وحشمها الدوليين والإقليميين، أن يفرضوا على شعوبهم خططها الفاشلة، لإستكمال الهيمنة على العالم. إلا أن نتائج أداءهم المخزي يلاحقهم. لأنه لايمكن التخطيط -على المدى الطويل -لعمليات طويلة ومعقدة، لتدمير البشرية وتلويث روح الإنسانية وفي نفس الوقت"إستعباط"ذكاء المجتمع الإنساني، دون التفكيرفي رد الفعل المحتوم للآخرين، الذي لا يمكن التنبؤ به، (وذاك ما يحدث للأمريكيين منذ 70 عاما). ومنه، فلا يمكن أن يُفترض- غباء-أن يكون هناك دائما أشخاص مؤهلون ومستعدون للخدمة المجانية، ويتقبلون تجرع مهانة المذلة عند الفشل، ويرتضون البقاء مجرد تابعين متصعلكين!-ذاك مستحيل !-وذاك حال المطبعين، من الأغبياء المفيدين للأمريكي والإسرائيلي. مما يعني اليوم أن مهمة إزاحةهذه "النخبة"من أماكنها، وطرد خدمها من مقاعدهم أسهل بكثير.

والسؤال الآن الذي يدور في خضم هذه الأزمة الأوكرانية-التي لا يعلم أحد كيف ستنتهي-:كيف سيزعزع (التحالف الصيني-الروسي) ستراتيجيات (التحالف الأمريكي- الإسرائيلي- العربي"المطبع") في المنطقة. ؟حيث أن"الحياد"و"النأيعن النفس"لبعض دول المنطقة لن يجدي نفعا !. فكيف ذلك؟:

- بالعودة إلى أغسطس 2010، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما انتهاء المهمة العسكرية في العراق التي قررها سلفه جورج بوش الإبن... بعد ذلك، شرع أوباما في محولات إقناع الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ب"شرعية التدخل العسكري في ليبيا"للإطاحة بمعمر القذافي.

وتظاهرا من أوباما-خبثا-بعدم التورط في إغتيال القدافي-بل كان من طرف"قيادة بعض حلفائه من الحلف-يقصد ساركوزي" (على حد تصريح له في عام 2013 ). رفض أن يحكم على الرئيس السوري بشارالأسد بنفس المصير (لأنه خلاف"فرانسواهولاند"-الرئيس الفرنسي-كان أكثر حذرا وذكاء، لكون مخابراته أعلموه بعدم وثوقية مصادرإستعمال بشارالأسد للكيماوي)، ولكنه عمد إلى ما هوأكثر خبثا، وهوخلق الدواعش سرا-لضرب عصفورين بحجرواحد-بإعتراف وزيرة خارجيته"هيلاري كلينتون"-. وتمويل الغرب كله للنصرة(التي وصفها بالحرف الواحد، لوران فابوس وزيرالخارجية الفرنسية في حكومة فرانسواهولاند:"النصرة يقومون بعمل جيد في سوريا"، والإشادة الغربية والسعودية والقطرية والإماراتية والتركية بأحرارالشام وباقي فروع تنظيم القاعدة.... كما وفرأوباما التدريب والدعم الجوي للقوات المسلحة العراقية، وفي نفس الوقت للميليشيات الكردية السورية. -إستعباطا للجميع-(وهكذا كان أوباما يحرك خطوط اللعبة الجيو-سياسية ويوجهها حسب رؤى إدارته زمنها).

وبالطبع، إستطاع أوباما إيهام الجميع أنه في مواجهة عسكرية مع تنظيم الدولة الإسلامية(داعش)-مع ما سمي–إحتقارا للعقول–ب"التحالف الدولي"الذي لم يتمكن-للغرابة-بعدده الكمي الكبيروعتاده الحربي الحديث المهول، من التغلب على الدواعش والفرق " الجهادية-السلفية–العابرة للقارات(الذين هم فقط مرتزقة من حثالات أقوام وجنسيات شتي مدججين بعتاد جيمسبوندي-(أوروبي–أمريكي-إسرائيلي) وبمدد " روحاني غير مرئي" من السماء !!-والذي كان على وشك السيطرة على العراق وسوريا-لكن أوباما، مرة أخرى-من باب التمويه والخداع والستراتيجية والتاكتيك-فعل الحد الأدنى من المساعدة للعراقيين للظهوربمظهرالصادق والمُخلًص.

