آراء

نيسان 1980: الشهر الأكثر سواداً في تاريخ العراق

کان نیسان ۱۹۸۰ تجسیداً لمأساة العراق في زمن البعث، بالنظر للجرائم الكبرى التي ارتكبها نظام صدام حسين فيه، وهي جرائم لها وقع متميز في التاریخ العراقي، وسيظل العراقيون يعانون آثارها عقود طويلة لأنها أدخلت العراق وشعبه ومعارضته مرحلة جديدة تماماً، کان فيها الدم العراقي أرخص من أي شيء آخر.

قرار إعدام الإسلاميين ومن يروج لأفكارهم

مهّد نظام البعث لمنعطف نيسان 1980، بإجراءت اعتبرها قانونية، لكي يستند الى مسوغ شكلي لعمليات الإبادة الجماعية ضد أعضاء الحركة الإسلامية؛ فقد أصدرت قراراً فريداً من نوعه على المستويين التاريخي والجغرافي، يتمتع بقوة القانون، في 31 آذار 1980، يقضي بإعدام منتسبي حزب الدعوة والعاملين لتحقيق أهدافه تحت مختلف الواجهات والمسميات، وبأثر رجعي، ووقعه صدام حسين نفسه. وجاء في القرار:

«لما كانت وقائع التحقيق والمحاكمات قد أثبتت بأدلة قاطعة أن حزب الدعوة هو حزب عميل مرتبط بالأجنبي وخائن لتربة الوطن والأهداف ومصالح الأمة العربية، ويسعى بشتى الوسائل إلى تقويض نظام حكم الشعب ومجابهة ثورة (17) تموز مجابهة مسلحة. لذا قرر مجلس قيادة الثورة تطبيق أحكام المادة (156)(1) من قانون العقوبات بحق المنتسبين إلى الحزب المذكور أو العاملين لتحقيق أهدافه العميلة تحت واجهات أو مسميات أخرى. ينفّذ هذا القانون على الجرائم المرتكبة قبل صدوره والتي لم يصدر قرار بإحالتها إلى المحكمة المختصة»(2).

وجاء في تفسير وسائل إعلام النظام للقرار بأنه يشمل أيضاً كل من تعاون مع حزب الدعوة أو سهّل مهمته أو روّج لأفكاره، والمرتبطين به بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كالعاملين في المؤسسات الثقافية والفكرية أو الاتحادات المهنية والطلابية التي يرعاها الحزب ويدعمها(3). وأغرب ما في القرار، إنه يسري بأثر رجعي على الحالات السابقة لصدوره، فمثلاً إذا قام شخص، قبل عدة سنوات من إصدار القرار، بتوزيع منشور يروج لأفكار إسلامية يتبناها حزب الدعوة، فإن طائلة الإعدام ستشمله أيضاً.

وبمراجعة سريعة للقرارات والقوانين التي أصدرتها حكومة البعث والحكومات العراقية التي سبقته، وكذلك القوانين الدولية، سيظهر أنّ قراراً له قوة القانون، وبهذه الصيغة والمضمون والمآلات، لم يصدر مطلقاً، فضلاً عن أنه لا ينسجم مع بنود الدستور المؤقت الذي أعلنه النظام عام 1969، إذ أنّ هذا القرار يقضي بتصفية أعداد هائلة من البشر لمجرد اعتناقهم مبدأ معيناً، كما يستهدف نوعاً بشرياً كاملاً، ولا يقتصر على اتجاه أو حركة أو مجموعة أفراد(4). وبعبارة أخرى؛ فإنه قانون يشّرع القضاء على هوية العراق الإسلامية، لأنه يستهدف طبيعة الأفكار التي يروج لها حزب الدعوة، وهي أفكار تقرر بأن الإسلام هو دين وشريعة ونظام يستوعب جميع جوانب الحياة؛ بما في ذلك السياسة والدولة، وعندها ستكون عقوبة الترويج لأفكار الإسلام السياسية، هي الموت، طبقاً للقرار.