الصعود المتسارع للصين، وتبعاته على الوجود الأمريكي في المنطقة:

أكمل الرئيس جوبايدن أخيرًا فكرة إنسحاب ترامب من أفغانستان، -ولكن بنتائج كارثية-وفعل ذلك باسم أكبر تحدٍ أمني وإقتصادي لأمريكا في القرن الحادي والعشرين: الأ وهوالصين. (مما سيعجل على المدى القريب بالإطاحة بالحزب الديموقراطي لمدة 8 سنوات، وكما أطاح الكوفيد بترامب، فستطيح الأزمة الأوكرانية ب"جو")

في الواقع، أكثرما تخشاه واشنطن في المنطقة، هو صعود الصين المتسارع بهدف السيطرة الكاملة على الاقتصاد العالمي، وإكتساح(تنموي-إقتصادي)بشكل متواتروسريع في المنطقة.

 ومع تنامي الأزمة الأكرانية، عبًرالرئيس الصيني عن دعمه للفلسطينيين -بالطريقة الصينية الهادئة والواقعية-

وفي هذا السياق، فإن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط لم يعد له أي معنى في إطارالوضع الجيو-ستراتيجي الحالي للتحالف (الروسي-الصيني-السوري-الإيراني)، بحيث أصبح (التحالف السعودي-الإماراتي-القطري-المغربي) الهش، ليس له أية جدوى"جيو-عسكرية-سياسية"–اللهم سوى النقرعلى أوتارالهسترة الطائفية الفارغة: (للصراع السني/ الشيعي)! وسيكون هذا التحالف مُجبَراًعلى التفاوض مع اليمنيين أوقبول الإندحار المذل.

وفي المحصلة، وعلى أرض الواقع، فبحلول عام 2030، ستستورد الصين 80٪ من نفطها من الشرق الأوسط. -وخاصة من إيران- ويثيراعتماد الصين على نفط المنطقة -التي تخطط الإدارة الأمريكية للانسحاب منها منذ عهد أوباما -العديد من الأسئلة أهمها:أن الانسحاب سيفقد واشنطن فعالية ممارسة ضغوط كبيرة على منافسيها في المنطقة:الروس، الصينيون والإيرانيون. ومنه بالتالي، فقدان الإستمرارفي حماية إسرائيل وحلفائها في المنطقة. وحتى سيناريوقيام ما يسمى -مهزلةَ- ب"الناتو الإسرائيلي -العربي" سيكون عملا غبيا وجنونيا قد يدفع بأعداء إسرائيل وحلفائها العرب، إلى إيقاع أضرا بالغة بهم كمجموعة أو كفرادى. (وكما قلت في بداية الموضوع: لايمكن التخطيط -على المدى الطويل-لعمليات طويلة ومعقدة، (جيو-عسكرية) دون التفكيرفي ردالفعل المحتوم للآخرين، الذي لا يمكن التنبؤ به)

التخوفات المشروعة لأمريكا وحلفائها في المنطقة:

في بيئة إستراتيجية من منظورتطورطبيعي ومنطقي لمجريات الأحداث في الأراضي المحتلة اليوم وفي دول خليجية وفي مصر والعراق لبنان وتونس، سيكون من المرجح أن تنخرط الصين مع دول حليفة في الشرق الأوسط بشكل أكثر وضوحا في العمل على ترحيل الأمريكيين. حيث يبدوأن الفكر الستراتيجي الأمريكي الرسمي ظل لمدة 30عاما عقيما وغبيا في تصورهذا الإحتمال، ناهيك عن أن حلفاءها -كما أكرردائما -لا يقررون شيئا، ولا يخططون أية استراتيجية محكمة لبلدانهم ولشعوبهم، بل هم فقط مجرد دمى يطيعون وينفذون ما يملى عليهم.