وعلى أثر القرار المذكور، اعتقلت السلطات عشرات الآلاف ممن يشتبه بأن لهم علاقة بحزب الدعوة، بل شملت إجراءات النظام كل من يشك بأن له ميولاً دينية، أو يمارس العبادات والشعائر الإسلامية بشكل علني، فسارت القوافل إلى منصات الإعدام، ومات الكثيرون تحت التعذيب. وعن هذه الفترة تقول الصحافية المصرية صافيناز كاظم: «كنت أسير في بغداد أكاد أشم رائحة الدم وأحس مذاقه حقيقة في حلقي وأنا أبلع ريقي»، وتضيف: «كان الشعب العراقي يعرف أنّ الإعدامات الجماعية هذه صارت شيئاً اعتيادياً وروتينياً يومياً، حتى أن الأسرة التي يتم اعتقال شاب من أبنائها تندهش لو عاد سليماً» (5).

علماً أن القرار جاء متأخراً كثيراً، لأن التصفيات التي طالت صفوف الإسلاميين وأعضاء حزب الدعوة، بدأت منذ العام 1972، حين أذيب جسد القيادي الداعية عبد الصاحب دخيل في حامض النتريك المركّز. كما أن الفترة من حزيران 1979 وحتى آذار 1980، شهدت إعدام مئات الإسلاميين، بينهم أعداد كبيرة من الكوادر المتقدمة والقياديين (6).

إعدام المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر

ربما كان المرجع المفكر السيد محمد باقر الصدر وحراكه، السبب الأساس في إصدار نظام صدام قرار إعدام الدعاة، لكي يكون القرار غطاء قانونياً لجريمة إعدام السيد الصدر وأنصاره. وقبل إقدام النظام على تصفية السيد الصدر، عاود ـــ مرة أخرى ـــ التفاوض معه، في محاولة لإسكاته وتحييده أو إسقاطه معنوياً. فأرسل صدام حسين أكثر من مبعوث الى آية الله الصدر، للاجتماع به وأملاء شروط النظام الثلاثة عليه، مقابل التراجع عن إعدامه، وهي:

1- رفع الفتوى بحرمة الانتماء لحزب البعث، والإفتاء بجواز ذلك.

2- عدم دعم الثورة الإسلامية، والبراءة من العلاقة بالإمام الخميني.

3- البراءة من حزب الدعوة الإسلامية، والإفتاء بتحريمه.

وعندما رفض السيد الصدر هذه الشروط رفضاً قاطعاً، تنازل النظام الى شرط واحد، ويتمثل في إصدار السيد الصدر فتوى بتحريم الانتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية وجواز الانتماء إلى حزب البعث (7). ومقابل إصرار السيد محمد باقر الصدر، لوّحت السلطة بتنفيذ قرار إعدامه. وبالفعل، اعتقل الإمام الصدر في الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم 6 نيسان 1980 من قبل أعداد كبيرة من قوات السلطة، وأرسل إلى بغداد فوراً بعد حجز عائلته. وفي اليوم التالي تم اعتقال شقيقته أمنة الصدر (بنت الهدى).

وقبل اعتقاله بأسابيع، ثم بالتزامن معه، اتخذت السلطة إجراءات احترازية مكثفة قاسية، من شأنها خنق ردود الفعل تجاه اعتقاله وإعدامه، للحيلولة دون تفجر الأوضاع في بغداد ومدن الفرات الأوسط والجنوب، مستفيدة بذلك من تجربة فشلها في 17 رجب (8)، وأهم هذه الاجراءات قص أجنحة الصدر وتدمير كيانه المرجعي وحوزته، عبر المجازر والاعتقالات العشوائية التي طالت عشرات الآلاف مــن أبناء حرکة الصدر ووکلائه و المقربين اليه، والتي لم يشهد تاريخ العراق مثيلاً لها من قبل. إضافة الى تفجير الوضع الاجتماعي عبر حملات التهجير الواسعة التي شملت آلاف العوائل العراقية، والتي بدأت في اليوم السابق لاعتقال الصدر، فكان حينها أهالي النجف وكربلاء والكاظمية وبغداد وأغلب مدن الوسط والجنوب مشغولون بأنفسهم وبالمنكوبين من ذويهم ومعارفهم، فكانوا بين معتقل ومهجر وملاحق، أو مدعو لتسلّم جثة أحد ذويه. كما أن 90% من تلامذة الصدر والمقربين منه وقادة التحرك الإسلامي، كانوا هم أيضاً بين معتقل أو معدوم أو متخف أو مهاجر خارج البلاد.

وتم نقل السيد الصدر مباشرة الى الأقبية السرية لمديرية الأمن العام في بغداد، ثم الى القصر الرئاسي، وفيهما تعرض الإمام الصدر إلى صنوف التعذيب النفسي والجسدي ثلاثة أيام متتالية، بغية حمله على المساومة. أما شقيقته السيدة أمنة الصدر، فقد عذبت أيضاً في مديرية الأمن العام والقصر الجمهوري. وتدلي خالدة عبد القهار (أمينة سر مكتب صدام حسين الخاص) بشهادتها حول ذلك، فتقول بأن الأخ الأكبر لصدام جاء ببنت الهدى إلى القصر الجمهوري بصحبة شخص اسمه «عزيز»، «فانهال عليها بالضرب المبرح، وكانت الدماء تسيل من رأسها ووجهها. ثم اقتيدت إلى غرفة السكرتير الأول لصدام حيث ضربت وعذبت، وقد سمعتها تتلو الآية الشريفة «ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها». ثم دخل صدام عليها، وقامت بتلاوة آية أخرى من القرآن الكريم، مما أثار سخطه بشدة، حيث قام بنفسه بضربها»(9).

وقام صدام حسين بنفسه بالتحقيق مع السيد الصدر والاشراف على تعذيبه، وكان يكرر عليه مطالبه السابقة، فيما يقابله الصدر بتلاوة آيات من القرآن، تعبيراً عن رفضه. وبعد فشل كل محاولات المساومة، أقدم صدام حسين بنفسه في ليلة الثلاثاء 8 على 9 نيسان 1980 على تفريغ رصاصات مسدسه في قلب ورأس المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر، ثم رشق برزان التكريتي (شقيق صدام) وشخص ثالث اسمه دحام أحمد العبد الطلقات القاتلة على جسده(10). وقد أوعز صدام حسين إلى نائبه عزت الدوري بقتل السيدة آمنة الصدر (بنت الهدى). وأكد شهود عيان، أهمهم السيد محمد صادق الصدر(11)، الذي استلم جثمان السيد محمد باقر الصدر، وكذا الدفان الذي قام بعملية الدفن، بأن آثار التعذيب والحروق كانت بادية على جسد السيد الصدر وشعره ولحيته. أما جثمان شقيقته آمنة الصدر فلم يؤت به إلى النجف، ولايزال محل دفتها مجهولاً.

حملات التهجير

بعد سنوات قليلة من التوقف، استأنف النظام سياسة تفريغ العراق ممن وصفهم بذوي الأصول الإيرانية من الشيعة، من خلال حملات التهجير والإبعاد الجماعي إلى إيران، وأضاف - هذه المرة - أبعاداً جديدة وخطيرة للقضية، حيث تزامنت الحملات الجديدة مع حالة الهياج العامة التي شهدها العراق.

في 5 نيسان 1980، اليوم الذي سبق اعتقال الإمام الصدر، أعلن نظام البعث عن النفير العام في قوات الأمن والمخابرات والشرطة والجيش الشعبي ومنظمات حزب البعث وقوات حرس الحدود، لتنفيذ قراره التهجير القسري لما يقرب من مليون مواطن عراقي إلى إيران، وعلى دفعات، تستمر عدة سنوات. وقد استغل النظام حادثي التفجير في جامعة المستنصرية ومنطقة الوزيرية في بغداد، ليكونا غطاءً مباشراً لحملة التهجير.