ساسة العرب المطبعون، لا يملكون أية ستراتيجية عقلانية لما بعد" الأزمة الأوكرانية"ـبل قد بنوا رؤاهم الجديدة لما بعد الحرب الأكرانية على العمل المضني والمكلف والمحفوف بالمخاطرعلى عودة "حامي حماهم" دونالد ترامب، الذي يحركهم من بعيد للزج بهم بالإلتفاف حول إسرائيل-بالغالي والنفيس-إنتظارا لعودته مثل عودة المسيح الدجال، تخوفا من أن تؤدي هزيمة الولايات المتحدة في اللعبة الكبرى الجديدة في آسيا الوسطى وفي قلب أوروبا إلى انسحابها من الشرق الأوسط. بالرغم من تطمينات مُهلوِسة "جو"، أوالبينتاغون، عبر وزيرالدفاع الأمريكي الحالي- لويد أوستن- الذي لم يبدد شكوك الحيارى الخليجيين المتسائلين، في اللقاء الذي إنعقد مؤخرا بمنتدى إقليمي مخصص للأمن القومي الخليجي. بالإضافة أن الأنظمة العربية المطبعة كونها أنظمة عبثية لا تسعى سوى الإمتثال لأهداف أجنداتهم الصبيانية: التي هي الحفاظ على الكراسي للبعض وملء الجيوب للبعض الآخر-، بالتعاقد من الباطن مع الأميركيين، بموجب الدعم المالي لإسرائيل، على أساس تعهد الأخيرة أن تحل تدريجيا محل الولايات المتحدة كحامية لهم وللمنطقة.... !! ولكن ممن؟؟؟

 أما أهم مخاوف الدول العربية المطبعة مع الكيان العبري- بشأن الانسحاب الأميركي-هي فرضية فقدان سيطرة هؤلاء على شعوبهم، والفراغ السياسي السلطوي الناتج عن ديكتاتوريتهم وأخاديعهم، والتعفن الإداري والغبن والفقرالاجتماعيين المسيطرة على سياساتهم الداخلية، مع احتمالات أن تملأ إيران وروسيا والصين هذا الفراغ. الأمرالذي يفسرسبب اندفاع دول عربية قليلة بدون تفكيرستراتجي بعيد المدى، للتوقيع على اتفاقيات "إبراهام الترامبية"، لإعتبارهم أن إسرائيل هي القوة العسكرية الأكثرفاعلية في المنطقة لحمايتهم من وهم"إبادتهم من"المجوسي الإيراني"، ولا يتسأل هؤلاء عن من سيحمي إسرائيل، التي أصبحت مهددة من الداخل من خطر التطورات الأكيدة للمقاومات الفلسطينية-الإسلامية واليسارية–من داخل الإراضي المحتلة. ومن داخل قطاع غزة الذي هواليوم على فوهة بركان قد ينفجر في وجه الاحتلال الإسرائيلي، مع حلول رمضان، مواكبة مع ما يجري اليوم في القدس. إذ أن الكيان الصهيوني غير من سياسته تجاه غزة، وحولها إلى حرب على المياه ضد الغزيين. وقد تكون هذه الأزمة التي تلوح في الأفق في غزة، هي الأسوأ على الإطلاق في تاريخ الصراع الغزي /الإسرائيلي. والكل عن الموضوع صامتون.

ومع ذلك كله، فمن خطل الرأي التأكيد على المراهنة على فك الارتباط الأمريكي في المنطقة. فمن الأكيد أن واشنطن لن تتوقف عن ممارسات ستراتيجياتها المتقادمة الغبية والمعروفة-مع إنعدام أية رؤى" فلسفية-ثقافية-جيو-سياسية"عربية، مقابل الفقاعات "إلإسرائلية–الأمريكية" التي يدعمها عقم التفكيرالابتكاريالعربي. ولا أحد من الساسة المطبعين العرب، يُعمًقُ مدى الضررالذي ألحقه الغباء العربي مند عام، 48 منالتمكين لتثبيت الركائزالصهيونية في المنطقة، عبرالسعي وراء "السلام الوهمي، والمخادع والمستحيل". وما ألحقته عمليات نشر القوات الأمريكية على الجغرافية العربية منذ الخمسيانات عبر قواعدها في المنطقة من المغرب إلى دول الخليج.

***

د. الطيب بيتي

 

في المثقف اليوم