واكتنفت عملية التهجير أبعاد كثيرة معقدة، على الصعد السياسية والتاريخية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية:

1- البعد السياسي لعملية التهجير:

كشف فاضل البراك، مدير الأمن العام حينها، عن حقيقة نوايا سلطة البعث، حين قال في مقابلة صحفية: «تسري إجراءات التسفير على أية عائلة إيرانية يثبت عدم ولائها للثورة ولتربة الوطن، حتى إذا كانت تحمل شهادة الجنسية العراقية. ومن هذه العوائل تلك التي كشفت الاعترافات والتحقيقات تعاونها ودعمها لمجرمي عصابة الدعوة»(12). كما جاء في كتاب «الصراع العربي الفارسي» بأن المسفرين بشكل خاص هم أولئك الذين «ثبت انتماؤهم إلى حزب «الدعوة» أو مشاركتهم في القيام بأعمال تخل بالأمن القومي»(13). وهذا يتناقض مع الواقع؛ لأن الذين يثبت انتماؤهم للدعوة يطيق ضدهم قرار إعدام الدعاة، كما أن العائلة التي تملك شهادة الجنسية العراقية - فضلاً عن الجنسية - كيف يمكن أن تكون إيرانية؟!.

التصريحان المذكوران يكشفان عن حقيقتين:

أ‌- أن غالبية المهجرين يحملون الجنسية العراقية

ب‌- أن المسوغ الوحيد لإخراج المهجرين من بلدهم هو تهمة التعاون مع الحركة الإسلامية، وهي تهمة غير محرزة ولا يمكن لأحد إثباتها بسهولة. ويؤكد مدعّى ذلك الاتهام ما ذهب إليه الكاتب التونسي عبد المجيد تراب زمزمي بقوله: «ومع انه ما من سبب يمكن أن يبرر تهجيرات من هذا النوع، فإن الحكومة تقدم رغم ذلك سبباً.. ما هو؟ «اكتشاف حزب الدعوة»... هكذا تجيب ببراءة!»(14).

إذن؛ فالعملية ذات علاقة مباشرة بالوضع السياسي في البلاد، ولكن هل يسمح مثل هذا الوضع، مهما كانت طبيعته، أن يكون مبرراً لإسقاط الجنسية عن مئات الآلاف من المواطنين وإخراجهم من وطنهم بهذا الأسلوب؟! حُفاة عُراة.. مجردين من ممتلكاتهم الحياتية وحقوقهم المشروعة كافة.

والحقيقة التي لم يخفها النظام، هي إنّ حملات التهجير، في إطار بعدها السياسي، جاءت إجراءاً احترازياً لضرب الحركة الإسلامية وإرباكها وإرباك الواقع الاجتماعي الشيعي، إضافة إلى تفريغ الحوزات العلمية الدينية، ولا سيما الحوزة الكبرى في النجف الأشرف، من علمائها وأساتذتها وطلبتها. أما التفريع الطائفي من البعد السياسي فإنه يتمثل في اقتصار التهجير على «الشيعة» العراقيين فقط، ولم يشمل الإيرانيين من الفرس والكرد السنّة والمسيحيين (الأرمن) والعرب الخوزستانيين. وفي هذا الصدد يقول أحد كوادر الحزب الحاكم: «أن المسيحي مضمون عدم تأييده للثورة الإسلامية، ولأنه لا يمكن أن يكون مشاركاً في حزب الدعوة الإسلامية أو أي نشاط إسلامي آخر»(15)، هذا التصريح يكشف عن جزء من الحقيقة.

2- البعد القانوني لعملية التهجير:

من خلال عملية استقراء منتقاة، ظهر أن 80% من العوائل المهجرة يمتلك أبناؤها الوثائق العراقية التالية: الجنسية، شهادة الجنسية، الهوية الشخصية، دفتر الخدمة العسكرية، هويات انتساب إلى الجمعية والمؤسسات التعليمية (الرسمية) والمهنية والصناعية والتجارية والاجتماعية، إجازات فتح المعامل والشركات والمكاتب، وثائق التخرج من المؤسسات التعليمية (الرسمية). وهناك 15% من العوائل المهجرة لا تحمل الجنسية العراقية، وسبق لها أن تقدّمت للحصول على الجنسية العراقية منذ العام 1959، وأعادت التقديم في العام 1972 ثم بداية العام 1980، ورغم أحرازها شروط الجنسية، إلاّ أن أسباباً طائفية سياسية حالت دون تمتعهم بحق المواطنة (الرسمية). وهناك 5% فقط من العوائل المهجرة كانت تحمل بالفعل الجنسيات الإيرانية والأفغانستانية والباكستانية، أي أن 95% من المهجرين هم عراقيون بالولادة المضاعفة، ولغتهم الأم هي اللغة العربية، وكثير منهم ينتسبون إلى أسر عربية ودينية وعلمية معروفة، بعضها ساهمت في قيادة ثورات العراق التحريرية، كثورتي النجف (1918) والعشرين (1920)، وتنصيب الملك فيصل وتأسيس الحكومة (الوطنية الأولى)، إضافة إلى أحداث البلاد المهمة الأخرى.

تجدر الإشارة أن الجنسية العراقية، ومنذ العام 1917، انقسمت من الناحية القانونية، الى قسمين:

أ‌- الجنسية من التبعية العثمانية (التركية)

ب‌- الجنسية من التبعية الإيرانية.

وقد أوجد المحتلون الإنجليز هذا التقسيم، وأقرته الحكومات العراقية المتعاقبة، إذ قرر الإنجليز أن تكون الجنسية العثمانية (التركية) هي الجنسية الأصلية، فيما أضاف حزب البعث تقسيمات جديدة (أ، ب، ج، د) لهذا القانون، تبعاً لأصالة صاحب الجنسية، وفي الدرجة الأخيرة تأتي «شهادة التجنس».

وكان كثير من المسلمين الشيعة العراقيين، منذ نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، أي خلال الاحتلال العثماني للعراق، قد فضلوا التبعية الإيرانية على الجنسية العثمانية، لأسباب عديدة:

أولاً: السبب المذهبي، إذ تنتمي الدولة العثمانية (التركية) إلى المذهب السني والدولة الإيرانية إلى المذهب الشيعي، وذلك بسبب الاضطهاد والتمييز والتهميش الطائفي الذي كان يتعرض له الشيعة على يد الاحتلال العثماني.

ثانياً: السبب السياسي، فقد كانت القنصليات الإيرانية تشجع العراقيين في المدن العراقية المقدسة، ولاسيما أسر الوجاهات الدينية والاجتماعية والمالية، على اكتساب الجنسية الإيرانية، لزيادة عدد الجالية الإيرانية، حتى وصل عدد حملة الجنسية الإيرانية في تعداد العام 1934 الى 6% من عدد سكان العراق.

ثالثاً: التهرب من الخدمة العسكرية، ولعلها أهم الأسباب؛ فقد لجأ كثير من العراقيين الشيعة إلى اكتساب الجنسية الإيرانية للتخلص من الانخراط في صفوف الجيش العثماني ومن ثم العراقي، واستمر هذا الوضع سنين طويلة (16). ومن هنا يمكن بسهولة مشاهدة أسرة يحمل بعض بيوتاتها الجنسية العثمانية والبعض الآخر الجنسية الإيرانية.

وتلاحقت الجوانب القانونية للقضية، بعد أن بادر النظام إلى إصدار مجموعة من القرارات الغريبة التي تتعلق باستثناءات التهجير وحجز العسكريين والشباب وممتلكات المهجرين وغيرها، فوفق قرار وزارة الداخلية (العراقية) السري في 10 نيسان 1980 تم حجز الشباب (18 - 28 سنة)، وكذلك العسكريين بمختلف الرتب، خشية التحاقهم بصفوف المجاهدين العراقيين في إيران، حيث بقي هؤلاء، ويبلغ عددهم 20 ألف شخص تقريباً، معتقلون في سجون النظام. وأحد القرارات البارزة أيضاً في هذا المجال هو قرار الطلاق من الزوجة العراقية من التبعية الإيرانية، إذ نص قرار مجلس قيادة الثورة المرقم (373) في 15 نيسان 1981 على صرف أربعة آلاف دينار للزوج العراقي المتزوج من امرأة من التبعية الإيرانية إذا كان عسكرياً، وألفان وخمسمائة دينار إذا كان مدنياً، في حالة طلاق زوجته أو في حالة تسفيرها إلى ايران.

وتدخل أساليب التهجير أيضاً ضمن الملاحقة القانونية للقضية، فبعد أن أقدمت السلطات على إسقاط الجنسية وشهادة الجنسية، وسحبتهما مع جميع الوثائق العراقية واستولت على أموال وممتلكات المهجرين، لم تمنحهم أية فرصة للتهيؤ لهذا السفر الطويل، ولا حتى ساعة واحدة، إذ تقوم بمهاجمة البيوت بعد منتصف الليل، وخلال دقائق معدودة تخرج العائلة من بيتها صفر اليدين. وبعد عملية الاعتقال - المؤقت - والفرز والتحقيق تنقلهم السلطات بالشاحنات الخاصة إلى الحدود العراقية - الإيرانية، ليبدءوا مسيرهم سيراً على الأقدام ولأكثر من عشر ساعات في أحسن الحالات، تحت رحمة الشمس القائضة أو البرد القارس، فضلاً عن وعورة الطرق الجبلية. وحدث - أحياناً - أن تتم الرحلة في الليل، حيث يعيش المهجرون الرعب في الظلام الدامس والهدوء المخيف المشوب بأصوات الحيوانات البرية أو القصف المدفعي المتبادل بين القوات العراقية والإيرانية. وقد أدى انفجار بعض الألغام المزروعة في الطريق إلى مقتل العديد، كما مات آخرون نتيجة الانهيار العصبي والجسدي، ووضعت الكثير من النساء حملهن في الطريق. والأسوء من ذلك هو تعرض بعض المهجرين - خاصة النساء - إلى حالات السلب والاغتصاب الجنسي والخطف من قبل الأكراد الإيرانيين الموالين لنظام البعث.

3- البعد الاقتصادي لعملية التهجير:

«يبدو أن معظم الذين تم ترحيلهم ينتمون إلى طبقة التجار والميسورين»(17)، هذا ما اعترفت به إحدى مؤسسات الإعلامية البعثية. فترحيل هؤلاء التجار والميسورين ستكون له مردودات اقتصادية كبيرة، منها إيجابي ويعود على النظام العراقي ومنها سلبي ويعود على إيران. فالاستيلاء على جميع ممتلكات المهجرين من أموال منقولة وغير منقولة وشركات ومعامل ومكاتب ومحال صناعية وتجارية وغيرها، سيدر كثيراً على النظام. وبعملية حسابية بسيطة نجد أنّه جنى ما يقرب من مليار دينار عراقي(أكثر من ثلاثة مليارات دولار) من أموال المهجرين.

أما الكسب المالي الكبير الآخر للنظام، فتمثل في الاستيلاء على أموال أكثر من (800) من كبار تجار العراق، معظمهم من تجار بغداد؛ إذ دعتهم السلطة إلى اجتماع أو ندوة مغلقة في بغداد، زعمت أن وزير التجارة سيحضرها، إلاّ أنّ الوزير لم يحضر ولم تنعقد الندوة، بل الذي حضر هم مجموعة من عناصر النظام، قاموا بسحب جميع وثائق هؤلاء التجار، وأركبوهم الحافلات، وقذفوا بهم على الحدود، دون أن يحملوا معهم أي شيء سوى ملابسهم، في حين بقيت عوائلهم في العراق. وإذا عرفنا بأن معدل ما يمتلكه كل واحد من هؤلاء يلغ حوالي نصف مليون دينار، فستكون النتيجة دخول مالا يقل عن (400) مليون دينار(مايقرب من مليار ونصف المليار دولار) في جيب السلطة دفعة واحدة.

2- البعد الاجتماعي لعملية التهجير:

أدى التهجير إلى تمزيق العائلة العراقية وفقدان المجتمع العراقي الشيعي وحدته، فقد بلغ عدد مهجري المرحلة الثانية حوالي (100) ألف عائلة، وهذا يعني أن هناك علاقات عائلية تربطها بعوائل عراقية أخرى ومصاهرات وقرابات مع ما لايقل عن نصف مليون عائلة، فكل المهجرين بقي لديهم في العراق أعمام وأخوال وخالات وعمات وأبناء عمومة وأبناء خؤولة وخالات وعمات، ما يعني أن التهحير تسبب في الحاق الضرر النفسي والاجتماعي بملايين الأشخاص داخل العراق، وليس على مستوى المهجرين الى ايران.

إن التهجير قضية خطيرة وكبيرة للغاية، وليس لها مثيل في العالم على الإطلاق، ولو لم يفعل نظام البعث سواها لوجب تشكيل لجنة دولية موسعة للتحقيق في ممارساته، إلاّ أنّ مآسي العراق الأخرى التي لا تقل حجماً وخطورة، حالت دون بروز قضية التهجير بحجمها الطبيعي، على المستويات المحلية والعربية والإسلامية والدولية.

قرار تطليق المرأة من زوجها

استكمالاً لقرارات التهجير الهمجية؛ أصدر صدام حسين في 15 نيسان 1981 قراره المرقم 474، وهو أغرب قرار تمييزي عنصري في العالم، يعمل على تمزيق الأسرة العراقية، ويحرم الأم من أولادها، إذ يقضي القرار بتطليق الزوج العراقي زوجته العراقية من أصل إيراني، حتى وإن كانت الزوجة تحمل الجنسية العراقية. هذا في جانب الترهيب، أما في جانب الترغيب؛ فإنّ الحكومة ستمنح الزوج مكافأة قدرها 2000 دينار إذا كان الزوج مدنياً، و4000 دينار إذا كان عسكرياً، وذلك وفق ثلاثة شروط:

1- أن يتم الطلاق رسمياً

2- أن يسلم الزوج زوجته المطلقة الى السلطات لتسفيرها الى إيران

3- أن يتزوج الزوج العراقي الطليق من زوجة عراقية جديدة رسمياً.

أما الأطفال، فإنهم يبقون مع أبيهم في العراق، بعد طلاق الزوجة وتسفيرها.

ورغم أن عشرات آلاف العراقيين المتزوجين من عراقيات من أصل إيراني، لم يذعنوا للقرار، وأخفوا عقود زواجهم، بالرغم من خطورة ذلك على حياتهم وحياة أسرهم، إلّا أن الحالات القليلة التي اندفع فيها بعض الأزواج العراقيين، الى تطليق زواجاتهم وتسليمهن الى السلطات لتسفيرهن الى إيران، خوفاً أو طمعاً في المكافأة، تسببت في تمزيق هذه العوائل وحرمان الأولاد من أمهم، وانتحار بعض الأمهات أو إصابتهن بأمراض عقلية.

التحضير للحرب مع إيران

يمكن وصف شهر نيسان 1980 بأنه شهر التحضير الجاد للحرب العسكرية ضد إيران. فخلال نيسان ارتفعت الإعتداءات العسكرية للنظام على ايران الى (28) اعتداءً جوياً وبحرياً وبرياً، وهو رقم غير مسبوق. أما على مستوى استعدادات التسليح، فقد وصل للنظام في نيسان (2000) دبابة سوفيتية من طراز ت ـ 54 و ت ـ 62 و ت ـ 72. وقالت مصادر دولية عسكرية: أن الحكومة العراقية امتلكت قوة ضاربة من الدبابات لخوض حرب خاطفة. وأشارت هذه المصادر الى احتمال شن صدام حسين حرباً على إيران، فقد نشرت مجلة المستقبل (الصادرة في باریس) ثلاثة مقالات خلال هذا الشهر، توقّعت فيها قيام صدام بشن الحرب ضد ايران(19). وعلی المستوی الإعلامي والدعائي، صعّدت وسائل إعلام النظام من هجومها المکثف ضد إيران، وهيّأت الأجواء الرسمية للمطالبة بانسحاب ايران من الأراضي التي ضمت اليها وفق معاهدة الجزائر (1975)، ومن الجزر الثلاث المتنازع عليها مع دولة الإمارات.

وبقدر تعلق الأمر بالعراق؛ فقد تسبب هذه الحرب، التي استمرت ثمان سنوات، في الحاق الدمار بالعراق وشعبه وجيشه، وأدت الى فقدان شباب العراق أرواحهم، والى ملايين الأيتام والأرامل، فضلاً عما تخللته من أعمال قمع وإعدامات واعتقالات لمئات آلاف العراقيين، وهروب ما لايقل عن مليوني عراقي الى خارج العراق، وذلك بسبب جنون العظمة الذي ركب صدام حسين، وجعله يحلم باحتلال المنظقة، بدءاً بإيران.

لقد وضع نظام صدام في نيسان 1980 حجر الأساس لإنهيار العراق ودولته، وتدمير بناه التحتية، وتمزق نظامه الاجتماعي، وقتل مئات آلاف العراقيين في السجون والحروب الداخلية والخارجية، وتراكم الديون على العراق، وارتفاع نسب الأيتام والأرامل ارتفاعاً جنونياً، وصولاً الى انهيار الإقتصاد والعملة العراقية، وتصاعد معدلات الفقر والمرض، بشكل قلً نظيره دولياً.

***

د. علي المؤمن

.......................

الإحالات

(1) تنص المادة 156 من قانون العقوبات العراقي المرقم 111 لسنة 1969على عقوبة الإعدام لمن (ارتكب عمداً فعلاً بقصد المساس باستقلال البلاد أو وحدتها وسلامة اراضيها، وكان الفعل من شانه ان يؤدي الى ذلك).

(2) نشر في جريدة الوقائع العراقية (بغداد)، نيسان 1980

(3) انظر: مجلة ألف باء (بغداد)، 6/4/1980.

(4) للمزيد انظر: د. أبو أحمد الناصري، "قرار إعدام الدعاة من وجهة نظر قانونية"، صحيفة الجهاد (طهران)، العدد 231، العدد 231، 31 / 3/ 1986.

(5) صافيناز كاظم، "يوميات بغداد 1975 – 1980"، ص 25.

(6) انظر: علي المؤمن، "سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق"، ص 122.

(7) المصدر السابق، ص 247.

(8) وهو اليوم الذي شهد انتفاضة جماهيرية في النجف وكثير من المدن العراقية، رداً على اعتقال المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر.

(9) مقابلة مع خالدة عبد القهار (أمينة سر مكتب صدام حسين الخاص) أجرتها معها صحيفة الجهاد (العراقية المعارضة)، العدد 192، 24/6/1985.

(10) علي المؤمن، "سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق"، ص 249.

(11) وهو ابن عم السيد محمد باقر الصدر ووالد السيد محمد الصدر.

(12) مجلة ألف باء، العدد 25، 613/6/1980.

(13) "الصراع العربي الفارسي"، منشورات العالم العربي، ص 27.

(14) عبد المجيد تراب زمزمي، "الحرب العراقية الإيرانية"، ص 57.

(15) "الصراع العربي الفارسي"، ص 27.

(16) للمزيد، انظر: عبد الحسين شعبان، "من هو العراقي؟".

(17) مجلة المستقبل (باريس)، العدد 165، 19/4/1980.

(18) نشر في جريدة الوقائع العراقية (بغداد)، نيسان 1980.

(19) مجلة المستقبل (باريس)، العدد 165، 19/4/1980.

 

في المثقف اليوم